صندوق الاقتراع... أكبر كوابيس بوتين!

11 : 37

من المنتظر ان يشارك الروس في 8 أيلول في انتخابات بلدية ومناطقية، وتشعر السلطات بالخوق. هي لا تخشى تدخّل قوة خارجية في الانتخابات الروسية (لم تحصل أي انتخابات عادلة منذ عقود)، بل تخاف من الشعب الروسي ومرشحّي المعارضة لأنهم يحظون بشعبية أوسع من المرشحين الرسميين. 



لا تزال حزمة الحِيَل الانتخابية القديمة في موسكو قائمة، منها تأجيل الانتخابات من كانون الأول إلى بداية أيلول كي لا يحصل المنافسون على وقت كافٍ لتنظيم شؤونهم خلال عطلة الصيف، أو إغراق النظام الانتخابي بمرشحين مزيفين وطرح الموالين للحزب الحاكم كمرشحين مستقلين.

كذلك، من المتوقع أن تشهد الانتخابات هذه السنة استعمال نظام تصويت رقمي على الهواتف الخليوية، ما يسمح للناس بالتصويت عبر الإنترنت من أي مكان. يعتبر النقاد هذه الخطوة حيلة أخرى لمساعدة السلطات.

لم تترك اللجنة الانتخابية في موسكو شيئاً للصدفة، فاختلقت أسباباً وهمية لحرمان جميع المرشحين المرفوضين من الترشح للانتخابات. ولترهيب المرشحين المحتملين، تعرّضت منازلهم للمداهمة واعتُقِل عدد منهم وسيق إلى مركز الشرطة وخضع للاستجواب في منتصف الليل.

لكن لم تنجح هذه الخطوات كلها، فقد نزل آلاف الناس إلى الشوارع، بدءاً من 28 تموز، احتجاجاً على قرارات اللجنة الانتخابية. رداً على هذا التحرك، استعملت السلطات قوة الشرطة المحلية والاتحادية لاعتقال معظم قادة المعارضة وحوالى 1400 متظاهر.

وعندما سمحت السلطات في موسكو بتنظيم تجمّع بعد أسبوعين، احتشد 60 ألف شخص تقريباً في الشوارع رغم تحذيرات الحكومة وتهديداتها. صحيح أن التجمع حصل على إذن رسمي، لكن استعملت الشرطة القوة لتفريق المتظاهرين واعتقال المئات. ومنذ ذلك الحين، رُفِضت جميع طلبات المعارضة بتنظيم تجمعات أخرى.

أراد الكرملين بهذه الطريقة توجيه رسالة واضحة: لن تتكرر هنا أحداث هونغ كونغ باحتجاجاتها الضخمة، ولا أحداث اسطنبول بانتخاباتها العادلة التي أدت إلى فوز المعارضة. لتحقيق هذا الهدف، يبدو الكرملين مصمِّماً على استعمال العنف على نطاق واسع. هذا السلوك غير مفاجئ بأي شكل! إنه المسار الطبيعي لحكم الفرد المطلق: حين ينقلب الشعب تدريجاً ضد النظام، تكون القوة الوحشية الوسيلة الوحيدة للبقاء في السلطة.

على جميع الأصعدة، لا يمكن إنكار تراجع الدعم الذي يحظى به نظام بوتين. اتّضح هذا الوضع بأفضل طريقة في استطلاع أجراه "مركز الرأي العام" الحكومي في أيار، فتبيّن أن ثقة الشعب بالرئيس فلاديمير بوتين تراجعت إلى 25%. أمام هذه النتيجة، ثارت حفيظة الكرملين الذي يستعمل هذا المركز في العادة لتقييم توجهات الرأي العام ونادراً ما ينشر النتائج علناً، فدعا إلى إجراء استطلاع آخر. بعد بضعة أيام، كشف استطلاع جديد أن 72% من الروس يثقون بالرئيس. سُرّ الكرملين بهذه النتيجة، وتعهد المركز بـ"تحسين المنهجية" المستعملة.

في شهر حزيران، غداة إطلالة بوتين السنوية في البرنامج التلفزيوني Direct Line (الخط المباشر) (سلسلة من الأسئلة والأجوبة الرامية إلى إقامة تواصل مباشر بين زعيم يدّعي معرفة كل شيء والمواطنين)، سجلت قناة البرنامج على يوتيوب 12 ألف إعجاب مقابل 170 ألف عدم إعجاب. وفق حسابات بعض الخبراء، بلغت نسبة تأييد بوتين وسط هذا الجمهور 7% تقريباً.

يفكر بوتين وأعوانه على الأرجح بأحداث هونغ كونغ واسطنبول، ويتذكرون حتماً كيف تعامل ميخائيل غورباتشوف مع انتخابات حرة محدودة منذ 30 سنة. لطالما كانت الانتخابات السوفياتية الوطنية والمناطقية مزيفة في السابق، فيفوز مرشّحو الحزب الشيوعي بمناصبهم دوماً لأنهم لا يواجهون أي منافسين.

