د. هشام حمدان

لبنان يشهد تطورات مهمة والرأي العام لا يرى إلا التفاصيل اليومية

31 آذار 2021

02 : 00

شهد لبنان خلال الأيام القليلة المنصرمة، تطورات عدّة لافتة ومهمة، لكنها لم تؤثر على التوجه الفكري المستمر للرأي العام وخاصة لحملة لواء الثورة، الذين ما زالوا منشغلين بالتفاصيل الداخليّة وبرفع الشعارات والبرامج المجترّة.

ففي ظل هذه الأوضاع اتصل الأمين العام للأمم المتّحدة أنطونيو غوتيريش بغبطة البطريرك الراعي. وقد قرأت بعض المقالات عن الحديث الذي جرى بينهما. لكن لا أسمح لنفسي بمناقشة مضمون الحديث، خاصة وأنه لم تصدر مذكرة رسميّة من أي من الجانبين، بشأن تفاصيل الحديث. وقد تلقف اللبنانيون هذا الخبر كأي خبر آخر لأحداث تدور في مكان بعيد عنهم. لم يهتم أحدهم بقراءة العبر لمثل هذا الإتصال. فلماذا لم يتصل الأمين العام بالقادة السياسيين مثلاً؟

لا يجوز أن نلوم المواطن اللبناني لعدم قدرته على قراءة العلاقات الدوليّة بدقة. فهو كان وما زال اسير واقع محلي مأزوم يطغى على افكاره. لكن نلوم من يعتقد نفسه المفكر، والناشط، والقائد، في مسيرة التغيير المنشودة في البلاد. فقد سعينا مراراً أن نصحح وجهة البوصلة شارحين ان هناك رمزاً وطنياً واحداً في لبنان يمكنه اليوم أن يخرج لبنان من حالته، هو البطريرك الماروني والذي صادف ان اسمه هو بشارة الراعي. وقلنا لمن يطالب من الثوار بالعلمنة، ولمن يطالب بالفدرالية، ولمن يطالب بالسيادية، أن لا حل لمشاكلنا الداخلية إلا عندما نتمكن من إخراج وطننا من حروب المنطقة وصراعاتها. وأن البطريرك وحده قادر على هذا الأمر. وفرحنا عندما نادى غبطته بحياد لبنان ومن ثم بالدعوة إلى مؤتمر دولي. وشهد صرح بكركي تدفقات بشرية متعددة تؤيد مطالبه. هذه التدفقات نفسها، رجعت إلى الشارع ناسية مواقفه، وعادت تملأ الدنيا جعجعة فارغة حول الإتحادية أو الفدرالية، والعلمانية، والفساد، ونهب الأموال، وكلن يعني كلن، وسعر الدولار وغيرها من الأمور الظرفيّة. نسيت المطلب الأم وهو عقد مؤتمر دولي برعاية الأمم المتحدة، بغية مساعدتهم في إخراج لبنان من حالته وتحقيق مطالبهم.

وعليه فإن العبرة الأولى من هذا الإتصال، أن البطريرك الراعي يشكل اليوم المرجعيّة الوطنيّة التي تراها الأمم المتّحدة بانها عابرة للطوائف وتخوض معركة إخراج لبنان من حالته وإعادة الإستقرار إليه. وهذا يعني ان على كافة قوى الثورة ان تتحلق حوله، وأن تضاعف من مكانته الدوليّة. أي إضعاف للبطريرك الآن يشكل مقتلاً للثورة، ولمستقبل لبنان.

