د. هشام حمدان

مسؤولية البطريرك المضاعفة في غياب رؤية موحّدة للشارع والمعارضة

7 نيسان 2021

02 : 00

غياب رؤية موحّدة في الشارع (فضل عيتاني)

منذ اندلاع ما سمي بثورة "17 تشرين" 2019، رفع المتظاهرون شعارات تحمل على السلطة السياسية بحجة الفساد، مطالبة باسترداد أموال الناس المنهوبة. لم يبق حزب من أحزاب السلطة لم يتبن هذا الشعار، وكأن الفساد شبح مجهول. وتقاذفت الأحزاب المسؤولية في ما بينها، وكأنها لم تكن شريكة في حكم البلاد لسنوات طويلة. ورغم ذلك استمر الناس في صراخهم المجتر من دون كلل أو ملل.

وبعد التفجير الإجرامي لمرفأ بيروت في آب 2020، رفعت الثورة شعار "الإهمال والفساد" كسبب لهذه المأساة، متجاهلة كل القرائن التي تشير إلى غارة إسرائيلية، والى استخدام المواد المتفجرة في الأعمال الحربيّة للأطراف الإقليميّة المتصارعة على الساحة اللبنانية.

حضر الرئيس ماكرون إلى بيروت، وكذلك مساعد وزير الخارجيّة الأميركي دايفيد هيل، وزارا موقع الجريمة. ناشدت سيدة من المتضررين الرئيس ماكرون مساعدة لبنان، فرد نريد أن نعرف مطالبكم. وزار ممثلون لمجموعات الثورة السفير هايل راغبين بطلب إحالة الجريمة إلى المحكمة الجنائيّة الدوليّة، فحذرهم أحد القانونيين منبهاً إلى أن أميركا "ضد المحكمة". وكان الرئيس ترامب اتخذ عقوبات ضد المدعي العام للمحكمة لمنعها من متابعة دورها الحر في تقصي الجرائم الموصوفة بأنها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وإبادة، فامتنعوا عن ذلك.

ظلّت متابعة المنازلة الداخليّة أهون السبل للثوار والأحزاب. لا يهم إنقاذ لبنان والعدالة له ولشعبه، بل المهم النفاذ من المساءلة سواء المحليّة أو الدوليّة. وأبسط طرق النفاذ من المسؤوليّة الداخليّة هي في إعادة شرذمة الشارع. وأبسط الطرق للنفاذ من المساءلة الدوليّة، هي إلتزام كل منهم بالطرف الخارجي الذي يحميه.

لذلك سعت أحزاب المعارضة لأن ترمي وزر المشاكل في لبنان على إيران وحزبها في لبنان والأطراف المتحالفة معه ومعها، بما في ذلك النظام السوري. أما أحزاب الموالاة فسعت الى رمي المسؤوليّة على أميركا وحلفائها، مذكرة بانها مقاومة "لإسرائيل". واتهمت هذه الأحزاب من يحمل عليها من المعارضة، بـ"العمالة لأميركا وإسرائيل". المعارضون ردوا باتهام الطرف الآخر"بالعمالة لإيران والنظام السوري". أما الثورة فما زالت ترى أنها غير معنيّة بموضوع "العمالة"، سواء لهذا الطرف أو ذاك. ما يعنيها هو الفساد وضرورة تغيير السلطة. وبالنسبة اليهم فإن التغيير يتم فقط بإجراء إنتخابات مبكرة.

حاولنا مراراً ومن دون جدوى، أن نقنع الثوار أن لا إصلاح ولا مكافحة للفساد ولا انتخابات مبكرة، طالما ظلّ لبنان ساحة لهذا الصراع الإقليمي الدولي. وقلنا ان أحزاب المعارضة كما أحزاب الموالاة، هي جزء من هذا الصراع. وعليه فالمطلوب وضع برنامج إنقاذي يقوم على تحديد مبادئ العدالة للبنان وشعبه، وعلى حياد لبنان وإخراجه من دوامة ذلك الصراع. والمؤسف أن معظم الذين يخرجون إلى الإعلام والرأي العام هم من الفئات الثلاث المشار إليها: فئة أحزاب المعارضة، وفئة أحزاب الموالاة (أحزاب المعارضة والموالاة التي تشكّل السلطة بشكل عام)، وفئة المصرين على أنهم يقودون مجموعات الثوار، وغير معنيين سوى بالفساد وتغيير السلطة والإنتخابات المبكرة.

من هو الذي يحمل الآن مسؤولية مواجهة هذه الفئات الثلاث وإنقاذ لبنان؟ قلنا انه غبطة البطريرك بالتعاون مع القادة الروحيين الأحرار، الذين عليهم أن ينظروا أولاً إلى واجب إنقاذ لبنان ووضع الأمور في نصابها، من دون أخذ موقف لإرضاء أي من هذه الفئات. وقلنا اننا نتوقع أن يرفع غبطته مطلب العدالة للبنان وشعبه، إضافة إلى شعار حياد لبنان.

