د. ميشال الشماعي

دراسة لـ "لقاء لبنان المحايد" بين يدي البطريرك الراعي

27 آذار 2021

02 : 00

زار وفد من "لقاء لبنان المحايد" الصرح البطريركي أمس الجمعة، ووضع بين يدي غبطة البطريرك الراعي دراسة أعدّها عن الحياد المطروح والأسباب الموجبة لهذا الطرح. ولفت اللقاء إلى أنّ الحياد شيء، والتحييد الذي يطرحونه شيء آخر مختلف تمام الاختلاف عمّا تطرحه بكركي. فالحياد هو من صلب فلسفة الكيانية اللبنانية. ويمكن العودة في التاريخ إلى المؤسس الأول البطريرك يوحنا مارون، الذي أعلن أنّ لبنان لبناني لا عربي ولا بيزنطي، كما يقول الاب البروفسور يوسف مونّس.

هذا الكيان الذي ارتضته بكركي جامعاً للحضارات، من جبل عامل إلى جبّة الكنيسة والمنيطرة فبشرّي وصولاً إلى وادي النصارى في سوريا بحسب المذكّرة التي قدّمها البطريرك الحويك في 24/10/1919 إلى مؤتمر الصلح؛ فتمّ تحديد الحدود الشمالية بالنهر الكبير، والشمال الشرقي عبر خطّ ينطلق من هذا النهر ويلتفّ حول سهل البقيعة والضفّة الشرقية لبحيرة حمص. أمّا من الجنوب فحتّى سهل الحولة وبحيرتها التي يصبّ فيها نهر الحاصباني.

إلا أنّ المطران عبد الله خوري عندما عاد من فرنسا سنة 1920 حاملاً معه خريطة لبنان الكبير جاءت مستثنية سهل القصير وبحيرة حمص من الشمال. وخريطة لبنان الكبير التي أقرّت في ظلّ الانتداب استثنت بحيرة الحولة وسهلها، وقيصرية بانياس من الجنوب أيضاً. وهذه المعلومات موجودة في أرشيف البطريركية المارونية في بكركي، ومدوّنة في الصفحتين 263 و264 في كتاب للخوري أسطفان ابراهيم الخوري تحت عنوان: "وثائق البطريرك الحويّك السياسية" الصادر عن المركز الماروني للتوثيق والأبحاث.

ودعا عضو المجلس الإداري للبنان سليمان كنعان إلى تبنّي: "نظام حياد تضمنه الدول الكبرى"، وذلك عند الدعوة إلى إنشاء "سوريا الكبرى"، وخوف المسيحيين من ضمّ لبنان إليها، وذلك في فترة الانتداب. وتمّ التأكيد في ميثاق 1943 على شعار: "لا للشرق، ولا للغرب" الذي ورد في حكومة الاستقلال الأولى برئاسة الشهيد رياض الصلح. وفي العام 1945 قال الرئيس بشارة الخوري: "لقد نشدناه استقلالاً تجاه الغرب جميع دول الغرب، وتجاه الشرق جميع دول الشرق". كما اقترح الرئيس شارل حلو في فترة الخمسينات والوحدة العربية حياداً قانونياً على الطريقة النمسويّة. وفي7 نيسان 1959 طُرح مشروع الحياد بقوة على الساحة اللبنانية من دون أن تتوصّل اللجنة السياسية إلى إقراره.

كذلك تمّ التلويح بفكرة الحياد مجدّداً في البيان الافتتاحي للمؤتمر العاشر لـ"حزب الكتائب" المنعقد في أيلول 1967. وعاد ليطرح الحياد مجدّداً في حرب السنتين بعد انقسام الرؤية اللبنانية حول العمل الفدائي، وذلك في دراسة أصدرتها "جامعة الروح القدس الكسليك"، وفي بداية الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 دعت الجبهة اللبنانية إلى تبنّي مشروع الحياد، كذلك في العام 1982 للتخلّص من الاحتلال الاسرائيلي ولضمان أمن لبنان. كما وافق الرئيس حسين الحسيني على حياد لبنان على الطريقة النمسوية التي اقترحها الرئيس السابق شارل الحلو. وكذلك بعد إلغاء الاتفاق اللبناني – الاسرائيلي في زمن الرئيس الشهيد بشير الجميّل الذي رفضه لأنّه يريد مباركة الشريك المسلم بالوطن، على ما ورد في صحيفة "العمل" الناطقة بلسان "حزب الكتائب"، وذلك في العام 1982.

إلى أن صدر "إعلان بعبدا" في العام 2012 الذي نصّ بوضوح وصراحة في البند 12 منه على "تحييد لبنان عن سياسة المحاور والصراعات الاقليمية والدولية، وتجنيبه الانعكاسات السلبية للتوترات والأزمات الاقليمية حرصاً على مصلحته العليا ووحدته الوطنية وسلمه الأهلي، عدا ما يتعلّق بواجب التزام قرارات الشرعية الدولية، والاجماع العربي والقضية الفلسطينية المحقّة، بما في ذلك حقّ اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى أرضهم وديارهم وعدم توطينهم. كذلك أزمة النازحين السوريين التي استجدّت بعد الحرب السورية.

والحياد حمله المفكّر والفيلسوف العالمي شارل مالك كحلّ حين قال إنّ "لبنان دولة ومجتمع ومجموعة انتماءات دينية وثقافية بقدر ما هو دولة بالفعل، يكون حرّاً سيداً مستقلاً، بمعنى هذه الصفات الثلاث المتعارف عليها دولياً. وهذا يعني أنّ لبنان غير تابع لأحد، ولا يصادق أحداً لقاء معاداة أحد، أو يعادي أحداً لقاء مصادقة أحد. وإذا قيل له: أُصادقك شرط أن تعادي غيري، يرفض هذا العرض".

وبحسب الدّراسة التي أعدّها "لقاء لبنان المحايد" لغبطة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي عن تشخيص الأزمة اللبنانية ونظام الحياد والتي تمّ تقديمها إلى غبطته في بكركي يوم الجمعة الواقع فيه 26 آذار2021، تمّ التمييز بين الحياد الناشط والايجابي الذي تطالب به بكركي، والتحييد الذي يعني فقط تحييد إقليم ما في بلد ما عن صراع قد يخوضه هذا البلد لخصوصية هذا الاقليم فيه. ولبنان بلد مستقلّ، وليس إقليماً تابعاً لأيّ بلد. لذلك، تذاكي بعضهم في اللعب على المصطلحات لن ينفع.

لذلك كلّه تأتي المطالبة بالحياد لا التحييد كما أشارت الدراسة وِفق قاعدتين: إمّا بتعديل دستوري ينال أكثرية اللبنانيين في المجلس النيابي، وهذا الاحتمال يبدو مستبعداً في ظلّ هذه الأكثرية الخاطِفَة للحكم والراهنة للبنان وكيانه للجمهورية الاسلامية في إيران بواسطة "حزب الله". لذلك يتقدّم الحلّ الثاني حيث يفرض الحياد بمؤتمر دولي للحدّ من الصراع الدائر في هذا البلد. لذلك بكركي تطالب بالمؤتمر الدولي لأنّها مدركة تماماً أنّ الوصول إلى الحياد لن يتمّ إلا بضغط دوليّ.

وعلى ما يبدو إنّ الأزمات المتتالية في لبنان هي التي ستفرض حتماً المؤتمر الدولي، وذاهبون بسرعة الضوء، بفضل ممارسات هذه السلطة، إلى فرض نظام الحياد الناشط والايجابي. ومن يعِش يرَ.


MISS 3