آنا أروتونيان

روسيا لن تنظر إلى الولايات المتحدة بالطريقة نفسها مجدداً

4 آذار 2021

المصدر: Foreign Affairs

02 : 01

شَهِد شهر كانون الثاني احتجاجات عنيفة في واشنطن وموسكو معاً. اقتحم مناصرو الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب مبنى الكابيتول قبيل تنصيب الرئيس المُنتخب جو بايدن، وتظاهر خصوم الرئيس فلاديمير بوتين ضد اعتقال زعيم المعارضة ألكسي نافالني في روسيا. الوضع عبارة عن فوضى وغضب واعتقالات: كان المشهدان متشابهَين، حتى أن اللغة المستعملة للتعليق على الأحداث كانت متقاربة، فقد وصفت وسائل الإعلام الموالية للكرملين الاحتجاجات بـ"محاولة التمرد". لكن بعيداً عن هذه المقارنة السطحية، تقف نقاط التشابه عند هذا الحد. حاولت الاحتجاجات الروسية ترسيخ حُكم القانون، بينما أراد الأميركيون الإطاحة به!

انتشرت مشاهد أعمال الشغب في مبنى الكابيتول على الشاشات الروسية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فانهارت بذلك خرافة التفوق الأميركي الأخلاقي. بدا وكأن هذا الحدث جاء ليبرر موقف الكرملين الذي يعتبر الولايات المتحدة دولة منقسمة وعنصرية ومنافقة. بعدما استعمل ضباط الشرطة أسلوب القمع العنيف ضد المحتجين الداعمين لحركة "حياة السود مهمة" منذ أشهر في مختلف المدن الأميركية، ها هم يقفون جانباً الآن ويسمحون لمناصري ترامب الهمجيين باقتحام مبنى الكابيتول.

كان متوقعاً أن تدفع هذه التطورات بالمسؤولين الروس ووسائل الإعلام الروسية إلى الشماتة بالأميركيين. لكن من اللافت ألا يبالي المسؤولون في أعلى مراتب الحكومة الروسية بما حصل. التزم بوتين الصمت عموماً بشأن العملية الانتقالية الأميركية. وفي يوم تنصيب بايدن، أصدر الكرملين بياناً يذكر فيه أنه "لم يكن يستعد لحفل التنصيب ولن يتغير شيء بالنسبة إلى روسيا؛ البلد قائم منذ مئات السنين وسيبقى كذلك". للمرة الأولى منذ عقود، أعلنت موسكو عبر هذا الموقف أنها لا تهتم بما تفعله الولايات المتحدة أو تفكر به.

حين طُلِــــب مـــن كونستانتين كوساتشيـــــــف، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الروسي، أن يُعلّق على أعمال الشغب على التلفزيون الروسي، اعتبر الحكومة الأميركية منفصلة عن المجتمع والديموقراطية الأميركية مفككة. ونشر فياتشيسلاف فولودين، رئيس البرلمان الروسي والمهندس النافذ للسياسة المحلية، تصريحاً يقول فيه إن المعايير "المفروضة من الولايات المتحدة" يجب أن يُعاد تقييمها بناءً على الأحداث الأخيرة في واشنطن. كتب فولودين: "النظام السياسي الأميركي ليس منغلقاً فحسب، بل إنه عالق في المكان نفسه منذ سبعين سنة تقريباً. يحتكر حزبان السلطة هناك ولا يسمحان بظهور أي قوى سياسية أخرى لأداء دور مؤثر". ثم ختم كلامه بدعوة الولايات المتحدة إلى إصلاح أمورها الخاصة وبناء سياستها الخارجية على أساس مبدأ عدم التدخل في شؤون الدول المستقلة الأخرى.

كان فولودين محقاً من ناحية معينة. لا داعي لتصديق نظريات المؤامرة حول إقدام "الدولة العميقة" على سرقة الانتخابات من ترامب للتفكير باحتمال ألا تكون الأزمة السياسية في الولايات المتحدة مجرّد نتيجة للتدخل الروسي في العام 2016، أو أن يكون ترامب جزءاً من أعراض صراع اجتماعي عميق بقدر ما كان سبباً له، أو الاقتناع باستحالة أن تعود العلاقات الأميركية الروسية إلى ما كانت عليه قبل عهد ترامب بكل بساطة.

