عائشة حبلص

لا رادع إلا القانون

12 آذار 2021

02 : 00

قضيّة رأي عام يتوجّب على الجميع تحمّل الـمسؤوليّة

أمام ما نشاهده من ممارسات عنيفة، وسلوكيّات مقلقة من الـمعنّف، في الـمجتمع اللّبناني، وفي ظل تقارير المنظمات غير الحكومية والقوى الأمنية التي تشير إلى تصاعد حالات القتل التي تتعرض لها النساء في لبنان في وتيرة مخيفة وتحت حجج مختلفة، كان لا بد من مقاربة علمية لهذه الظاهرة، فلم تعد قضايا العنف ضدّ الـمرأة تحمل الكثير من الخصوصيّة والحساسيّة، بل باتت قضيّة رأي عام يتوجّب على الجميع تحمّل الـمسؤوليّة تجاهها؛ فالصّمت عن العنف، بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة، هو إقرار ضمنيّ له، ومحاولة واعية، أو غير واعية، لتكريسه وشرعنته، وتطبيعه، بطريقة أو بأخرى.

زينة، وداد، والناجية لارا... كان نداؤهنّ مؤلماً؛ إذ كانت الكدمات والجراح على أجسادهنّ، وجثثهنّ، أبلغ وسيلة للتّعبير عن الخوف والعجز، والألم الذي عانينه؛ فقصصهنّ ظهرت للعيان، إلّا أنّ هنالك الكثير من حالات العنف الـمخفيّ، سواء أكان لفظيّاً، أم جسديّاً، أم اقتصاديّاً، أم جنسيّاً؛ ذلك أنّ الكثير من النّساء لم يفصحن عن العنف الّذي تعرّضن له، بل فضّلن الصّمت والرضوخ لسلطة المعنف، على الرّغم من أنّهنّ لا يتمكنّ من حماية أنفسهنّ، نتيجة مداخلات اجتماعيّة، أو ضغوط أسريّة تمنعهن من التبليغ القانوني.

كلّ هذه الحوادث لم تكن وليدة اللّحظة، بل بفعل المرحلة الّتي يعيشها لبنان من أزمة ماليّة، واقتصاديّة، مترافقة مع الاحتجاجات في الشّارع، ليتبعها لاحقاً، انتشار جائحة "كورونا"، وما أنتجته من ضائقة إقتصاديّة وإجتماعية، بسبب الإغلاق العامّ، ومنع التّجوّل، وفرض تدابير التّباعد الاجتماعي. إذ شكّلت جائحة "كورونا"، والأزمة الاقتصاديّة، بيئة خصبة لنموّ مشاعر الخوف والقلق والإحباط والغضب، الّتي تدفع ثمنها النّساء، لكونهنّ الفئة الأضعف، إلى جانب الفتيات والأطفال؛ فالحجر الزّمنيّ وضع الزّوجين أمام اختبار قاس للعلاقة الزّوجيّة؛ فكيف إذا كان الحال عند الزّوجين غير الـمنسجمين أساساً، اللذين يحافظان على زواجهما، مرغمين؟

بناء عليه، نرى العديد من المقاربات العلمية التي حاولت تناول السّلوك العنيف، من جوانبه كافّة والّتي تشكّل أساس الفهم السّوسيولوجيّ، لظاهرة العنف ضدّ الـمرأة؛ ذلك أنّ أصحاب النّظريّة البيولوجيّة يرجعون سلوك الـمعنّف إلى عوامل بيولوجيّة بحتة، وأنّ الرّجل يولد معه هذا السّلوك العدوانيّ. أمّا النّظريّة السّيكولوجيّة، فتهدف إلى تفسير ظاهرة العنف، بإرجاعها إلى أسباب كامنة في شخصيّة الفرد، وليست خارجة عنه. وأنّ الطّفل يمرّ في حياته بتجارب قاسية، تولّد لديه سلوكيّات عدوانيّة، لها تأثير مهمّ على سلوكه في الـمستقبل؛ فالمرأة الّتي يمارس عليها العنف منذ الصّغر؛ يصبح لديها هاجس أنّها تستحقّ العنف، وهذا ما سمّاه بورديو بـ"العنف الرّمزيّ"؛ إذ تدعم هذه الفكرة لدى الجنسين، من خلال الثّقافة والـمعتقدات السّائدة.

ولعلّ من غير الـممكن أن نربط ممارسة العنف في كلّ الأحوال، باضطرابات في شخصيّة الفرد؛ فمحاولة الـمدخلين السّابقين في تفسير ظاهرة العنف ضدّ المرأة، تبقى قاصرة وغير منطقيّة؛ بسبب إهمالهما للعوامل الثّقافيّة والاجتماعيّة، وفي المقابل علينا أن نتوقف عن التبرير لأنه يعطي إنطباعاً بأن الجاني يستطيع التفلت من العقاب وتبرير جريمته.

في السياق نفسه يرى أصحاب النّظريّة النّفسيّة الاجتماعيّة، أنّ للضّغوط الاجتماعيّة دوراً بارزاً في ارتكاب العنف؛ ذلك أنّهم يربطون بين العنف الأسريّ ضدّ الزّوجة والأبناء، والإحباط والظّلم الّذي قد يتعرّض له الزّوج في مجال عمله؛ ما يؤدّي به إلى عدم القدرة على التّحكّم في سلوكيّاته؛ فيمارس العنف ضدّ زوجته، أو أبنائه، في المنزل.

