ستيفن سايمون

ما السبيل للفوز في معركة النفوذ في الشرق الأوسط؟

12 آذار 2021

المصدر: Foreign Affairs

02 : 01

مساعدات إنسانية متجهة إلى لبنان / آب 2006
تواجه الولايات المتحدة وشركاؤها مشكلتَين مع إيران. تشتق المشكلة الأولى من تسلل طهران إلى الدول المجاورة، وتتعلق المشكلة الثانية ببرنامج إيران النووي القادر على إنتاج الأسلحة إذا بقيت هذه الجهود بلا رادع. المشكلتان متشابكتان على المستويين الاستراتيجي والسياسي: ستزيد جرأة إيران في مغامراتها الإقليمية على الأرجح إذا اكتسبت قدرات نووية، وتؤدي هذه المغامرات الإيرانية إلى تقوية موقف المعسكر الذي يؤيد رسم الحدود للبرنامج النووي الإيراني بدل التفاوض بشأنه.

يجب أن تعترف الولايات المتحدة بأن إيران لا تستعمل أسلوب الإكراه مع الدول المجاورة لها، بل إنها رسّخت مكانتها في الشرق الأوسط عموماً عبر استعمال مستوى بارز من القوة الناعمة. في العراق، شكّلت إيران ملجأً آمناً وحليفة أساسية للشيعة الذين قاوموا صدام حسين والولايات المتحدة وتنظيم "داعش" على مر صراعات متلاحقة. ويعتبر النظام السوري إيران الجهة التي هبّت لإنقاذه في العام 2012. منذ ذلك الحين، ساعدت طهران الرئيس بشار الأسد للاحتفاظ بسيطرته على مناطق مهمة استراتيجياً، وأعادت الجمعيات الخيرية الإيرانية إعمار المدارس في دير الزور، واحدة من أكثر المدن دماراً في سوريا. كذلك، تسللت إيران إلى النظام السياسي اللبناني منذ 40 عاماً تقريباً، واستفادت في اليمن من الدمار الذي أحدثه خصومها السعوديون والإماراتيون.

تشتق القوة الناعمة الإيرانية جزئياً من تاريخ الهيمنة العربية السنية الطويل على الأقليات الإقليمية (شيعة، مسيحيين، أكراد، أصحاب معتقدات غير تقليدية). في مناطق كثيرة من الشرق الأوسط، تواجه الأنظمة القومية "العلمانية" حركات معارضة أصولية سنّية، كتلك التي يمثّلها "الإخوان المسلمون" أو الميليشيات التابعة لتنظيم "القاعدة" أو "داعش". تعتبر الجماعات العربية غير السنية في هذه الدول إيران القوة الموازِنة الوحيدة في وجه الزخم السني. في سوريا مثلاً، اعتبرت الأقليات التي يُهددها التطرف السني مباشرةً التدخل الإيراني لصالح نظام الأسد مبادرة لإنقاذ حياتهم. في المقابل، سحقت الولايات المتحدة تلك الجماعات عبر العقوبات والمقاتلين السُّنة المسلحين على أمل إسقاط الأسد. لكن لم تنجح هذه الجهود بل دفعت الشيعة والأقليات الأخرى في المنطقة إلى عدم الاستسلام وشجّعت دول بلاد الشام على التقرب من روسيا وإيران.

استعملت تركيا بدورها القوة الناعمة لنشر نفوذها في المنطقة. أصبح حضور أنقرة في المجالات الإنسانية والعسكرية والاستخبارية واضحاً في النقاط الإقليمية الساخنة، وهي تكتسب مكانة سياسية وقدرة تخريبية متوسّعة من خلال تقوية شركائها الموثوق بهم، علماً أن هذه الأطراف تصطف في العادة مع الإسلام السياسي. تُشجّع تركيا الاستثمارات الاقتصادية، وتُسهّل التجارة، وتنشئ مؤسسات دينية ومساجد، وتُموّل النشاطات الثقافية المرتبطة بتركيا والإسلام التقليدي. حتى أنها تبني القواعد، وتصدّر الأسلحة، وتنظّم عمليات التدريب، وتقدم دعماً استخبارياً بطريقة مباشرة وعبر شركات خاصة أو منظمات غير حكومية.

