برانكو ميلانوفيتش

اللامساواة تضع الصين أمام خيار شائك

20 شباط 2021

المصدر: Foreign Affairs

02 : 01

أنتج النموذج الصيني من الرأسمالية السياسية نمواً هائلاً وأخرج ملايين الناس من حالة الفقر، لكنه كان السبب أيضاً في تعميق الفجوة بين الأغنياء والفقراء. نتيجةً لذلك، أصبحت اللامساواة نقطة ضعف النظام الصيني كونها تناقض المعتقدات الاشتراكية التي تلوّح بها الحكومة ظاهرياً وتُضعِف التعاقد الضمني بين الحكّام والمحكومين. تستنزف اللامساواة الثقة التي اعتبرها كونفوشيوس أهم من الغذاء  لضمان الحُكم الرشيد. لمعالجة هذه المشكلة، لا بد من فهم مصدرها ونطاق تأثيرها. لكن لا تكون هذه المهمة سهلة دوماً في الصين. تبدو مظاهر اللامساواة الصينية للوهلة الأولى أشبه بنتيجة متوقعة للنمو المتسارع والتحضّر. لكن تتخذ جوانب من توزيع الثروات والمداخيل في هذا البلد بُعداً أكثر دقة، فهي تشتق من الرابط القائم بين القوة الاقتصادية والسياسية داخل النظام الصيني وتثبت أن القيادة الصينية تواجه خياراً صعباً حول كيفية كبح القوة المتزايدة للنخبة الجديدة.

خلال فترة الخمسينات والستينات، اعتبر خبير الاقتصاد الأميركي سايمون كوزنيتس أن الأنظمة الاقتصادية التي تنتقل من الزراعة إلى الصناعة، أو من الأرياف إلى المدن، تشهد توسعاً في مظاهر اللامساواة عموماً لأن سكان المدن يكسبون مداخيل أعلى من غيرهم ويستطيعون الاختيار بين وظائف برواتب متنوعة مقارنةً بالعاملين في الزراعة. حين ينزح العمال الريفيون إلى المدن، يوافقون على العمل مقابل أجرة ضئيلة فيستفيد أرباب العمل وتترسخ مظاهر اللامساواة. لكن لن تستمر هذه الظروف إلا إذا بقيت اليد العاملة الريفية المستعدة للتوجه إلى المدن مقابل أجر ثابت نسبياً غير محدودة. وحين تتلاشى تلك الأعداد، تبدأ الأجور الشائبة بالارتفاع وتتراجع مظاهر اللامساواة.

لكن إذا كان التحضّر السبب الذي يفسّر مسار الصين، يمكن القول إن هذا البلد تجاوز المنحنى الذي تكلم عنه كوزنيتس حين تراجعت مظاهر اللامساواة فيه في بداية القرن الواحد والعشرين. وفي هذه الحالة، تصبح تجربة الصين مختلفة لأن السياسات الماوية أنتجت درجة متدنية جداً من اللامساواة في المراحل الأولى. ثم شهد البلد نمواً متسارعاً جداً في المرحلة اللاحقة، ما دفع الصين إلى تجاوز منحنى كوزنيتس على مر جيلَين بدل أن تحتاج إلى قرن أو أكثر كما حصل في دول أخرى.

لكنّ هذا النموذج لا يختصر التجربة الصينية كلها. فقد أثّرت خصائص محددة من النظام السياسي والاقتصادي في الصين على مستوى اللامساواة هناك، بما في ذلك التفاوت البارز بين المقاطعات وبين المناطق الريفية والمدن. في العام 2019 مثلاً، بلغ فارق الدخل بين أغنى ثلاث مقاطعات وأفقر ثلاث مقاطعات 4 إلى 1. تدخل مدينتا بكين وشنغهاي في خانة المقاطعات قانونياً، لكن حتى لو حذفناهما من هذه المعادلة، سيبقى الفارق 3.5 إلى 1. في المقابل، يساوي هذا المعدل بين الولايات الغنية والفقيرة في الولايات المتحدة 2 إلى 1.

