مريم سيف الدين

الهيئة الوطنية للطاقة الذرّية تعمل... واللبناني يخصّب النكات

10 أيلول 2019

00 : 38

النائب السابق خالد زهرمان باحث في الهيئة
يستخدم علم الذرّة في لبنان كمادّة للتهكّم والسخرية، ويبرع البعض في تخصيب النكات، والافتراءات أحياناً. وعلى الرغم من مرور نحو 23 عاماً على تأسيس الهيئة اللبنانية للطاقة الذرّية، لا يزال "اللبناني" يتفاجأ بوجودها في كل مرّة يمرّ فيها بالقرب من مقرها الكائن على طريق المطار، ويسأل عن جدوى إنشائها. معذور من يسأل، فهو لم يدرس علم الذرّة ولا يدرك مجالات استخداماتها الشاسعة وأنّ في لبنان مواد قد تستخدم في تخصيب اليورانيوم وإعداد القنابل القذرة إن وقعت بأيدٍ قذرة. من مهام الهيئة الحرص على ألا يحصل ذلك، ويبدو أنها نجحت حتى الآن. إذ أعربت الوكالة الدولية للطاقة الذرّية عن رضاها على نتيجة الكشف الذي أجراه مفتشوها للمرّة الأولى في لبنان في شباط الماضي، بعد أن تفقّدوا المواد النووية الموجودة لدى شركة طيران الشرق الأوسط والجامعة الأميركية في بيروت.



تستقبلك عند الدخول إلى المبنى المجهز بمعدات علمية بملايين الدولارات إجراءات أمنية مشددة. لم تدفع الدولة اللبنانية ثمن هذه التجهيزات، إنما تمكنت "الهيئة" من الحصول عليها كهبات من جهات ودول مختلفة وبناءً على اتفاقات تعاون تقني مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. بعض هذه التجهيزات نادر في لبنان وقد لا تتواجد في مكان آخر منه. مهام عديدة وكثيرة تتولاها الهيئة التي يعمل فيها 55 موظفاً بينهم 40 باحثاً يكشفها في مقابلة مع "نداء الوطن" رئيسها الدكتور بلال نصولي والذي يترأس منذ العام 2012 الهيئة العربية للطاقة الذرية. ويبيِّن كلام نصولي أنّ الهيئة تعمل في مجالات كثيرة متنوعة: الأمن، الصحة، الزراعة، التجارة، استخراج النفط، مكافحة تزوير الأموال والزعفران، دراسة الآثار، إجراء الأبحاث العلمية وضبط تصدير المواد المشعة إلى ومن لبنان... وغيرها الكثير.

اليوم، تلعب الهيئة، دوراً بارزاً تمهيداً للتنقيب عن النفط والذي طال انتظاره. فوجود هيئة رقابية للطاقة الذرية شرط للبدء بالتنقيب عن النفط، وفق نصولي. عند بدء التنقيب (نشالله) ستستخدم في أعمال الحفر وفحص نوعية وكمية النفط، مواد مشعة، لا يمكن إدخالها إلى لبنان من دون تصاريح من الهيئة الوطنية للطاقة الذرية، التي ستراقبها وتحرص على استخدامها بالشكل المطلوب. وهو ما لا يدركه المطالبون بحلّ الهيئة، بذريعة التقشف، بينهم مسؤولون كبار. وفي حين يعبّر نصولي عن انزعاجه من اتّهام موظفيه بالبطالة لمجرد أنهم موظفو دولة، مشيراً إلى أن الهيئة تؤمن لخزينة الدولة نصف مليار ليرة كدخل سنوي يضاف إلى الخدمات التي تقدمها. "فالهيئة تؤمن لخزينة الدولة عائدات بقيمة 2،5 مليار دولار من خلال الخدمات المدفوعة التي تقدمها، بينما تخصص لها الدولة ميزانية بقيمة 2 مليار ليرة فقط".


الجهاز الذي يستخدم في تحليل العملات


ضبط المواد المشعة

بسبب الحروب وأخبار المفاوضات النووية رسخ في أذهان العامة ارتباط "الطاقة الذرية" بالأسلحة والحروب والقوّة فقط، يقول نصولي "إن ما نسبته واحد بالمائة فقط من استخدامات الطاقة الذرية يرتبط بالسلاح و5 بالمائة منها بانتاج الكهرباء. أما الـ 94 المتبقية فهي استخدامات سلمية في قطاعات الطب، والصناعة والزراعة والهندسة.