إكتشفت إيران وتركيا على ما يبدو أفضل طريقة لفرض نفوذهما الإقليمي عبر خليط من القوة الصلبة والناعمة. في المقابل، اتكلت الولايات المتحدة على القوة الصلبة والعقوبات الاقتصادية، وقد ترافقت هذه الاستراتيجية مع عواقب غير مقصودة، فأدت إلى تكثيف المغامرات الإيرانية والتركية في المنطقة.

لحظة مناسبة للتدخل

قد تُحقق واشنطن نتائج أفضل عبر دعم القوة الناعمة العربية. في نهاية المطاف، لا تتفوق دول الخليج على إيران وتركيا بسبب قدراتها العسكرية بل ثرواتها. تستطيع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة أن تصلا إلى الأسواق الائتمانية العميقة وصناديق الثروة السيادية الضخمة واحتياطيات العملة الصعبة. إذا أرادت الولايات المتحدة أن تشجّع حلفاءها على استعمال تلك الثروات بفاعلية، يمكنها أن تتصدى للنفوذ الإيراني الإقليمي من دون اللجوء إلى عقوبات غير ضرورية أو تصعيد التهديدات.

يسهل أن تتأثر إيران باستثمارات دول الخليج في لبنان وسوريا والعراق واليمن. حتى أن هذه الخطوة قد تؤجج مشاعر الفخر العربي وتزيد النزعة إلى التصدي للانقسامات الطائفية التي ساعدت إيران على التسلل إلى عدد من تلك البلدان. سيرحّب العراق حتماً بالاستثمارات في مجالات التجارة الزراعية والصناعة والهيدروكربون. وتحتاج سوريا طبعاً إلى مساعدات هائلة لإعادة إعمار البلد بعد انهيار بنيته التحتية، وهي مسألة لا تستطيع إيران معالجتها. على صعيد آخر، قد تقدم إيران الصواريخ للحوثيين في اليمن، لكنها تعجز عن تلبية حاجات البلد إلى المياه وتحسين حياة المواطنين. كذلك، لن تتمكن إيران من دعم القطاع المصرفي المتداعي في لبنان. في المقابل، يستطيع شركاء واشنطن العرب أن يخصصوا جزءاً من أموالهم لتلبية حاجات هذه الدول، فلا يكتفون حينها بمنافسة إيران على النفوذ بطريقة بناءة فحسب، بل يشاركون أيضاً في تجديد استقرار المنطقة حيث تتضرر جميع الأطراف استراتيجياً من التقلبات المتواصلة.

إنها اللحظة المناسبة للتدخل. ارتعبت دول الخليج من تنامي نفوذ الجهاديين، وتتوق السعودية والإمارات ومصر اليوم إلى إخماد الأجوبة الدينية على المسائل السياسية وتدرك أهمية التضامن العربي والإقليمي للتصدي لإيران وتركيا معاً. لهذا السبب، عمدت هذه الدول إلى تعديل سياساتها الخارجية: في محاولة منها للتوفيق بين مصالح الإسلاميين المحليين والمتطلبات العلمانية والمؤسسية التي يفرضها النظام العالمي المعاصر، قررت تلك الدول تقبّل إسرائيل بموجب "اتفاقيات أبراهام" وتصالحت مع قطر. تملك الولايات المتحدة الآن فرصة قيّمة لإخماد المواجهة الإقليمية مع إيران من خلال مساعدة الدول العربية السنية على استرجاع دورها في هذا المجال.

لتطبيق هذه المقاربة، يجب أن تتخلى الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفاء واشنطن في الخليج عن استراتيجية العقوبات والإكراه بعدما أثبتت فشلها بكل وضوح. ستضطر الولايات المتحدة لتقبل فوز جيش الأسد في الحرب على النفوذ في سوريا، ويجب أن تعترف أيضاً بأنها تعجز عن تغيير نظام الحكم هناك. في ما يخص لبنان، يجب أن تتقبل واشنطن التواصل الحتمي بين شركائها العرب و"حزب الله". سيكون الاعتراف الضمني بهذه الوقائع صعباً على الولايات المتحدة التي تمسكت لفترة طويلة بأهداف تعجز عن تحقيقها على أرض الواقع. كانت واشنطن تعتبر استعمال القوة الناعمة والاقتصادية لتملق القوى غير الليبرالية أو احتوائها شكلاً من الاسترضاء. لكن أثبتت إيران بنفسها أن القوة الناعمة أداة قوية في أي سياسة خارجية واقعية، كتلك التي تحتاج إليها منطقة الشرق الأوسط اليوم. في نهاية المطاف، قد تنجح القوة الناعمة، عند استعمالها بالشكل المناسب، في كبح الحاجة إلى القوة العدائية.

