محمد عبيد

ما عادت حرزانة...

27 آذار 2021

02 : 00

قوى السلطة بكاملها رمت أرضاً بكل وعودها بالإصلاح (رمزي الحاج)

ماذا بعد هذا الإستحمار السياسي للناس وللوطن؟ يجب ألا يعتبر أحد أنّ تعبير "إستحمار" جارح، إذ إنّ تفنيد واقع اللبنانيين وتوصيفه يؤدّي الى خلاصة واحدة، وهي أنّ منظومة السلطة لا تقيم إعتباراً ولا وزناً ولا إحتراماً للشعب اللبناني، كما أنها لا ترى نفسها معنية بالحفاظ على ما تبقّى من إرث هذا الكيان على مستوى المفاهيم السياسية والقيم الوطنية والإنسانية.

طبعاً، أستثني من الشعب اللبناني الذين لم يملّوا من الإصطفاف المذهبي الأعمى أو السياسي الفارغ، والذين ما زالوا يتعلّقون بأوهام كاذبة حول قدرة المسؤول "البطل"، الذي من المؤكّد أنّه سيُخرِج الحلول الترقيعية لمآسيهم العميقة من خزائنه، إنّما في التوقيت المناسب! أو ذاك الذي سيعيد إنتاج العنفوان في رؤوسهم على أنقاض وطن!

يقف اللبنانيون الواعون مذهولين أمام الخفّة واللامسؤولية في تعاطي منظومة السلطة مع إستحقاق سياسي مركزي وهو تشكيل حكومة جديدة، بالرغم من قناعتهم المطلقة بأنّ تشكيل أي حكومة، مهما كانت تسميتها أو توازنات تركيبتها، لن تكون سوى مسرح لتناتش ما تبقّى من مقدّرات الدولة ومنصّة لتبادل ملفات الفساد ولفلفتها، غير أنّها ستكون في الوقت نفسه مرجعاً سلطوياً إدارياً من المفترض أن يتحمّل مسؤولية وقف الإنهيار، كما أنها ستشكِّل إحتمالاً مشروطاً لتوفير هبوط آمن للإنهيار الاقتصادي والمالي أو إبتداع صعود سلحفاتي نحو الحلول الممكنة.

وهل يمكن أن يأمل اللبنانيون الواعون من منظومة السلطة هذه أكثر من ذلك، وهي، أي منظومة السلطة، أظهرت إحترافية في الإحتيال نادرة في مقاربتها لما سُمي "المبادرة الفرنسية". حيث أنها بعدما وجدت فيها إخراجاً تدريجياً وممنهجاً لها من مفاصل الدولة، أو على الأقلّ إضعافاً مدروساً إنّما سريعاً لقدراتها على الإمساك بهذه المفاصل، سارعت أولاً الى إفقادها قوة الدفع أو ما يسمى الـ"momentum"، وذلك من خلال إغراقها بالتجاذبات الخلافية، بدءاً من تمسّك رئيس مجلس النواب نبيه بري بأحقّية الشيعة في الحصول على وزارة المالية من جهة، مروراً بممارسة ما يسمّى "نادي رؤساء الحكومات السابقين" أقصى الضغوطات المذهبية على الرئيس المكلّف آنذاك مصطفى أديب من جهة أخرى، وصولاً الى تفنّن "الرابوق" الرئاسي بإستحضار كافة الأسلحة الإجتهادية في تفسير الدستور والصلاحيات والحصص، للإنتقام عبر أديب من شركائه السابقين في ما كان يسمّى "التسوية الرئاسية".

المفارقة أنّ أركان هذه المنظومة القدماء منهم والمستجدّين لا ينفكّون يردّدون في كلّ بيان ومع كلّ تصريح يصدر عنهم أنهم متمسّكون بالمبادرة الفرنسية، وأنّ مواقفهم التي يتّخذونها هي في سبيل تسهيل تطبيق هذه المبادرة.

يمكن أن ينطلي هذا الإحتيال على جمهورهم المُستَلَب الإرادة والقرار والممنوع من التفكير، وقد إنطلى فعلاً على مسؤولي الإدارة الفرنسية المعنيين بالشأن اللبناني، بحيث نجحت هذه المنظومة في إلزام هؤلاء المسؤولين إعتماد الأساليب ذاتها التي نشأت عليها وأدارت علاقاتها في ما بينها وِفقها، والتي تدرّبت عليها وتدرّجت في إتقانها على أيدي بعض مسؤولي الملف اللبناني من السوريين، ومن فاته من المستجدّين الإلتحاق بتلك المرحلة تبين أنّه تقمّص تلك الأساليب عن بعد.

وبالتالي، لم يعد من مصلحة الرئاسة الفرنسية ولا الإدارة المعاونة لها في الإليزيه التلهي بإجراء الإتصالات الثنائية مع أركان هذه المنظومة من أجل حلحلة عقدة تفصيلية ما لم تكن هذه العقدة لتكلف أي مسؤول سوري سوى رسالة مباشرة غير مشفرة عبر أحد المخبرين المعتمدين للزعيم اللبناني المعني، لتجده صاغراً وفي بعض الحالات غائباً عن السمع كي يتمّ تمرير الأمر المطلوب.