لكنّ الاستخدام السّلمي قد يتحوّل إلى خطر كبير في حال غابت الرقابة عن القطاع وعن المواد والتكنولوجيا المستخدمة فيه، لذلك تعمل الهيئة على تنفيذ الالتزامات والمعاهدات الدولية التي وقّع عليها لبنان لحماية المواطنين من المواد المشعة وأيضاً لحماية المواد ذاتها من السقوط بأيدي إرهابيين استباقاً لوقوع كارثة. فواجب الهيئة التأكد من التزام لبنان مكافحة انتشار الأسلحة النووية. قد يقول ساخر كيف يمكن لبلد مكافحة انتشار الأسلحة النووية وهو عاجز عن مكافحة تفلت السلاح غير الشرعي والفساد! لكن مكافحة انتشار الأسلحة النووية لا تعني مكافحة سلاح نووي، "فصحيح أن لا سلاح نووياً في لبنان ولكن فيه بعض المواد النووية التي يستخرج منها اليورانيوم 235 ما يعني امكانية امتلاك وقود للسلاح النووي، لذلك نحدد أماكن تواجد التكنولوجيا المستخدمة والمواد الخام وكمّيتها ومن يستخدمها وكلها مواد تدخل إلى لبنان لدواع طبية".

في لبنان نحو 43 مستشفى تعالج السرطان بالأشعة، وتتنافس بشكل حاد لمعالجة مرضى محليين وأجانب، وتحاول تالياً اقتناء أفضل التقنيات وتجديدها باستمرار. ما يوجب على الهيئة التأكد من إخراج الأجهزة التي أصبحت خارج الخدمة من لبنان كي لا تبقى "قنابل موقوتة"، بحسب نصولي الذي أوضح "إن التقنيات المستخدمة في معالجة السرطان بالإشعاع خطرة وتبقى مشعة لعشرات السنوات، على العكس من 98% من النفايات المشعة في المستشفيات، والتي تتخلص من الإشعاع بعد أيام لتصبح نفايات صلبة غير مشعة". ويؤكد نصولي أن الهيئة تتعهد بمعالجة النفايات المشعة، "فهي النوع الوحيد في ملف النفايات تحت السيطرة".

في مجال آخر، عثر في الأعوام الماضية على نحو 130 مادة مشعّة في لبنان، بمعدل مادة كل شهر "يعني قصة" ، إحداها كانت الجرة الشهيرة التي عثر عليها عند شاطئ الأوزاعي في شهر شباط من العام الفائت. كشفت هذه المواد تهريب خردة مشعّة إلى لبنان من بلاد عربية، فتدخلت الهيئة لضبطها ومعالجتها. وينذر الدّمار الهائل الذي تسبّبت به الحرب السورية بخطر تهريب الخردة المشعّة منها إلى لبنان، في هذا الإطار يطمئن نصولي أن الهيئة متيقظة وتعمل مع المعنيين على ضبط المسألة.ويبدي نصولي ارتياحه إلى أن كل المرافئ والمعابر الشرعية وكذلك المطار مجهزة بأجهزة كاشفة للأشعة تضبط المواد المشعة لدى استيرادها وتصديرها، يطرح السؤال عن مدى امكانية ضبط تهريبها في بلد يعرف مسؤولوه جيداً عدد المعابر غير الشرعية ومواقعها ولا يقفلونها. وهنا يدرك نصولي أن المعابر غير الشرعية "أكبر من كل البلد"، لكنه يشير إلى أن "المواد المشعة الخطرة لا تفبرك في دول المنطقة"، وكأنها طمأنة بأن لا خطر بتهريب مواد نووية من البلاد العربية. ويؤكد نصولي أن الوكالة تعمل مع مختلف الأجهزة الأمنية منذ عشر سنوات، "فالأمن في هذا المجال بأغلبه وقائي عبر أجهزة المخابرات. والهيئة تعمل مع الأمن العام لإنشاء دائرة للأمن النووي في المديرية. ولدى الجيش اللبناني سرية لمكافحة أسلحة الدمار الشامل فيها أكثر من 150 ضابطاً وعسكرياً مدربين ومجهزين يقومون بالمداهمات، وحصلت عشرات المداهمات لإرهابيين في كل لبنان حيث تم ضبط مواد خطرة".


نصولي يشرح عمل الهيئة (فضل عيتاني)


ذرّة وقاية...