رفع غبطته شعار حياد لبنان معتبراً انه المدخل لتحقيق السيادة الوطنية. لكن غبطته ما زال متردداً برفع شعار العدالة. سعينا إلى إقناعه بأن لا سيادة ولا حياد للبنان، من دون تحقيق العدالة لبلدنا وشعبنا. فالسيادة والحياد لن يتحققا طالما أن لبنان ساحة صراع كما أشرنا آنفاً. وإخراج لبنان من هذا الصراع واستعادة السيادة، لا يكفيان بطلب الحياد، بل ايضاً بطلب العدالة التي لا تميّز في المسؤولية بين الأطراف الخارجيّة لواقع الحالة التي وصل لبنان إليها، ولا سيما من خلال طلب تنفيذ القرارات الدوليّة المتعلقة بلبنان.

سارعت أحزاب المعارضة إلى طلب لجنة تحقيق دوليّة للتحقيق في تفجير المرفأ. وكذلك للمطالبة بتنفيذ القرارات الدوليّة، مصرّة فقط على القرارات 1559 و1701. أما أحزاب السلطة فرفضت التحقيق الدولي، كما رفضت هذين القرارين. قلنا انّ مطالب أحزاب المعارضة فئوية؛ لأنها ذات بعد سياسي يستهدف الفريق الآخر، ولا سيما إيران وحزبها، وهو ليس إنقاذياً للبنان. وهذا الموقف لا يخدم العدالة بل يهدف لإرضاء الفريق الدولي الذي يتحالف معه، مما يجعل هذه المطالب، جزءاً من أسلحة الصراع المستمر على ارض لبنان. وكان مفهوماً أن يؤكد الجانب الآخر معارضته لهذه المطالب. وقلنا ان المطلوب هو أن يذهب غبطة البطريرك والقادة الروحيون الأحرار من كل الطوائف، إلى الأمم المتحدة والمطالبة بتنفيذ كل قراراتها المتعلقة بلبنان، بدءاً باتفاق الهدنة لعام 1949، مروراً بقراراتها المتعلقة ببناء السلم بعد النزاع في دول مثل لبنان، وصولاً إلى القرار 1701، الذي يؤكد على موجب تنفيذ القرار 1559 وضمان التنفيذ الكامل لاتفاق الطائف. تنفيذ هذه القرارات هو المدخل لتحقيق العدالة للبنان. فإتفاقية الهدنة لا تمنع فقط إي طرف داخلي او خارجي من استخدام لبنان ساحة لحروبه ضد إسرائيل، بل تمنع إسرائيل ايضاً من إستخدام لبنان ساحة لحروبها ضد الآخرين. كما أن تنفيذ قواعد بناء السلم بعد النزاع تعني المساعدة في تحقيق مطلب مكافحة الفساد، والإنتخابات النيابية الشفافة، والمساعدة في تنفيذ إتفاق الطائف، وإقامة القضاء المستقل، وكذلك حل التاريخ الدموي المزروع في ذاكرة الأجيال، من خلال مؤتمر للمصارحة والمصالحة على غرار ما تم في جنوب أفريقيا عند نهاية حقبة الأبرتايد. وقلنا ان لجنة تحقيق دولية لن تأتي بالعدالة لضحايا تفجير المرفأ كما تمّ بالنسبة للتفجير الإرهابي الذي أودى بالرئيس رفيق الحريري، إضافة إلى أنها ستضع نفقات جديدة على كاهل لبنان والمواطن. تفجير المرفأ ليس عملاً إرهابياً يحتاج لمحكمة خاصة، بل جريمة موصوفة ضد الإنسانية. والعدالة لضحاياه تفترض أن تقوم الهيئة القضائية الدوليّة القائمة والمستقلة والممثلة بالمحكمة الجنائية الدوليّة بهذا التحقيق. ولاحظنا أنّ هذا الأمر لن يلزم لبنان مجدداً بدفع الأموال الطائلة. كما شددنا على أنه يجب ألا نذهب إلى المحكمة بادانات مسبقة، بل أن نحمل كل القرائن المتوفرة بشأن هذا التفجير، لتقوم المحكمة بالتحقيق وتقرير المسؤول.

طالب غبطة البطريرك بمؤتمر دولي برعاية الأمم المتحدة. لكنه لم يحدد ما هو المطلوب من هذا المؤتمر. غبطته لم يحدد مطلباً محدداً كما أراد الرئيس ماكرون في رده على السيدة اللبنانيّة. لذلك ما زلنا في المجهول تتقاذفنا مصالح الأطراف المتصارعة على أرضنا. نحن لم نتردد أن نرفع مجدداً مقترحنا للإنقاذ الواضح لتقديمه إلى المجتمع الدولي، والمبني دائماً على اعتبارات العدالة للبنان وشعبه، واستعادة السيادة والإستقلال والحرية. ولكننا ندرك تماماً أن لا أمل في أي شيء نقوم به، إذا لم يقرر غبطة البطريرك تحمل المسؤولية المضاعفة في غياب رؤية موحدة للشارع والأحزاب.