ألكسندر فيندمان

العالم بحاجة إلى مبادئ ديمقراطية للذكاء الاصطناعي

6 آذار 2021

المصدر: The Diplomat

02 : 01

يشمل الذكاء الاصطناعي مجموعة غير محدودة من الاحتمالات، ويبدو اندماجه السريع مع مختلف جوانب الحياة البشرية واعداً على جميع المستويات. لكنه قد يصبح في المقابل قوة تخريبية تُهدد بزعزعة ميزان القوى العالمي والمبادئ التأسيسية للديمقراطية بحد ذاتها.

إتّضحت عواقب التقنيات التخريبية التي تفتقر إلى المبادئ التوجيهية حين ظهرت الآثار العميقة للابتكارات التكنولوجية الجديدة، مثل تشويه منصات مواقع التواصل الاجتماعي لنشر معلومات مُضللة تؤثر على مصداقية الديمقراطية الأميركية. لحماية الديمقراطية من عواقب الذكاء الاصطناعي غير المتوقعة ومنع الدول الاستبدادية من تغيير استعمالات التكنولوجيا، يجب أن تتبنى الحكومة الأميركية وقطاع التكنولوجيا عموماً مبادئ أساسية لتوجيه مسار تطور الذكاء الاصطناعي.

قوى استبدادية كبرى تستغل الذكاء الاصطناعي

سبق واتّضحت أسوأ عواقب استغلال الذكاء الاصطناعي المتعمد من جانب القوى الاستبدادية في منطقة "شينجيانغ" الإيغورية ذات الحُكم الذاتي. تتعرض الثقافة والهوية الإيغورية هناك لتفكيك منهجي على يد الحكومة الصينية بفضل أنظمة مراقبة متطورة ومُدعّمة بالذكاء الاصطناعي. تتوق الصين إلى تصدير هذه الأدوات القمعية وتؤمّن تقنيات المراقبة بكلفة متدنية لصالح مجموعات كبيرة من البلديات والحكومات الوطنية، بما في ذلك الدول الديمقراطية المتقدمة. كذلك تستغل الصين، وبدرجة أقل روسيا، الذكاء الاصطناعي لتطوير نظام استخباري جديد وسريع، وإطلاق حملات تضليل مستهدفة، وابتكار قدرات عسكرية تطرح تهديدات جديدة على الولايات المتحدة وحلفائها والديمقراطية في كل مكان.

في العام 2017، أعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ أن الصين تريد أن تصبح أول مركز لابتكار الذكاء الاصطناعي في العالم بحلول العام 2030، وذكر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن البلد الرائد في مجال الذكاء الاصطناعي هو الذي سيحكم العالم. أنفق الزعيمان منذ ذلك الحين المليارات لتطوير الذكاء الاصطناعي. اكتسبت الصين تحديداً الهالة اللازمة لضمان تفوّقها في هذا القطاع عبر صقل تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي وتطبيقها على عمليات القمع الجماعي والتجسس.

تستطيع الصين وروسيا أن تنقلا كمية هائلة من البيانات عن الأفراد والشركات إلى مشاريع الذكاء الاصطناعي لأنهما بلدان غير ليبراليّين. ويستطيع مصممو الذكاء الاصطناعي الصينيون الوصول إلى العائدات الضريبية والسجلات الإجرامية الخاصة بالمواطنين، حتى أنهم قد يطّلعون على سجلاتهم الطبية، وفحوصاتهم الجينية الإلزامية، وبياناتهم المصرفية، وتاريخ مشترياتهم، واتصالاتهم عبر الأجهزة الإلكترونية، وبيانات تحركاتهم المشتقة من أجهزة شخصية مزوّدة بنظام تحديد المواقع العالمي وبأنظمة مراقبة مُدعّمة بالذكاء الاصطناعي. بالإضافة إلى المعلومات المرتبطة بالمواطنين، تستخرج عمليات التجسس التي ترعاها الدولة بيانات حساسة أيضاً من الشركات الدولية التي تتعامل مع الصين. تتراجع أعداد أجهزة الاستشعار المماثلة في روسيا، لكن تسمح قوانين حماية البيانات الشائبة ومظاهر الفساد للشركات الروسية بالحصول على كميات هائلة من البيانات الشخصية.

الولايات المتحدة...