إجراءات أخرى اتخذتها الهيئة تحسباً لأي تسرّب إشعاعي عابر للحدود وتعمل على تطويرها. فقد نشرت الهيئة، منذ نحو ثماني سنوات، 26 محطة رصد إشعاعي موصولة بأجهزة إنذار، وحرصت على نشرها في ثكنات الجيش لتكون في عهدته تحسباً للسرقة والإهمال. نُشرت معظم المحطات في منطقتي الجنوب والبقاع "لأن الخطر الأكبر يأتي من إسرائيل"، وفق نصولي. في حال ضبط أي تسرّب إشعاعي يتم انذار العاملين في الهيئة. ولكن ماذا بعد الرصد؟ تصيبُ شكوك المواطن هنا، فلسنا مستعدين بما فيه الكفاية. لكن نصولي يؤكد أن الهيئة درّبت أكثر من 500 شخص على التعامل مع حالات الطوارئ الإشعاعية وأجرت نحو 8 مناورات في السنوات الخمس الماضية استباقاً لوقوع حدث إشعاعي، شارك فيها الجيش والدفاع المدني ووزارة الصحة، وتعمل على إكمال تدريباتها في مناطق مختلفة.

وبعيداً من المخاطر الأمنية، في مركز الهيئة العديد من المختبرات المتطورة. فاكتشاف المعنيين في لبنان بأن اللقى الأثرية التي ترسل إلى الخارج لدراستها قد لا تعود، بل يتم استبدالها بقطع منسوخة عنها، دفع بهم لإنشاء مركز لدراستها في لبنان، تبرعت اليابان بتجهيزاته. في الهيئة أيضاً مختبر لمكافحة تزوير العملة. "نستخدم التقنيات النووية في العلوم الجنائية لضبط جودة العملة النقدية التي تطبع خارج لبنان لصالح المصرف المركزي. ندرس العملة الورقية لمعرفة كيف تمت تقنية التزوير ولأي مدى تمكّن المزوِّر من معرفة ميزة الأمان، من أجل تغييرها في الطبعة المقبلة". كذلك، تتولى الهيئة مهمة "قمع الغشّ" في المسائل الحيوية والمكلفة، فمادة الزعفران الباهظة الثمن والتي تباع كالذهب بالغرام عرضة للتزوير والخلط بمواد يصعب تمييزها بالعين المجردة، لذلك يرسل التجّار العيّنات إلى مختبرات الهيئة لتحليلها والتأكّد من صفائها قبل شرائها. وتكافح الهيئة تزوير المخدرات حتى! فتتأكّد من تركيبتها.

بموجب اتفاقات تعاون مع الأجهزة الأمنية تقوم الهيئة باختبارات مجانية للعينات التي تضبط. في هذا الإطار أنقذت الهيئة أحد النواب الكولومبيين من أصول لبنانية من الظلم الذي تعرض له في مطار بيروت نتيجة خطأ ارتكبه أحد المختبرات الخاصة. فالنائب من أصول لبنانية أحبّ زيارة لبنان لتعريف ابنته على وطنها الأم، فأوقف في مطار بيروت لمجرد حمله حزاماً فيه مجموعة أنابيب صغيرة. أرسلت الأجهزة الأنابيب إلى أحد المختبرات لتحليلها فأكّد احتواء العيّنات على مادة مخدّرة. أوقف النائب وابنته لمدّة وخضع لتحقيق مطوّل. لكنّ نتائج تحليلات العينات التي أجرتها الهيئة بالإضافة إلى نتائج التحليلات التي أجرتها إحدى الجامعات الخاصة أظهرت براءة النائب الكولومبي. ولم تنجح محاولات "مراضاته" بالأوسمة وغيرها من منعه عن مقاضاة لبنان نتيجة ما تعرض له وعن المطالبة بتعويض بملايين الدولارات.

للهيئة طموحات كبيرة، دفعتها باتجاه الأبحاث سعياً لاكتشافات جديدة. وتعمل اليوم على استنباط مواد جديدة لاستخدامها في عملية تنقية السوائل من أي تلوّث إشعاعي، ويؤكد نصولي حصول الهيئة على براءات اختراع. كما تستقبل مختبرات الهيئة العديد من الطلاب ليجروا الدراسات ويعدوا اطروحاتهم.

لكن مهلاً، هل يدري اللبناني الساخر من وجود "الهيئة الوطنية للطاقة الذرية" بوجود "الهيئة الوطنية لتنفيذ التزامات لبنان تجاه الاتفاقات الدولية المتعلقة بالمواد الكيماوية والبيولوجية والاشعاعية والنووية وإدارة ومواجهة مخاطر أسلحة الدمار الشامل؟". ربما من الأفضل ألا يدري فلا يسخر من اسمها هي أيضاً... ويغرقنا بنكات أطول من الإسم.


MISS 3