أما العبرة الثانية فيدركها كل من يعلم عن كثب خبايا المطبخ الدولي، والدور الذي يقوم به الأمين العام. فمثل هذا الإتصال يعني ان القوى التي تسيطر على القرار الدولي في الأمم المتحدة، تضع مواقف البطريرك في ميزان القرار الذي يمكن أن تتخذه بشأن لبنان. ومن يتابع المواقف الدوليّة فإنه يمكن ان يلاحظ التأييد الذي أعربت عنه كل الدول الفاعلة لمطلبه بحياد لبنان أولاً، ثم لمطلبه عقد مؤتمر دولي برعاية الأمم المتحدة حوله. أما على الصعيد الداخلي فقد خرج اللبنانيون كالعادة، يفتون في صحّة وقانونيّة مطلب الحياد أو في إمكانيّة تحقيقه. ثم راحوا يتبارون بتحليل مطلبه بشأن المؤتمر الدولي. وانقسموا بين مؤيد له، أو مؤيد بشروط، أو معارض. فقلنا إن مطالب غبطته لا تأتي من فراغ. فعندما أعلن مطلب الحياد اصبح واضحاً ما هو مصير لبنان، وعندما دعا إلى المؤتمر الدولي فهمنا اين هو الحصان الذي سيأخذنا إلى الحلول. لذلك دعونا إلى وقف المهاترات والبرامج حول مصيرنا، وليتم التركيز على مطالب البطريرك. وحده أمين عام حزب إيران في لبنان، أدرك البعد الحقيقي لهذا الطلب. فهو يعلم تماماً أن موقف البطريرك هو قرار دولي وعندما تأخذ الدول الكبرى المعنيّة مثل هذا القرار، فإن ذلك ينهي كل الجدل العقيم حوله. لذلك كان تهديده بالويل والثبور. وتهديد حضرة الأمين العام لم يكن موجهاً نحو البطريرك وإنما نحو الذين يدفعون دوليّاً لمثل هذه المواقف.

أما العبرة الثالثة من هذا الإتصال فهي أنها تعيد الحرارة لحركة الإهتمام الدولي بالشأن اللبناني. فقد اعتبر البعض أنّ انخفاض وتيرة المطلب البطريركي الأخير، والتبريرات التي رافقته، إنما هي نتيجة لذلك التهديد. في الواقع، تريثت القوى الدوليّة في تفعيل المطلب والتركيز على طبخة الحكومة، ليس خوفاً من تهديدات الأمين العام، وإنما لأنها ترغب أن تمنح القيادة الأميركيّة الجديدة وقتاً تحدد فيه بوضوح طريقة تعاملها القادم مع الواقع اللبناني. اعتبر البعض ان لبنان ليس في أولويات الولايات المتّحدة وإلإدارة الأميركية الجديدة. وهذا برأيي غير دقيق. فوضع لبنان اليوم لا يعكس شأناً داخليّاً بل هو ناجم عن الصراع القائم على أرضه وعن المنازلة المستمرة بين إيران والعالم الحر. لذلك فإن هذا الإتصال شكّل مدخلاً لبدء التحرك نحو المؤتمر الدولي.

ولعل التطور الثاني الذي لا يقل أهميّة ايضاً عن الإتصال ما بين الأمين العام للأمم المتحدة والبطريرك، هو إعلان الولايات المتحدة عن جائزة بقيمة 10 ملايين دولار أميركي لمن يدلي بمعلومات عن قاتل الرئيس الحريري. نحن قلنا مراراً أن المحكمة الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس الحريري، وضعت اللبنة الأولى المطلوبة لمحاكمة حزب إيران المسمى للأسف بـ"حزب الله" في لبنان. المحاكمة الحقيقية ليست في المحكمة بل في مجلس الأمن. المحكمة لا تستطيع أن تحكم على قادة الحزب إلا إذا اعترف القاتل بانه تلقى تعليماته من هؤلاء. ولذلك فالمطلوب الآن الإمساك بالقاتل. وفي كل الأحوال فإن هذا التطور اللافت يعني ان ملف لبنان عاد إلى سخونته في المطبخ الدولي. وسيأتي الوقت الذي سنرى غبطته يسافر إلى الأمم المتحدة، وبرفقة وفد وطني، روحي ومدني، ومن كل الطوائف، لشرح حالة لبنان وليقدم مطالبه رسمياً. نحن نأمل من أصحاب الفقه في الثورة والأحزاب، مساعدته على بلورة رؤية متزنة تساهم بإعادة اللحمة الوطنية وإعادة لبنان إلى حظيرة الشرعيّة الدولية والقانون الدولي.