جورج عقيص

لا تغيير سياسياً بلا تغيير جماعي في السلوك

8 نيسان 2021

02 : 00

لتغيير جماعي في السلوك (فضل عيتاني)

أفرِغَت جميع معاجم الشكوى والغضب واليأس دفعةً واحدة وأُلقِيَت في وجوه المسؤولين، المسؤولين المفترضين عن خراب لبنان، دولةً وفكرةً وجمهورية ومؤسسات.

ولكن مهلاً... من هم المسؤولون المفترضون عن هذا الخراب؟ السياسيون، الميليشيويون – قدامى وجدد -، الفاسدون المحتكرون وكارتيلاتهم الاقتصادية وطبقيّتهم الاجتماعية – اصيلة او حديثة مستعارة -، زعماء الطوائف من أحبار ومدنيين؟

هل هؤلاء مجتمعين هم فقط المسؤولون المفترضون عن انهيار الصيغة اللبنانية؟ ماذا عن أتباعهم، عن المستفيدين منهم، عن مستسيغي الاستقواء بهم بدل الاستقواء بالقانون والدولة وهيبتهما، عمّن يقيمون الأشخاص آلهةً والدولة خادماً بدل أن يكون الجميع في خدمة الدولة والوطن؟

ثمّ هل أن تجهيل الفاعل يفيد الحقّ أكثر من السير باتجاه تحديد المسؤوليات الموجعة؟ وهل أن "طيّ الصفحة" والكتابة على أخرى يطفئ التهاب القلوب المجروحة والجيوب المثقوبة، أم التفتيش عمّن أهدر، واستفاد، ورعى، وتواطأ، وشارك في كل عمليات الفساد الممنهجة منذ الطائف على الأقلّ وحتى اليوم، ومحاسبته تحت سقف القانون ووفقاً لأحكامه؟

ولكن، بالمقابل، هل سيقبل جمهور الآلهة السياسيين بإدانة الزعيم من دون أن يُدان الخصم، ولو غير مرتكب؟ وهل بالإمكان، في وضع لبنان اليوم، الوثوق بأنّ أي عملية تدقيق ستكون بالشفافية القصوى المطلوبة للمحاسبة عن حقبة تمتدّ لأكثر من ثلاثة عقود، من دون أن تتحوّل الى أداة للتشفّي أو الانتقام أو الكيد السياسي؟

أنا لست مع طيّ الصفحات السوداء من دون محاسبة من تسبّب بسوادها ومن دون الاتعاظ من تجاربها. مع الأسف تعوّدنا في لبنان على ممارسة "العفو الخبيث" حيث لا محاسبة ولا استخلاص دروس في آنٍ معاً، وفي ذلك قمّة العبث، ووصفة جاهزة للانهيار واستعداد عضوي وخلقي لتكرار شريط التجارب السيئة.

ما نحتاجه اذاً للبحث عنه اليوم قبل الوصاية الدولية، أو قبل الذهاب الى حرب جديدة، وما قد يُبقي على لبنان حيّاً قبل أن يلفظ، كوطن، أنفاسه الأخيرة، هو محاسبة شاملة عن المرحلة الماضية، وتحضير للمرحلة القادمة تستبعد بوعيٍ كامل كل مسببات الأخطاء القاتلة الماضية.

ولكي نصل الى هذا السيناريو لا بد من: التغيير الجماعي في السلوك.

انها الخلاصة الوحيدة التي يمكن الوصول اليها مهما حاولنا التأمل في أسباب ما وصلنا اليه والتبصّر في الحلول المتاحة للخروج منه سريعاً. نحن نحتاج فعلاً الى تغيير جماعي في السلوك الاجتماعي/ الأخلاقي/ السياسي.

قد يكون زمننا الحاضر زمنَ تغيير، صحيح. ولكن هل يرغب كل الشعب اللبناني بالتغيير؟ مسألة فيها نظر. فكما أن تعميم السوء على كل من عمل بالسياسة في لبنان مجحف، كذلك التعميم من خلال التأكيد على أنّ كل الشعب اللبناني يريد التغيير أو هو جاهز له، تأكيد متسرّع، إن لم نقل ساذجاًَ.