على صعيد آخر، أصبحت الفجوة بين المداخيل واسعة جداً في الصين لدرجة أن يوحي توزيع المداخيل في المدن والأرياف بأنه يعود إلى بلدَين مختلفَين. يَحِدّ نظام "هوكو" لتسجيل العمال من الحركة بين المدن والقرى، وهو يفسّر جزئياً هذا المستوى من اللامساواة. قارنت إحدى الدراسات بين مظاهر اللامساواة في الصين والولايات المتحدة وكشفت أن 22% من اللامساواة الصينية تنجم عن عاملَين "بنيويَين"، أي اللامساواة بين المقاطعات وبين الأرياف والمدن، علماً أن أهميتهما في الولايات المتحدة تقتصر على 2% من النتيجة النهائية. تضيف هذه العوامل البنيوية أو الجغرافية عمقاً جديداً إلى مشكلة اللامساواة في الصين.

الفساد والحزب الحاكم

على غرار عدد كبير من الدول الأخرى، لا تُعتبر اللامساواة في الصين بنيوية بطبيعتها فحسب بل إنها سياسية أيضاً. فهي ترتكز على الفساد الذي ينتج أكبر الأرباح لكل من يكسب كميات طائلة من الأموال عبر الابتزاز، وعلى عضوية الحزب الشيوعي الصيني التي تضمن مداخيل هائلة. لم تخضع هذه العوامل للدراسة بقدر المعطيات الجغرافية، لكنّ البيانات المرتبطة بها موجودة: في العام 2012، أطلق شي جين بينغ حملة لمكافحة الفساد، مع الحرص على جمع ونشر تفاصيل القضايا، بما في ذلك المبالغ التي تم اختلاسها ومدة النشاطات غير القانونية وعدد المتورطين فيها. استناداً إلى هذه المعلومات، يمكن احتساب الأموال المُختلسة على مستويات إدارية مختلفة في نظام الحُكم. كذلك، تُميّز تلك البيانات بين المسؤولين العاملين في الحكومة والشركات والناشطين داخل جهاز الحزب الشيوعي الصيني.

تكشف هذه البيانات أن المكاسب غير المشروعة تزداد طبعاً كلما ارتفع المستوى الإداري للمرتكبين: يكون الفساد إذاً الأقل ربحاً في المقاطعات والأكثر ربحاً في الدوائر الإدارية الكبرى. وعلى جميع المستويات، يكسب المسؤولون في الحزب الشيوعي الصيني أموالاً غير مشروعة أكثر من العاملين في الحكومة أو الشركات. يساوي متوسط المبالغ التي يسرقها المسؤولون في الحزب على مستوى المحافظات حوالى ثلاثة أضعاف الأموال المسروقة من المسؤولين الحكوميين "العاديين".

تنطبق هذه القاعدة المزدوجة على جميع أشكال الفساد، ما يعني أن الفساد ينتج أموالاً إضافية في أعلى المناصب الإدارية وأن المسؤولين في الحزب الشيوعي الصيني يختلسون أكبر المبالغ على جميع المستويات. يكشف هذا الوضع أن المداخيل المشتقة من الفساد تجعل عدم المساواة في الدخل أسوأ مما تشير إليه التقارير. في هذا السياق، يظن العالِم السياسي يوان يوان أنغ أن أشكالاً معينة من الفساد في الصين تضمن تحقيق النمو لأنها تُسرّع صناعة القرار محلياً (بشأن مشاريع البنى التحتية الكبرى مثلاً) وتعطي المسؤولين حافزاً إضافياً لاستيعاب الشركات. لكن رغم الجوانب الصحيحة في هذه الفرضية، قد يُضعف الفساد أيضاً النظام السياسي عبر تأجيج ما يُسمّى "اللامساواة الظالمة"، إذ يلاحظ الناس العاديون أن أصحاب المعارف السياسية يغتنون فجأةً.