حتـــــى المعارضة الروسية شـــككت بمحاولات لوم ترامب وظاهرة "الترامبية" على كل ما يحصل. يبقى مصطلح "المعارضة المواليــــة للغرب" مُضلِّلاً عند تطبيقه على الحركات المعادية للحكومات في بيلاروسيا وأوكرانيا، ولا معنى له عند تطبيقه على حركات مماثلة في روسيا. لم يعد خصوم الكرملين يلوّحون بولائهم الشامل للغرب. ولم يعد مؤيدو الغرب من الداعمين للولايات المتحدة بالضرورة.

فيما تحاول إدارة بايدن دعم خصوم الكرملين، قد تدرك في مرحلة معينة أنها تؤذيهم أكثر مما تفيدهم. تتهم الحكومة الروسية خصومها السياسيين بالتآمر مع قوى عدائية منذ وقت طويل. لذا سيستعمل الكرملين أي دعم أميركي لنافالني ومناصريه وشخصيات معارِضة أخرى كي يثبت أنهم عملاء للأميركيين ويبرر بذلك تكثيف حملة القمع.

قد ترتكز أي سياسة أميركية واعدة تجاه روسيا على المصالح بدل المُثل العليا. طوال سنوات، كانت "تعددية الأقطاب" الكلمة المفتاح بين الديبلوماسيين وصانعي السياسة في موسكو: إنه النظام الدولي الذي لم يعد يتكل على قوة عظمى واحدة. يحاول الكرملين الاستفادة من عالم ناشئ ومتعدد الأقطاب عبر التعامل مع شركاء براغماتيين وعابرين بدل الحلفاء الإيديولوجيين. ولا تبحث موسكو عن أي قيم متشابهة، بل تسعى إلى إيجاد مصالح مشتركة في مجالات التجارة أو الأمن أو أي قطاع آخر.

حين يشعر الكرملين بأن النظام متعدد الأقطاب، أي نطاق نفوذ موسكو الإقليمي، أصبح مُهدداً، سيعمد دوماً إلى التصرف بعدائية (أو بطريقة غير قانونية أحياناً) كي يثبت أن واشنطن لم تعد القوة الوحيدة القادرة على فرض سيطرتها من دون محاسبة. لكن على عكس الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة، لا تريد روسيا اليوم أن تصبح بديلة عن الولايات المتحدة كقوة مُهيمِنة سياسياً أو أخلاقياً، بل إنها ترغب في إضعاف واشنطن بكل بساطة.

حين تتدخل روسيا خارج حدودها، هي لا تسعى بذلك إلى تحسين رؤيتها عن العالم بل تحاول تحقيق مصالحها الوطنية. ربما يظن الكرملين أن الولايات المتحدة تحمل الدوافع نفسها نتيجة هذه الرؤية العالمية المبنية على المصالح الذاتية. قد تخفي واشنطن نواياها الحقيقية وراء شعارات الحرية والحقوق العالمية والديموقراطية، لكنّ الكرملين لا يزال يعتبر السياسة الخارجية الأميركية انعكاساً لسياسته الخاصة.

قال بايدن في خطاب تنصيبه إن الولايات المتحدة لن تقتدي بالقوة الأميركية بل ستتكل على قوة النموذج الأميركي. لكن عن أي نموذج يتكلم بايدن فعلياً؟ في سوريا مثلاً، شاهدت روسيا تدخلاً أميركياً شائباً. في المقابل، تظن موسكو أنها احتكمت إلى منطق قانوني وعملي لدعم الرئيس السوري بشار الأسد: هي لم تؤيده منذ البداية لأنه رجل صالح يخدم شعبه، بل لأنه الزعيم الحاكم وحليف روسيا ويسمح لموسكو بالوصول إلى قاعدة بحرية مهمة.