كما يؤكّدون أنّ للبطالة، الفقر وانعدام فرص الحياة الكريمة، دوراً في تشكيل الضّغوط على الشّخص، ودفعه إلى السّلوك العدوانيّ. فيرى"فليب جريمان" أنّ العدوان أو العنف، هو تعويض عن الإحباط المستمرّ، وهو سلوك يقصد به إيذاء شخص آخر، أو جرحه، وأنّ كثافة العدوان تتناسب مع حجم الإحباط؛ فكلّما زاد الإحباط، زاد عدوانه.

على الرّغم من اعترافنا بأثر الضّغوط الاقتصاديّة، ومخلّفاتها النّفسيّة، الّتي تزيد من الضّغط على الجهاز العصبيّ، إلّا أنّ ذلك لا يبرّر سلوك العنف، من قبل الرّجل على الـمرأة، وجعلها في دوّامة خطر مستمرّ، فالكلّ يعيش في واقع اجتماعيّ ظالـم، يسوده الفقر، والقهر الاجتماعيّ؛ فالواقع الاقتصاديّ والاجتماعيّ لم يستثنِ الـمرأة ولا الرّجل؛ ذلك أنّ الحجر الـمنزليّ، الخوف من العدوى، والوضع الـمعيشيّ، كلها طالت الإثنين، وألزمتهما بالإقامة الجبريّة.

من منظور آخر، نتوافق مع رؤية أصحاب النّظريّة النّفسيّة الاجتماعيّة، الّتي تؤكّد أنّ الثّقافة بكلّ عناصرها ومضامينها تحدّد السّمات الأساسيّة لأيّ مجتمع، والثّقافة السّائدة في الـمجتمع الـمعاصر تتّسم بالتّسلّط والعنف؛ فهي تنتقل إلى الأفراد، وطريقة تفكيرهم؛ إذ يكتسبونها عن طريق مختلف مؤسّسات التّنشئة الاجتماعيّة، ووسائل الإعلام الـمختلفة. وتأتي الأسرة على رأس هذه الـمؤسّسات؛ فالمدرسة؛ ثمّ المجتمع الكبير. فإذا كان الـمجتمع يؤمن باختلاف أساليب التّربية الـموجّهة إلى الذّكور، وأساليب التّربية الـموجّهة إلى الإناث؛ فإنّ عمليّة التّنشئة الاجتماعيّة في هذه الحالة، تتمّ وفق نمطين اجتماعيّين مختلفين؛ فكثيراً ما تنظر إلى الذّكر بأنّه الأقوى، وله حقّ التّسلّط، وإعطاء تبريرات له. في حين أنّ الأنثى ينظر إليها على أنّها الأقلّ شأناً، ومن ثمّ ينطبع سلوك كلّ منهما بطابع خاصّ.

من هذا المنطلق، نرى أنّ استمرار العنف ضدّ المرأة، وتصاعده، يكمن في انتشار ثقافة العنف، وقبولها من طرف الـمجتمع، بمختلف مؤسّساته، وإن أظهروا عكس ذلك، من دون تطبيق؛ الأمر الّذي يترتّب عليه إعطاء حدّ أدنى من الشّرعيّة، لاستخدام العنف ضدّها، وهذا ما قال عنه ستروس: "انّه يصبح هناك حدّ أدنى من الاتّفاق الضّمنيّ، بين أفراد الـمجتمع، على تأييد استخدام الأزواج للعنف، مع زوجاتهم".

في النتيجة، ثمة ظاهرة إجتماعيّة تتفاقم؛ غدا الاهتمام بها ضروريّاً، وذلك نظراً إلى ما يترتّب عليها من آثار مدمّرة على الـمستويين، الفرديّ والاجتماعيّ؛ وبالتّالي تفعيل ومساندة الجمعيات، الّتي تعمل على حماية ودعم الـمرأة، وتأهيل ضحايا العنف، وهذا ما يعرف بنظريّة "التّبادل والضّبط الاجتماعيّ" في علم الاجتماع. على أنّ التّدخّل للتّعامل مع حالات العنف، يمكن أن يتمّ على الـمستوى الفرديّ، والأسريّ، والـمجتمعيّ، وذلك من خلال تعليم أفراد الأسرة، أسلوب حلّ الخلافات، من دون اللجوء إلى استخدام القوّة، وتوفير الـمساندة الأسريّة والـمجتمعيّة، وتوفير الخدمات والـموارد، وضمان حصول الـمرأة على الدّعم والـمساندة القانونية، فالتعديلات التي طرأت على قانون العنف الأسري في كانون الأول 2020 كانت ذات أهمية في حماية المرأة. لذا لا بد من السير في خطّ متوازٍ مع تطوير قوانين جديدة للأحوال الشّخصيّة، تعزز ثقافة العدالة والقانون، على أساس يحقّق الـمساواة بين الجنسين.

(*) دكتوراه في علم الإجتماع


MISS 3