أبرز جهة رائدة في الذكاء الاصطناعي حتى الآن!البيانات جزء لا يُقدَّر بثمن من الأحجية العامة. لكنّ تصميم الذكاء الاصطناعي يُعتبر فناً يحتاج إلى الابتكار البشري. لن يكون تأمين التمويل واليد العاملة لإتمام هذه المهام كافياً من أجل إنتاج أنظمة حلول حسابية مبتكرة تمهيداً لتحقيق الإنجاز المقبل في مجال الذكاء الاصطناعي. رغم استثمارات الصين في أبحاث الذكاء الاصطناعي المتقدمة، لا تزال أهم المهارات القادرة على إحراز التقدم في هذا المجال تتجه نحو الولايات المتحدة. تنتج الصين والولايات المتحدة العدد نفسه تقريباً من الباحثين في قطاع الذكاء الاصطناعي سنوياً، لكن يقرر معظم المبتكرين في هذا المجال، بمن فيهم الصينيون، أن يدرسوا ويعملوا في الولايات المتحدة.

تكمن المفارقة في إقدام الصين على استعمال أنظمة المراقبة المُدعّمة بالذكاء الاصطناعي للسيطرة على المجتمع، لكنها تُرسّخ بذلك بيئة اجتماعية وسياسية قد تعيق الحريات التي تضمن تعزيز الابتكار. قد ينجح التمويل الحكومي المفرط في تجاوز المشكلة بدرجة معيّنة، لكن تكون المبالغ المالية الهائلة معرّضة للفساد وتغفل عن الاكتشافات التكنولوجية العفوية أو تعيقها أحياناً.

إبتكار مدعوم بالقيم الديمقراطية

ساهمت الشركات والرساميل الأميركية للأسف في تمكين الصين وتشجيعها على استعمال الذكاء الاصطناعي لتحقيق غاياتها القمعية. تتكل الصين في الوقت الراهن على الولايات المتحدة ودول ديمقراطية أخرى لتلقي الرقائق الدقيقة المتقدمة التي تضمن فاعلية أنظمة الحلول الحسابية. يُعتبر مركز "أورومتشي" للحوسبة السحابية محور عمليات المراقبة العاملة بالذكاء الاصطناعي في "شينجيانغ"، وهو يتكل في عمله على الرقائق الدقيقة التي تنتجها شركات أشباه الموصلات الأميركية الرائدة. كذلك، كانت الشركات الأميركية جزءاً من أكبر المستثمرين في شركة "ساينس تايم" الرائدة في مجال هندسة البرمجيات والمسؤولة عن إنتاج شبكات المراقبة العاملة بنظام الذكاء الاصطناعي. يجب أن تُنسّق الولايات المتحدة ضوابط التصدير والعقوبات المرتبطة بانتهاك حقوق الإنسان مع حلفائها لحرمان الأنظمة الاستبدادية من تلقي تلك الموارد وإبطاء ظاهرة الاستبداد الرقمي المُدعّم بالذكاء الاصطناعي موقتاً. قد تترافق ضوابط التصدير والعقوبات مع عواقب معينة، لكنها ضرورية لمنع تورط الجهات الأميركية بانتهاكات حقوق الإنسان.

إذا أرادت الحكومة الأميركية أن تحافظ على تفوقها وتدعم نشوء بيئة ديمقراطية في قطاع الذكاء الاصطناعي، يُفترض أن تضاعف استثماراتها في ابتكارات الذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة والدول الحليفة لها لحل المشاكل العامة وتحسين الدفاعات ضد التقنيات غير الليبرالية. في منتصف القرن العشرين، موّلت الولايات المتحدة أكثر من ثلثَي مشاريع الأبحاث والتطوير العالمية. أما اليوم، فهي تُموّل أقل من ثلثها. لتغيير هذه النزعة، يجب ألا تكرر الحكومة الأميركية الاستراتيجية الاستثمارية الصينية التنازلية التي تكبح الابتكار وتعزز مظاهر الفساد. بل يُفترض أن تُموّل مراكز الأبحاث والتطوير في الجامعات وتُوسّع الشراكات بين القطاعَين العام والخاص والحكومة القائمة، لتحويل برامج نقل التكنولوجيا إلى سلع تجارية، محلياً وخارجياً. في جميع هذه الشراكات، يجب أن تُشدد الحكومة وقطاعات التكنولوجيا على المبادئ الديمقراطيــــة من خلال التركيز على حماية خصوصية البيانات، والحريات الفردية، وحقوق الإنسان.