بعبارة أخرى، يشتق معظم أعضاء الحزب الشيوعي الصيني حتى الآن من الجماعات الاجتماعية "القديمة"، لكن ينحدر أغنى أعضائه من الطبقات الاجتماعية "الجديدة". بدأت هذه الفئات تبتعد بشكلٍ متزايد عن بقية أعضاء الحزب. وبرأي أعضاء النخبة، تكون عضوية الحزب الشيوعي الصيني مربحة جداً: بعد مراعاة جميع المتغيرات المؤثرة، تبيّن أن عضوية الحزب الشيوعي الصيني ترتبط بمدخول مهم من الناحية الإحصائية لأصحاب المقتنيات في القطاع الخاص حصراً. إما أن يقرر أعضاء الحزب النافذون سياسياً أن ينتقلوا إلى القطاع الخاص أو تقتنع المجموعات التي تغتني بشكلٍ مستقل بأهمية تعزيز قوتها الاقتصادية عبر الانتساب إلى الحزب الحاكم. يلتقي النفوذ السياسي بالقوة الاقتصادية في هذه الحالة لتشكيل نخبة تفرض سيطرتها على المجالَين معاً.



مزارع في كسينتاوو، الصين



تقييد الأوليغارشية

يمكن اعتبار الفساد جزءاً لا يتجزأ من أنظمة الرأسمالية السياسية. لكنه يُهدد شرعية تلك الأنظمة في الوقت نفسه لأنها تكتسب شعبيتها بناءً على وعود تحقيق الازدهار وتوفير مداخيل متساوية للجميع. لهذا السبب، من المنطقي أن تطلق هذه الدول حملات لمكافحة الفساد من وقتٍ لآخر، إذا كان قادة البلد يتمتعون بالنفوذ السياسي الكافي لاتخاذ خطوة مماثلة.

يحمل التناقض بين الصين وروسيا دلالة كبرى في هذا السياق. أدت حملة غير سياسية لمكافحة الفساد إلى تحوّل ألكسي نافالني إلى أبرز خصم واجهه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الإطلاق. من الواضح أن أي جهود لمكافحة الفساد ستحظى بتأييد واسع في روسيا. لكن على عكس شي جين بينغ، لا يستطيع بوتين أن يطلق حملة مماثلة خوفاً من اختلال التوازن الهش بين الأوليغارشيين. يبدو موقف شي جين بينغ أفضل من بوتين نظراً إلى حجم النفوذ الذي يفرضه على الحزب الشيوعي الصيني ولطالما حَكَم البلد تاريخياً. قد تكون النفعية السياسية جزءاً من الدوافع الكامنة وراء تصرفات الرئيس الصيني، لكن تبقى حملة مكافحة الفساد الكبرى حقيقية لأن استئصال الفساد يفيده في نهاية المطاف كونه يؤكد على شرعية النظام والترتيبات الاقتصادية التي يطبّقها أمام الرأي العام.

لكن قد تواجه حملات مكافحة الفساد مستقبلاً عائقاً أكثر قوة. بدأت القوى السياسية والاقتصادية تندمج لإنشاء نخبة سياسية اقتصادية هجينة ويصعب تفكيكها بعد ترسيخ مكانتها. لن تهتم تلك النخبة على الأرجح بالحد من مظاهر الفساد، ما يعني أنها لن تدعم حملات مكافحة الفساد طبعاً. يتّضح في هذا المجال التناقض الكامن في الجهود الرامية إلى كبح الفساد داخل نظام الحزب الواحد. ينتج أي نمو قوي في القطاع الخاص طبقات اجتماعية جديدة، كما حصل في الصين. وللتكيف معها، تدعوها الحكومة إلى المشاركة في الحياة السياسية عبر الانتساب إلى الحزب الحاكم. لكن سرعان ما تتحول تلك الجماعات إلى طبقة عليا تتمتع بنفوذ سياسي واقتصادي في آن وتصبح منفصلة عن بقية شرائح المجتمع وعن أبرز أعضاء الحزب الشيوعي الصيني. كيف يمكن السيطرة على نفوذ هذه النخبة؟ ما لم تحصل أي انتخابات، لا يمكن التحكم بها إلا عبر سلطة مركزية مستقلة وأعلى مرتبة منها. تبرز الحاجة إذاً إلى قوة مطلقة تكمن في الأوساط الضيقة لكبار المسؤولين المتمسكين بخلفيتهم في الحزب الشيوعي الصيني والحكومة. تستطيع هذه القوة الاستبدادية أن تكبح المساعي المفرطة التي تبذلها النخبة لكسب الأرباح المادية، حتى أنها قد تقضي عليها. باختصار، باتت الصين مضطرة للاختيار بين وجهتَين: الأوليغارشية أو الاستبداد.