قدّمت فرنسا رؤية إصلاحية بشروط تحاكي الواقع اللبناني المأزوم، في حين حوّلتها منظومة السلطة مجتمعة وبالتآمر غير المباشر الى مبادرة تسووية تخضع لشروطها في التطبيق، أي بمعنى آخر لا إصلاحات ولا من يفرحون. ولذلك وبهدف إسقاط هذه الرؤية الإصلاحية كان لا بدّ من الإنقضاض على أداتها الأولى المباشرة: الرئيس المكلّف مصطفى أديب وتطفيشه، وقد نجحت المنظومة بتحقيق ذلك بتفوّق، منهم من كان يخطّط ويدري ما يفعل، وفي مقدّمهم الرئيسان بري والسنيورة، ومنهم من كان لا يدري ما يفعل لأنّ الأحقاد أعمت قلبه وبصيرته وفي مقدّمهم النائب جبران باسيل. وكالعادة، كان وما زال الخاسر الوحيد والأكبر: الشعب اللبناني، هذا الشعب الذي كان يهلّل لقوة الدفع الفرنسية بإعتبارها الأمل الوحيد المتوفر والوسطي الى حد ّما، في ظلّ الإصطفافات الإقليمية والدولية الحادة. لكنّ الإدارة الفرنسية المعنية فضّلت الخضوع للعبة منظومة السلطة الفاشلة والفاسدة و"تطنيش" المتغيّرات التي فرضتها إنتفاضة 17 تشرين على الساحة السياسية والإجتماعية، وأهمّها التبدّل الدراماتيكي في مزاج المواطن اللبناني تجاه تلك المنظومة.

المهمّ، إستعادت هذه المنظومة سعد الحريري رئيساً مكلّفاً بتشكيل حكومة جديدة بهدف إعادة إنتاج "الحريرية السياسية" ثلاثية الأذرع، والعمل على منع الخوض عميقاً في نبش ملفات المحاسبة والمساءلة التي يمنعها مجلس النواب، والأهمّ الإنتقام من المنتفضين الذين كشفوا فساد هذه المنظومة وشركائها المستجدّين، والذين رفعوا أصواتهم ووصفوهم بأسمائهم وألقابهم. وقد أحدث ذلك فرزاً قديماً مستعاداً بين هذه الثلاثية وبين الحالة العونية المترنحة، ومن خلفهما معاً "حزب الله" الذي يتقلّب على بِساطٍ من قلق إجتماعي معيشي، ومن حذرٍ من تداعيات الإنهيار الكامل على الواقع الأمني المأزوم أصلاً.

أما المُفجِع، فهو أنّ قوى السلطة بكاملها رمت أرضاً بكل وعودها بالإصلاح وبمكافحة الفساد وبإستعادة الأموال المنهوبة والمهرّبة، وبتسهيل حصول اللبنانيين تدريجياً على ودائعهم، وبالعمل فِعلياً وليس كلامياً على تعزيز سعر صرف العملة الوطنية...إلخ، وتفرّغت لمصارعة بعضها البعض، وإستلت أسلحتها الطائفية والمذهبية والشعبوية والدستورية المزيفة كافة، في سبيل تثبيت مساحات نفوذها تحضيراً للإستحقاقين الإنتخابيين البرلماني والرئاسي.

أمّا الواقع، فإنّه يا فخامة الرئيس ميشال عون "ما عادت حرزانة"، لأنّك لن تتمكّن من إستنقاذ ما تبقّى من عهدك، كما أنّك لن تستطيع إنقاذ وريثك الإفتراضي، ومن المؤكّد أنّ الوقت لن يساعدك على تهيئة بديل له حتى لو فكّرت بذلك.

وما عادت حرزانة يا دولة الرئيس نبيه بري، لأنّ إستعادتك لألق بداياتك مستحيل، ولأنّ تصحيح مسار أدائك في رئاسة السلطة التشريعية أكثر إستحالة، ولأنك تعلم يقيناً أنّ الإمام النهضوي المؤسس السيد موسى الصدر أسقط من عقل الشيعة الباطن قبل الظاهر فكرة التوريث السياسي، لما ينطوي عليه من عودة لنموذج الإقطاع السياسي.

وما عادت حرزانة يا دولة الرئيس سعد الحريري، لأنّ إحتمال وجود شبه سياسي بينك وبين والدك المرحوم رفيق الحريري بعيد جداً، وكفى إخضاع اللبنانيين لتجاربك بهم وعلى حساب حياتهم ومستقبلهم وأحلامهم، ولأنّك إستنفدت كلّ محاولاتك لإقناعهم بأنك من خارج هذا النادي التقليدي.

وما عادت حرزانة يا أيها الشعب اللبناني، لأنّ الواقعة قد وقعت...