وهبي قاطيشه

مخاطر كسر التوازن في لبنان

2 نيسان 2021

02 : 00

قاطيشه: توازن الوطن شرط لديمومته

تاريخ لبنان الدولة محكومٌ بالتوازن منذ قرن ونصف، بمباركة إقليمية ودولية مع بداية حكم المتصرّفية حتى اليوم. وكلما حاول فريق إقليمي التدخّل في الحياة السياسية اللبنانية، مدعوماً من أحد مكونات لبنان السياسية الداخلية، اختلّ توازن لبنان الإقليمي والداخلي، واجتاحته الأزمات والحروب، لأنّ هذا الوطن بشعبه وجغرافيته وديموغرافيته... عصيٌّ على الرضوخ، أو حملِ هويةٍ غير هويته الحقيقية المتنوعة المتأصِّلة في الحرية والإنفتاح.

مع بداية الإستقلال الأول عام 1943، اتَّفق اللبنانيون على صيغة "اللاءين"، التي اعتبروها عنواناً للحياد؛ فشهد لبنان مرحلة نوعيّة من الإستقرار الأمني والإزدهار الإقتصادي، المُمَيَّز عن محيطه حتى عام 1958، عندما حاولت مصر (الدولة العربية الأكبر) كسرَ توازنه، فغرِق في حرب أهلية انتهت، باتفاق بين الرئيس المصري (جمال عبد الناصر) والرئيس اللبناني (فؤاد شهاب) على صيغة داخلية متوازنة "لا غالب ولا مغلوب"، وسياسة خارجية متوازنة. فكان الحياد اللبناني في الستينات من القرن الماضي بمباركة دولية، فاستفاد منه لبنان واستعاد دوره العربي وازدهاره الإقتصادي.

في بداية السبعينات، انكسر التوازن الداخلي بواسطة منظمة التحرير الفلسطينية، وتشجيع ودعمٍ من النظام السوري لنشر الفوضى على الساحة اللبنانية، واستثمار هذه الفوضى لاحقاً، فدخل إلى لبنان بغطاء دولي لضبط الفوضى التي صنعها؛ واستمر احتكاره والسيطرة على الساحة اللبنانية طيلة فترة الحرب الأهلية. ففقد لبنان دوره السياسي في الإقليم، وأُدخِل اقتصاده في غيبوبة؛ لكن مكوناته الداخلية استمرت متوازنة سياسياً وصمدت، لحين محاولة حكومته العسكرية، في نهاية الثمانينات كسر التوازن الداخلي لصالح تعزيز سيطرة سوريا على لبنان، في حروب عبثية فاشلة، فانهار التوازن وخضع الوطن وانتقل المحتل من ضهر البيدر إلى القصر، وفقد لبنان سيادته وأصبح الإحتلال السوري مباشراً للبنان حتى عام 2005.

بعد خروج الجيش السوري من لبنان، أصبح "حزب الله"، "الناظم الأمني" المباشر للساحة اللبنانية، كوريث للنظام السوري وكوكيلٍ مباشر للنظام الإيراني في بيروت. ودخل لبنان مرحلة التدهور الأمني والمالي والإقتصادي والسياسي... إلى أن وقع مؤخراً في القبضة الإيرانية المباشرة كرهينة للتبادل بواسطة "حزب الله" وتغطية من "التيار الوطني الحر".

يُصنَّفُ انكسار التوازن الحالي في لبنان بالأخطر على مصيره، نظراً للنتائج الخطرة التي وصل إليها على المستويات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والأمنية... ويكفي أن يقرأ اللبنانيون عن المجاعة التي اجتاحت وطنهم خلال الحرب العالمية الأولى تحت عنوان "سفر برلك"، وتسبّبت بموت نسبة كبيرة من أبنائه. كسر التوازن الداخلي الحالي في لبنان، نقله من عضوٍ في الصراعات الإقليمية، إلى رهينة في صراع الأمم، بين العالم الحرّ وبيئته العربية من جهة، وإيران وعزلتها الإقليمية والدولية من جهة أخرى؛ وأصبح لبنان رهينة بيد المحور الأضعف الذي لا يمتّ لتاريخه أو جغرافيته أو لغته أو مصالحه... بأي صلة. والأخطر من ذلك أنّ بعض المال والطعام متوفر لحارس الرهينة الذي لا يشعر بمآسي الناس الآخرين وأوجاعهم وآلامهم؛ ألم يقل يوماً "رئيس الحراس" لدى تردّي الأوضاع، شارحاً ومبرّراً عدم تأثُّره بجوع الآخرين والكارثة إن وقعت، وها هي وقعت، ألم يقل مستهتراً بمصير الآخرين: "نحن مالنا من إيران وبالدولار"، وهو يطلب منّا اليوم التخلّي عن الدولار والإتجاه نحو الشرق. وكأنّ الحراس هم جسم غريب عن اللبنانيين، وحتى عن البيئة التي ينتمون إليها، التي لا يشاركونها الأوجاع والفقر والمآسي.

نقمة اللبنانيين لا تقتصر فقط على "حراس الرهينة"، إنما أيضاً على من يغطّي عمل الحراس، على تلك الفئة التي امتهنت ظاهرياً الخطاب السيادي، لكنّها عملياً مرَّغت السيادة في وحول الإرتهان، عندما وصلت إلى السلطة مرتين: الأولى لصالح النظام السوري في نهاية الثمانينات طمعاً بمنصب، فانقلب السحر في حينه على الساحر، وأتاح للمحتلّ الرابض في ضهر البيدر الإنتقال إلى قصر بعبدا. والثانية لصالح النظام الإيراني طلباً للودّ، فانهارت السيادة على أعتاب المصالح، وتبخّر ما تبقّى من المال والإقتصاد، وتحوَّل اللبنانيون باحثين عن فيزا للخروج من الجهنّم التي أوصلهم إليها هذا الفريق.

إنكسار التوازن اللبناني في ظلِّ السلطة الحالية التي ترتكب الجريمة وتغطيها، وضع لبنان في مصاف الدول الفاشلة وعرّض شعبه لمجاعة لم يشهد لها مثيلاً منذ مئة عام. لكن الخطورة في الإفلاس الذي وصلت إليه اليوم السلطة الحاكمة في لبنان، هي بوصولها إلى الإقرار بالفشل واليأس بعدما لعبت كل أوراقها؛ ومؤخراً ظهر ذلك جليَّاً من خلال تخبُّطها الديبلوماسي كمن يحاول إحياء العظام وهي رميم. باختصار أثبت تاريخ هذا الوطن أنّ توازنه شرط أساسي لديمومته وازدهاره ورفاهية شعبه؛ ولعب دوره التاريخي في المنطقة والعالم. وكل محاولة لكسر هذا التوازن وانفراد فريقٍ بتقرير مصيره كانت تجرّ عليه الويلات والحروب والفشل، لدرجة أن كسر التوازن الحالي قد يؤدّي إلى اغتياله. فلِمَ لا نعمل معاً على تحييده عن الصراعات الإقليمية والدولية لضمان ديمومته كوطنٍ مميّز في المنطقة والعالم قبل أن يداهمنا بانحلاله؟