يواجه بايدن مصاعب أخرى محلياً. قد تغزو روسيا الدول المجاورة لها وتُسمّم خصومها السياسيين، لكن لا قيمة للتنديدات الأميركية برأي موسكو بعد الوحشية التي تعاملت بها الولايات المتحدة مع الأميركيين السود. من وجهة نظر الكرملين، لا يحق لواشنطن أن تَعِظ غيرها ولا يصــدّق القادة الأميركيـون ما يقولونه أصلاً.

من الأفضل إذاً أن توافق واشنطن على توسيع هامش تعددية الأقطاب وتُخفف وقع الانتقادات العامة تجاه بوتين مقابل تكثيف الجهود الديبلوماسية الخاصة. قد لا تكون روسيا مستعدة لسماع الولايات المتحدة، لكن يتواصل آخرون، منهم حلفاء للأميركيين، مع الكرملين بسهولة. قد تصبح ألمانيا مُحاوِرة أكثر فعالية مع موسكو كونها شريكة كبرى لروسيا في مجال الطاقة ووسيطة مهمة في الصراع الأوكراني. تنطبق هذه الصفات أيضاً على كندا أو الدنمارك أو النروج. هذه الدول منتسبة إلى "مجلس القطب الشمالي"، ما يعطيها شكلاً من النفوذ في موسكو فيما تحاول هذه الأخيرة تطوير منطقة "أقصى الشمال". باختصار، يكثر حلفاء واشنطن القادرون على التحاور مع روسيا والتفاهم معها. بدل أن تُصرّ واشنطن إذاً على دورها القيادي، يمكنها أن تعقد شراكات مع هؤلاء الحلفاء أو تدعمهم بكل بساطة فيما يحاولون التأثير على موسكو في المجالات التي تحمل مصالح مشتركة لهذه الأطراف كلها.

يجب أن يتخلى صانعو السياسة الأميركية عن توقعاتهم غير الواقعية بشأن قدرتهم على تغيير الثقافة السياسية الروسية ويتقبلوا الفكرة القائلة إن التغيير الحقيقي يحصل تدريجاً من داخل البلد وبإيقاعه الخاص. قد يبدو التصدي لانتهاكات السلطة نهجاً صائباً لكن ترافقت العقوبات الأميركية، مثل قانون ماغنيتسكي، مع نتائج عكسية، ما دفع روسيا إلى وقف التحقيقات التي كانت لتؤدي مثلاً إلى توسيع نطاق محاسبة المرتكبين. قد لا تبدو هذه النصيحة مناسبة بعد اعتقال نافالني وحملة موسكو القمعية ضد مناصريه. لكن يجب أن يتساءل صانعو السياسة الأميركية حول قدرة العقوبات أو الضغوط أو الشعارات الأخلاقية على مساعدة نافالني ومؤيديه أو إيذائهم. في معظم الأحيان، تهدف هذه المبادرات إلى إثبات الفضائل الأميركية بدل مساعدة الروس على الدفاع عن أنفسهم. لهذا السبب، يجب أن تحاول إدارة بايدن تطبيق أكثر الحلول فعالية بدل التمسك بأفضل الأفكار.

قد يبدو المشهد متشابهاً في روسيا والولايات المتحدة نظراً إلى تصاعد الاضطرابات السياسية وتلاشي النفوذ. لكن يكمن الفرق في اهتمام روسيا بمصالحها الخاصة حصراً، بينما لا تزال الولايات المتحدة مقتنعة بقدرتها على نشر الخير في العالم (ربما تغيرت هذه القناعة في عهد ترامب لكنها عادت إلى الواجهة في عهد بايدن الآن). تريد واشنطن أن تتصدى لتدخّل روسيا في الخارج وتوقف انتهاكاتها بحق الخصوم السياسيين محلياً، ولا يمكن اعتبارها عاجزة بأي شكل في هذه المسائل. لكن حين تعترف الولايات المتحدة بأنها لم تعد تتمتع بالمكانة الأخلاقية الاستثنائية نفسها برأي روسيا، أو تعجز عن ادعاء هذه المكانة بعد الآن، ستتمكن من تعديل طريقة تعاملها مع موسكو وتغيير أسلوب حوارها وتحسين نتائج سياستها.


MISS 3