د. فادي كرم

اليسار الجديد والحركات التحرّرية

6 نيسان 2021

02 : 00

يشهد لبنان في السنوات الأخيرة عودةً للحركات اليسارية المنشأ، إذ عدنا نسمع صدى شعاراتها العقائدية في الساحات اللبنانية، خصوصاً بعد الانفجار الشعبي العفوي في 17 تشرين الاول 2019، عندما لمست هذه المجموعات أنّ النقمة الشعبية على الوضع المعيشي المهترئ، أتاحت لها العودة الى نشاطاتها المطلبية المعهودة، والجاذبة للمظلومين والمقهورين، وسهّلت لها التجييش ضدّ رؤوس الاموال والقطاع الخاص المتفلّت، وسمحت لها بتوجيه الاجواء الثائرة واستيعابها في داخل محورها الممتدّ من زمن الحرب الباردة بين الرأسمالية الجشعة والشيوعية المحدودة، مستبدلةً هويتها الصوريّة بقناعٍ جميل أكثر جذباً للثائرين الشباب، وهو "التحرّرية".

أدرك اليسار العالمي في القرن الماضي فشل نظرياته الاقتصادية الموجّهة وعقائده الشمولية، حين انهارت أنظمته في جميع الدول التي حكمها بفعْلِ الازمات الداخلية. وبزوال المعسْكَر الحاضن لحكّامها، تبيّن لها بأنّ الاستمرار باستخدام النقمات الشعبية ضدّ اللاعدالة الاجتماعية الناتجة عن الرأسمالية لم يعد ينفعها، بفعْل التعديلات التي أجرتها الدول الرأسمالية على نفسها، وتوجّهها لربط فئات المجتمع الوطني بمصيرٍ واحد، وتحقيقها لنسبة أكبر من التوازن الاجتماعي. فمع النجاح النسبي لمعظم أنظمة الاقتصاد الحرّ بتحقيق الضوابط القانونية التي ساعدت على تقليص الفوارق بين المواطنين، وتأمين المتطلّبات الاهلية والانسانية لكافة أبناء المجتمع، وحفظ الحقوق العامة من دون التضحية بالسوق الحرّة والمفتوحة، ومن دون إلغاء المبادرات الفردية والملكية الشخصية، ومن دون المسّ بالقطاعات الخاصة، أسقطت بذلك العقائد المغلقة، والعصبيات الاثنية والدينية، وأنشأت دول المؤسسات القوية. وبذلك، قضت على الأفكار الشمولية، زارعةً اليباس، لتحوّله مساحاتٍ خضراء، بدل تركه عرضةً للتآكل بنيران اليسار العبثية.

إختفت الأنظمة اليسارية القمعية في نهايات القرن الماضي، ولكن افكارها العاملة على الضرب على وتر الاختلافات والفروقات، لم تمت، بل تجدّدت بشعاراتٍ جديدة، وآلياتٍ أخطر، وأسلحةٍ أفتك، وبقي عدوّها هو ذاته، أي النجاحات الفردية، والالتزام الاهلي. فالشمولية تعتبر أنّ اكثر العوائق صعوبةً بوجه انتشارها، هو قناعة الفرد بملكيته، أكانت مادية أو فكرية أو سلطوية، وتمسّك الجماعة بانتماءاتها، أكانت انتماءً قومياً، أو طائفياً، أو حزبياً، أو محافظاً. ولذلك، تسعى حالياً لجذب الفئات الشابّة، التي تميل الى كسر الجمود، والتحرّر من التقاليد، والخلط بين الطموح والتحرّر. وهذا الواقع يعطي الفرصة لليسارية الجديدة، بنسختها المُجمّلة "نيو براند" أي الليبرالية المُقنّعة، لخرق المجموعات المدنية وضمّها لصفوفها.

ولكن هل يعني هذا أنّ اليسارية المُتجدّدة قد عدّلت ببرامجها وأهدافها واستراتيجياتها، أو أنها لجأت فقط لتكتيكات جديدة برّاقة؟ وهل سينتج عن مغامراتها الحالية نتائج سلبية ام ايجابية؟ علماً أنّ الكثير من اليساريين القدامى تخلّوا عن التنظيمات اليسارية السياسية، ومضوا في العمل الفكري والاجتماعي والمدني، واعطوا الكثير من النظريات الانسانية المتفوّقة، التي أدّت الى تطوير المجتمع والاقتصاد والعقد الاجتماعي وعلاقة الناس مع بعضها البعض ومع السلطات.