على المستوى المحلي، يجب أن تنشئ الحكومة الأميركية "سحابة بحث وطنية" لمنح الباحثين الأكاديميين في مجال الذكاء الاصطناعي قوة محوسبة مقبولة الكلفة، ولتسهيل حصولهم على قواعد بيانات كبرى ضمن بيئة سحابية آمنة. ستسمح أي مبادرة مماثلة بإضفاء طابع ديمقراطي على أبحاث الذكاء الاصطناعي وتسريع تدريب الجيل الجديد من العلماء في هذا القطاع. في الخارج، تستطيع "مؤسسة تمويل التنمية الدولية" الأميركية أن تقدّم القروض لدعم الشركات والحكومات، كتلك الناشطة في "تالين"، عاصمة إستونيا، إذ يجري العمل هناك على تطوير بدائل ديمقراطية محلية عن الذكاء الاصطناعي الصيني والروسي.

لتسهيل تدفق المهارات العالمية بوتيرة متواصلة، يجب أن تُحسّن الحكومة الأميركية إجراءات نيل الجنسية والإقامة للمبتكرين الموهوبين في مجال الذكاء الاصطناعي وقطاعات أساسية أخرى، لا سيما الأجانب الذين يدرسون في الولايات المتحدة، كي لا يحملوا خبراتهم الجديدة ويعودوا إلى ديارهم بعد تخرّجهم.

"قوانين" ديمقراطية لتطوير الذكاء الاصطناعي

نظراً إلى التداعيات المخيفة التي يسببها سوء استخدام الذكاء الاصطناعي، يشكك قطاع التكنولوجيا بالبرامج التي تقودها الحكومة. لكن بدأ هذا القطاع يتخبط بكل وضوح، فقد أدت التكنولوجيا المستعملة على مواقع التواصل الاجتماعي وحملات التخريب الرقمية إلى تشويه الديمقراطية وإضعافها. كذلك، قد تبرز مخاطر أخرى نتيجة السماح بتطوّر تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي من دون أي مبادئ توجيهية واضحة. في ظل سباق التسلح التكنولوجي المنفلت مع الصين، قد تنزلق الولايات المتحدة وتواجه الوضع الذي تسعى إلى احتوائه. لهذا السبب، يجب أن تكون الأخلاقيات من أبرز الاهتمامات في مجال تطوير الذكاء الاصطناعي. بعد القرار المثير للجدل في كانون الأول 2020 بطرد تيمنيت جبرو، واحدة من أبرز الباحثين المتخصصين بأخلاقيات الذكاء الاصطناعي في شركة "غوغل"، ثم طرد باحثة أخرى متخصصة بالمجال نفسه من الشركة في الأسبوع الماضي، وهي مارغريت ميتشيل، اتضحت الحاجة إلى توسيع هامش الشفافية في قطاع التكنولوجيا.

تستطيع الحكومة الأميركية أن تتخذ الخطوة الأولى لزيادة الثقة بالشراكات القائمة بين القطاعَين العام والخاص عبر تحديث أُطُر العمل القانونية والتنظيمية لحماية الحريات المدنية. كذلك، يستطيع هذا القطاع أن يزيد تكاتفه لتنظيم نفسه بفاعلية. نشر مؤتمر "أسيلومار" حول الحمض النووي المؤتلف توجيهات أولية بشأن الأبحاث الأخلاقية المرتبطة بالهندسة الوراثية، ثم عادت تلك النقاط وتحولت إلى إرشادات تتبناها "المعاهد الوطنية للصحة"، ويمكن اعتبارها سابقة مهمة لتعزيز التعاون في هذا القطاع.

على صعيد آخر، تستطيع الدول الديمقراطية أن تتعاون لدعم الذكاء الاصطناعي الديمقراطي. سبق وبدأت منظمات مثل اليونسكو ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والمفوضية الأوروبية، نقاشات حول الذكاء الاصطناعي المفيد والمعايير الأخلاقية. تستطيع الولايات المتحدة بدورها أن تدعم هذه الجهود وتُروّج لمفهوم الذكاء الاصطناعي الديمقراطي عبر إضافته إلى أجندة قمة الديمقراطية التي تقودها واشنطن. من خلال أداء دور رائد في هذا المجال، قد تسهم الولايات المتحدة في تقليص العواقب السلبية وغير المقصودة وتبتكر تكنولوجيا تنعكس إيجاباً على الازدهار والحرية والأمن الجماعي.

على غرار مبتكري مجال الطاقة النووية في القرن العشرين، يجب أن تتقاسم الحكومات والقطاعات التكنولوجية المسؤولية لتحديد مبادئ أخلاقية أساسية تسمح بتوجيه مسار أي تكنولوجيا تخريبية متوقعة. باختصار، يجب أن يستبق مهندسو الذكاء الاصطناعي المشاكل ويطوّروا "قوانين" واضحة للتحكم بالذكاء الاصطناعي الناشئ.


MISS 3