نشر الأمل ضروري

لا يخلو استعمال ثروات دول الخليج لمجابهة النفوذ الإيراني من السلبيات. قد لا يثق الكثيرون في أوساط السياسة الأميركية بحكومات الدول البترولية العربية، لا سيما المملكة العربية السعودية، غداة المزاعم المرتبطة بمقتل الصحافي جمال خاشقجي واضطهاد المعارضين الليبراليين واستمرار الحرب في اليمن. كذلك، قد تصل أموال الخليج بسهولة إلى جيوب السياسيين الإقليميين الفاسدين، كما حصل في الماضي، مقابل تراجع الجهود الرامية إلى طرح أجندات معقدة سياسياً كتلك التي تشمل الإصلاح الديمقراطي أو حماية حقوق الأقليات في المنطقة. يجب أن يتمتع صانعو السياسة في واشنطن بالذكاء الكافي لمعالجة هذه المسائل، حتى لو اضطروا لتحويل المواقف المعارِضة للتدخل الإيراني (والتركي بدرجة معينة) من جهد عسكري إلى جهد اقتصادي. علّقت الإدارة الأميركية بيع الأسلحة إلى المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بسبب نفورها المتزايد من التداعيات الإنسانية للعمليات العسكرية التي يقودها البلدان في اليمن، وقد تختبر هذه الخطوة مدى قدرة واشنطن على كسب تعاون الخليج لتطبيق مقاربة بديلة تجاه إيران.

إذا لم تنجح الدول الخليجية والغربية في تأمين التعليم وفرص العمل والأمل للشباب العربي، لا مفر من أن يستغل لاعبون آخرون يأس هذه الفئة من الناس ويدفعوها إلى العنف والوحشية. تقدّم "اتفاقيات أبراهام" فرصة قيّمة لدمج التكنولوجيا الإسرائيلية مع مقاربة إقليمية جديدة لمعالجة مشاكل مُلحّة مثل التغير المناخي وانعدام الأمن الغذائي، علماً أن هذين الملفّين يتوقفان جزئياً على تنقية المياه. تملك إسرائيل المهارات اللازمة لإنتاج كميات كبيرة من المساكن مقبولة الكلفة لإيواء النازحين من جراء الحرب الأهلية في سوريا واليمن. يمكن تمويل هذا النوع من المشاريع عبر استثمارات مجلس التعاون الخليجي وهبات من منظمات دولية، ويمكن الاتكال على خبرة إسرائيل في الاقتصادات النامية، لا سيما في أفريقيا.

ألبرت أينشتاين معروف بعبارة "الجنون يعني القيام بالتصرف نفسه مراراً وتكراراً وتوقّع نتائج مختلفة". من الأفضل أن يُركّز صانعو السياسة في واشنطن والقدس والرياض وأبو ظبي على هذه الحكمة الأساسية. سبق وفشلت الجهود الرامية إلى كبح النفوذ الإيراني والتركي في المنطقة عبر استعمال القوة. لكن ثمة خيار بديل لحسن الحظ. تبرع الولايات المتحدة في نشر الرأسمالية والتجارة الحرة أكثر من تغيير الأنظمة. ويجب أن تستفيد واشنطن من رغبة دول الخليج في تجديد تواصلها مع سوريا ولبنان والعراق بدل منعها من فعل ذلك. تستطيع الولايات المتحدة بهذه الطريقة أن تُحقق أهدافها الاستراتيجية تزامناً مع تحسين أوضاع الناس في المنطقة وتقليص احتمال التصعيد العسكري.


MISS 3