أراد غورباتشوف تقوية النظام السوفياتي عبر توسيع هامش التنافس فيه والسماح بدخول أعضاء غير حزبيين إلى هيئته التشريعية.

لذا أنشأ هيئة تشريعية جديدة باسم "مجلس نواب الشعب" وتألفت من 2250 نائباً. احتفظ أعضاء الحزب الشيوعي بثلث المقاعد، وفُتِح المجال للتنافس على الثلثَين المتبقيَين. حظي المرشحون المدعومون من الحزب الحاكم بمزايا إضافية طبعاً، حتى في المقاعد المُنتَخبة علناً. ومع ذلك، حصلت مفاجآت كبرى خلال الانتخابات في آذار 1989: هزم 300 مرشح (حوالى 16% من الهيئة التشريعية الجديدة) المرشحين المدعومين من الحزب الحاكم. ومن بين الخاسرين خمسة أعضاء من "اللجنة المركزية"، وعضو من المكتب السياسي، و35 زعيماً محلياً للحزب.

اعتبر غورباتشوف الانتخابات الجديدة انتصاراً لإصلاحاته ومحاولة ناجحة لإرساء الديموقراطية في النظام السياسي السوفياتي. لكنّ المتشددين الممتعضين من الحريات الجديدة وغير المعتادين على أي معارضة سياسية لم يعجبهم الوضع حينها، مثلما لا يعجبهم الوضع الراهن.

أعلن فلاديسلاف سوركوف المُطّلع على شؤون الكرملين الداخلية منذ فترة طويلة ومهندس نظام بوتين أن روسيا لا يمكن الحفاظ عليها إلا على شكل دولة شرطة عسكرية، واعتبر بوتين الزعيم الوحيد الذي يستطيع الشعب الروسي الوثوق به. شكّلت "البوتينية" برأيه نظاماً سياسياً جديداً، وقد تدوم لقرون على غرار الماركسية أو اللينينية.

لكن رغم هذه الأمنيات أو المواقف المدروسة في أعلى مراتب السلطة، بدأت "البوتينية" تنهار بوتيرة ثابتة: تواجه وسائل الإعلام الحكومية صعوبة في تحمّل تراجع نسب تأييد الرئيس، وينتشر الفقر في مختلف مناطق روسيا، وأصبح الاقتصاد الذي يتكل على النفط والغاز هشاً، وتنشغل النخب الروسية بالتقاتل في ما بينها على حصص متناقصة، وما عاد الجيل الشاب يتأثر بحملات الحكومة الدعائية بقدر أسلافه.

يبدو أن "البوتينية" لن تدوم بقدر الماركسية أو اللينينية إذاً. لقد نشأت في الأساس على شكل نظام استبدادي هجين حيث تسيطر النخبة الحاكمة على معظم الاقتصاد ووسائل الإعلام باسم الدولة، لكنها تتحمّل عدداً محدوداً من الشركات والجهات الإعلامية المستقلة شرط أن تخضع لرقابة مشددة. على عكس الحزب الشيوعي الصيني الذي يفرض سيطرة كاملة على المجتمع، فضّل الكرملين في عهد بوتين ترك منفذ للآراء المعارِضة، طالما تبقى هامشية ولا تطرح تهديداً على أصحاب السلطة.

لكن ربما وصل هذا النموذج إلى نهايته الآن. أثبتت المعارضة أنها ليست هامشية بقدر ما تمنى الكرملين. وفي ظل تصاعد الاستياء داخل النظام، لم يعد ادعاء الديموقراطية مفيداً بنظر الكرملين. لكن رغم استعداد موسكو حديثاً لتطبيق نسخة أكثر صرامة من النهج الصيني، يبدو أن تعامل الروس الجدي مع تلك الحريات المحدودة سابقاً هو الذي يجعل القمع الوحشي ضرورياً اليوم.

عملياً، سبق وعادت روسيا إلى دولة الشرطة العسكرية، فأبقت بوتين ونظامه في السلطة عن طريق القوة والترهيب. لم يتكل الكرملين في العام 2016 على الشرطة وحدها لإنشاء قوة خاصة من 340 ألف حارس روسي قوي "لحماية النظام العام". بل تعمل الحكومة بوتيرة ثابتة على تفكيك ما تبقى من اقتصاد السوق أيضاً، لذا تنقل الأصول إلى خزائن الدولة وتستثمر في القطاع العسكري الصناعي الذي يشهد توسعاً سريعاً.تؤكد معظم الاعتقالات الجماعية الأخيرة والتعامل الوحشي مع المحتجين وأعضاء المعارضة على استعداد النظام لاستعمال العنف للبقاء في السلطة. يدرك الكرملين أن الديموقراطية الحقيقية تعني نهاية "البوتينية"، لذا لا يترك أي خيار أمام الراغبين في إحداث تغيير بالوسائل الديموقراطية. لكن هل يريد بوتين فعلياً تحويل "الساحة الحمراء" إلى نسخة روسية من "ساحة تيانانمن"؟

* مايكل خوداركوفسكي أستاذ تاريخ في جامعة "لويولا"، شيكاغو.


MISS 3