وبعودتنا الى القرن الماضي، نجد أنّ جميع الدول التي حُكِمت من الانظمة اليسارية، سقطت وانهارت، من دون استثناء، بالرغم من أنّ الظروف الشعبية كانت مؤاتية لها، بطبيعة تأمّل الناس بالوعود التي أغدقتها الانظمة عليها، من حياة هنيئة وعادلة وكريمة. امّا اليوم فالخشية هي من أن تدخل الانسانية مجدّداً، بالتجربة الفاشلة نفسها، وهذه المرّة تحت شعار "التحرّرية" بدل "الشمولية"، وبسلوك التاريخ درب الأخطاء ذاتها، تأتي المآسي في المرّة الثانية بشكلٍ أقسى وأصعب، مع الاشارة الى أنّ الخطورة في هذه المرّة أعلى وأكبر، نظراً لاستيطان الافكار العبثية في مجتمعاتٍ جديدة كانت عصيّة عليها في الماضي القريب، حيث تغلغلت بدهاءٍ في أروقة الاحزاب الليبرالية، في دولٍ شكّلت السدّ المنيع بوجهها في القرن السابق، كما تستغلّ شخصيات هاجرت الى تلك الدول، واستوطنت، ونجحت بأعمالها، وشكّلت ثروات كبيرة، واحتلت مراكز مهمّة في الاحزاب الليبرالية هناك، وتطمح الآن للعودة الى أوطانها الاصلية لأخذ أدوارٍ سياسية تحت جناح التطوّر التحرّري. ونتلمّس في الوقت الراهن قدراتها على التأثير على السياسات الخارجية لهذه الدول، من خلال الاحزاب الليبرالية الساعية لاصوات المهاجرين، ونجاحها بفرض نظرياتها على إداراتها. وهذا الأمر يُفيد أنظمة قمعية وتوسّعية موجودة في منطقة الشرق الاوسط، تُشبه الى حدٍّ كبير تلك الأنظمة التي حكمت في القرن الماضي نصف الكرة الارضية. وبدعمها ايضاً لبعض النشاطات المشبوهة للمجموعات التحرّرية في عدة بلدان من هذه المنطقة الحسّاسة من العالم، تستفيد الأنظمة الاقليمية التوسّعية بالاستمرار بمشاريعها على حساب مصالح الشعوب، تماماً كما حدث في سبعينات القرن الماضي، عندما ساهمت الشيوعية الايرانية بإسقاط نظام الشاه في الشارع، واستسلمت من بعدها للثورة الاسلامية فأسلمت الروح، وسلّمت الشعب الايراني الحضاري والمتطوّر لنظامٍ وادارةٍ متخلّفة وقمعية.

واذا كانت الحرّية الفردية لا تتأمّن الا ضمن أوضاع اقتصادية جيدة واستقلالية شخصية مؤمنة، فهذه المجموعات اليسارية المُقنّعة بالأفكار التحرّرية تسعى لقتل الحرّية الفردية المسؤولة، من خلال ربط الفرد والجماعة بمشروعها، وبذلك تقتل القرار عندهما، وتصادره لصالحها، وكما قال شارل مالك "إنّ فعل صناعة التاريخ تصنعه ثلاثة عوامل أكيدة ؛ الحرّية، والمسؤولية، والقرار. فقط الانسان الحرّ يستطيع أخذ القرار، وفقط الانسان المسؤول يملك الحرّية للقرار، وفقط صاحب القرار يستطيع صنع التاريخ".

إنّ كل حركةٍ لا تطمح لتدعيم وتحصين الحرّيات الفردية المسؤولة، هي حركات سلبية تؤدّي الى نتائج مُدمّرة، تدفع لتعاظم الظلم وقتل الروح التعاونية، وتسمح للأقوياء بالتحكّم بالمجتمعات، وتطفّش النجاحات، وتحدّ التطوّر الناتج عن التنافسية. إنّ الحركات التحرّرية ليست الا الزوبعة "التويستر" التي تمرّ في مدينةٍ ما، لتتركها من بعدها دماراً، ودروس التاريخ كثيرة ومثيرة بهذا المجال.

"التحرّر بوجه الحرّيات"، والقرار الاخير للشعب الثائر، فهل تكون ثورته شمولية فوضوية تفتقد لبعد النظر، أو تكون ثورة حكيمة إصلاحية ورشيدة؟؟؟

MISS 3