في جميع الأحوال، لن يستقيم التغيير الإيجابي نحو الأفضل الا بتضافره وتزامنه في وقتٍ واحد داخل الطبقة السياسية من جهة وعلى مستوى الشعب بأكمله من جهةٍ أخرى. اذ لا يظنّن أحد أن طبقةً سياسية مثالية يمكن أن تصل بانتخابات يقترع فيها شعب غير مقتنع أو منخرط تماماً بعملية التغيير. بالمقابل، لا يمكن للتغيير الجماعي في السلوك على مستوى الشعب الا أن يحمل معه التغيير المنشود في الطبقة السياسية، ويكون وجهاً من وجوه هذا التغيير في السلوك ومظهراً واقعياً من مظاهره.

ما سبق ذكره يرقى الى علم الرياضيات وليس مجرّد افتراضات أو استنتاجات. انها سنّة ومعادلة. لا يرتجى التغيير السياسي في وطن لم تتغيّر سلوكيات شعبه وتفاعله مع الأحداث ونظرته الى المستقبل وتقييمه للتاريخ.

لا أرمي هنا المسؤولية كاملةً على الشعب، بل أحاول أن أتلمّس مكامن نسبية من مسؤوليته عمّا آلت اليه أحوالنا، كما أحاول أن أجترح خلطةً فكرية تمزج بين الواقعية والمثالية، بالقدر الذي تحتاجه بيئتنا السياسية الناشئة اليوم من كلّ منهما، لكي نعبر الى دولة حقيقية بعد مئة وعام من التخبّط.

فصحيح أنّ الإصلاح يأتي من فوق، الا أنّ المحاسبة تأتي من تحت. بمعنى أن أي سلطة سياسية لا تمنح شعبها القدر الذي يطالب به من الإصلاح – وبالتالي الرفاه – هي سلطة يجب أن تحاسب من قبل هذا الشعب، تُسقط سلمياً في الشارع أو في صناديق الاقتراع، لكي تقوم على أنقاضها سلطة تعطي الشعب القدر الذي ينشده من الإصلاح.

وصحيح أنّ نظام الحكم تقرّره السلطة السياسية بنصوصٍ شتّى، الا أنّ اقتناع الشعب بهذا النظام أو ذاك، واعتناقه من ثمّ، هو الذي يطلق يد السلطة في إجراءاتها ويرسم لها مسارها واتجاهاتها. وإذا كان نظامنا السياسي في المئة عام المنصرمة قد تميّز بالطائفية القصوى، والمركزية الحادّة، والانفتاح المَرَضيّ على محاور الإقليم والعالم واستجرارها الى الداخل، فإنّ المنطق يشي بوضوح أنّ العلاج يفترض بنا التفكير بنظام لاطائفي، لامركزي وحيادي.

وحده إقرار الحياد بين العناصر الثلاثة المذكورة قد لا يحتاج الى دعم شعبي واسع أو مساندة جامعة من الشعب، اذ هو يحتاج أكثر الى توافق دولي حوله والى قرار سيادي من الدولة اللبنانية. الا أنّ إلغاء الطائفية وإقرار اللامركزية يحتاجان الى تغيير جماعي في السلوك الشعبي والسلطوي لكي يصيرا واقعاً، وقد لا يكفي جيل واحد من اللبنانيين لكي يعتاد على فكرة الحصول على خدماته من سلطاته المحلية، بدل السلطة المركزية التي لا يسهل له الوصول اليها الا من بوابة السياسيين وبمفتاح الطائفية، أو لكي يعتاد على سلطان الكفاءة والجدارة في تبوؤ المناصب بدل لباس الطائفية ورداء الزبائنية يرتديهما طمعاً بالوصول.


النائب عقيص



التغيير الجماعي في السلوك، أكرّر، أشدّد وأناشد.

تغيير في السلوك من ريعي استهلاكي الى ابداعي انتاجي، تغيير في السلوك من تربوي تقليدي تلقيني الى علمي عصري بحثيّ، تغيير في السلوك من الاستمتاع الجماعي بمخالفة القانون ومعاداة النظام الى الاقتناع بالالتزام بالقانون وحمايته.

نظامنا السياسي يحتاج الى تغيير؟ طبعاً. ولكن التغيير لا يأتي بشكلٍ مفاجئ بصحوة ضمير من سلطة قائمة أو باقتحام مجموعة من الصالحين المشهد السياسي واحتلال السلطة. التغيير يأتي من خلال تعديل الخيارات الشعبية ومن خلال اقتناع كل مواطن أن تكوين السلطة في لبنان هو بمثابة لوحة زيتية مترامية الأطراف، حيث كل مواطن يحمل ريشةً يلوّنها باللون الذي يمنحها شكلها النهائي، والريشة هنا هي فعلياً الصوت الانتخابي الذي يمارس من خلاله المواطن حقّه في المشاركة بتكوين السلطة.

من غير المتوقّع أن ينتخب الجاهل، أو الفاسد، أو الخارج عن القانون، ممثّلاً عنه لا يشبهه أو لا يغطّي له فساده وخروجه عن القانون، أو لا يتشارك وايّاه في الفساد والخروج عن القانون.

فخيار الناخب بالمحصّلة يعكس سلوكه وانتظاراته ورؤيته للممثّل أو الحاكم. وقلّة هي الأحزاب التي تساهم في تأطير هذا الخيار أو تحسينه. هنا أيضاً يتظهّر خلل إضافي يضيف حاجزاً آخر يعيق التغيير الجماعي في السلوك.

إذ فضلاً عن أنّ قانون الأحزاب اللبناني قد أصبح "عميد" القوانين اللبنانية ويعود الى الحقبة العثمانية، فإنّ تركيبة الأحزاب الحالية تحاكي عند اللبناني مشاعر الخوف من الآخر، التقوقع على الذات والبيئات الطائفية الواحدة، وسلطان الشخص على العقيدة وتماهيه معها وأحياناً تقدّمه عليها في وجدان الجماهير، بدل أن تحاكي همومه اليومية وقضايا الفكر المعاصر والنظرة الأمثل الى الحكم الرشيد وازدهار الشعوب، وهي عناصر نموّ الأحزاب جماهيرياً في الدول الديموقراطية الناضجة، ونوتات المخاطبة السياسية التي تعتمدها اجمالاً.

لن أتوسّع كثيراً في دور الأحزاب في الاسهام بالتغيير الجماعي في السلوك، لأنّ ذلك يتطلّب مقالاً مستقلاً وموسّعاً. أكتفي، في هذا المجال، بالتعبير عن رضاي عن حركة الحزب الذي أنتمي اليه في هذا الاتجاه.

أعود الى صلب الطرح: كيف نصل الى التغيير الجماعي في السلوك؟

ليس صدفةً أن تنصّ مقدّمة دستورنا على أن الشعب هو مصدر السلطات. وما هو مصدر الشيء عادةً يشبهه. الشعب مصدر السلطات، مبدأ له تكملة ضمنية: "والسلطة مرآة الشعب".

إنّ تغيير السلطة يفترض بالتالي تغييراً جماعياً في السلوك، نحو اذعانٍ تجاه القانون، نحو محاسبة ديموقراطية حادّة، ونحو ايمانٍ بقدرة لبنان على أن يكون دولة سيّدة، حرّة، متطوّرة، تشبه جيل الشباب المثقّف الذي ترك وطنه لأنّ هذا الوطن لم يفعل أي شيء لاستبقائه.

إنّ رقصة التانغو التي أتقنّاها وتعثّرنا في خطواتها كانت تقوم على ايقاعين: الشعب يحتال على القانون، ايقاعٌ أوّل، والدولة تنهب الشعب ولا تقدّم له أي خدمة كاملة، ايقاعٌ ثانٍ. هذه الرقصة تحتمل اتجاهاً آخر: الشعب يحترم قوانين الدولة، ينتخب ممثّلين أكفّاء، فتقوم عندها دولةٌ تحمي الشعب وتؤمّن رفاهه.

عندها يصبح الشعب مصدر السلطات الصالحة، وتصير السلطات مرآة الشعب الواعي.

لقد خلق الشعب اللبناني سلطةً ممسوخة، خاف منها، لعنها، أعلن عدم ثقته بها، ونسي أنّها صنيعته، بنسخٍ متكرّرة وسلوكيات متشابهة.

صحيح أنّ هذه السلطة لم تترك للشعب ترف التقويم السياسي والفكري والنقدي، فأرهقته بصراعاتٍ وحروب ومعضلات اجتماعية لا تنتهي، بيد أنّ الوقت قد حان لخروج الشعب من مصيدة السلطة والكفّ عن السير بالدروب التي ترسمها له لحرفِه عن بلوغ نقطة النهاية، وهي نقطة مزدوجة لنهاية هذه السلطة وبداية لبنان الجديد.

إنّ الوقت قد حان لوضع كل الخطط التي تستولد يومياً جانباً، والتوقّف عن النواح وعن تقاذف المسؤوليات عمودياً وأفقياً، والشروع بأصعب رحلة نحو التغيير الجماعي في السلوك.

التغيير الجماعي في السلوك، تأكيد على قوله تعالى: "إنّ الله لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم".


MISS 3