جان م صدقه

هانز كونغ "Hans Kung" اللاهوتيّ الكاثوليكيّ الذي تحدّى العصمة البابويّة

13 نيسان 2021

02 : 00

في 6 نيسان الجاري، أعلنت "Global Ethic Foundation"، جمعيّة الأخلاق العالميّة التي تسعى إلى تعزيز التفاهم عبر الثقافات والأديان، عن وفاة مؤسّسها البروفسور هانز كونغ (1928-2021) اللاهوتيّ الكاثوليكيّ الليبراليّ الذي انتقد فكرة العصمة البابويّة، في كتابه "Infallible?: An Inquiry" الذي نشره في 1971، حيث أصرّ أنّ الكنيسة هي مؤسّسة بشريّة، وأنّ الباباوات يتعرّضون لنفس العيوب والإخفاقات مثل باقي البشر.

هو أحد أبرز المفكّرين الكاثوليك المعاصرين. في 1957، دافع عن التقارب بين الكاثوليك والبروتستانت. وفي 1960، علّم اللاهوت العقائديّ والمسكونيّ وشغل منصب مدير معهد الدراسات المسكونيّة في جامعة إبرهارد كارل في توبنغن "Université Eberhard-Karl de Tübingen"، ثمّ شارك في المجمع الفاتيكانيّ الثاني (1962 – 1965) في عهد البابا يوحنّا الثالث والعشرين، إلى جانب جوزيف راتزينغر، البابا المستقبليّ بنديكتوس السادس عشر. وقد ساهم كتابه "The Council and Reunion" في توفير الإطار الفكريّ لعدد من الإصلاحات التي تبنّاها المجمع المذكور. وكان كونغ من بين أصغر علماء اللاهوت في المجمع، وقد اكتسب سمعة عالميّة، كناقد فصيح يجيد ستّ لغات، لما اعتبره فشل الكنيسة في التكيّف مع العصر الحديث.

له مؤلّفات عديدة، لعلّ أجملها كتاب "On Being a Christian" أي "عن كونك مسيحيّاً" الذي يُعتبر تحفة فنيّة، واحدة من أكثر الاستكشافات جرأة واستفزازاً على الإطلاق التي صاغتها يد كاثوليكيّة حول وضوح الإيمان المسيحيّ في عصر علمانيّ حديث. على الرغم من أنّ الكتاب يتألّف من نثر أكاديميّ ألمانيّ كثيف يتطلّب الكثير من الإنتباه، فقد أصبح من أكثر الكتب مبيعاً على المستوى الدوليّ.

أبرز أفكار كونغ


عارض كونغ بيروقراطيّة الفاتيكان المنعزلة وذاتيّة الدعم التي ترقى إلى مستوى النظام الاستبداديّ. قال إن الفاتيكان أهمل لقرون مهمّته الروحيّة في أثناء سعيه إلى تكديس السلطة والثروة مع حكم البابا كملك مطلق. وشبّه أيضاً نمط الكنيسة في طاعة رجال الدين بتفكير القادة العسكريّين في ألمانيا النازيّة.

وطالب كونغ بالسماح للكهنة بالزواج، وأن يتمّ انتخاب الباباوات من قبل الكهنة العاديّين، وليس عن طريق التصويت السريّ من قبل مجمع الكرادلة. كما دافع عن حقوق متساوية للمرأة في الكنيسة، وقال إنّ تحديد النسل، الذي تعارضه الكنيسة، يجب أن يكون مسألة تتعلّق بالضمير الفرديّ. ورأى الفاتيكان أنّ كونغ يمثّل أخطر تهديد للكنيسة الكاثوليكيّة منذ مارتن لوثر الذي أدّى انتقاده للبابويّة إلى ظهور الإصلاح البروتستانتيّ، ولم يتورّع عدد من المحافظين عن الإشارة إلى هانز كونغ باسم "مارتن لوثر كونغ".

في 1979، أعلن البابا يوحنّا بولس الثاني، بتحريض من جوزف راتزينغر، رئيس مجمع عقيدة الإيمان، أنّ على الدكتور كونغ أن يتخلّى عن منصبه في جامعة توبنغن. وبحلول ذلك الوقت، كان كونغ الكاتب اللاهوتيّ الأكثر انتشاراً ومبيعاً ولديه عدد كبير من المتابعين بين الكهنة ذوي العقليّة الليبراليّة في الكنيسة. ونظّم الطلّاب تظاهرات ضدّ قرار الفاتيكان، ووقّع المئات من رجال الدين البروتستانت والكاثوليك رسائل احتجاج. ومع ذلك، لم يتخلَّ كونغ عن إيمانه الكاثوليكيّ، ولم تجرّده الكنيسة من الكهنوت.

اللقاء بين بنديكتوس السادس عشر وهانز كونغ


انتقد هانز كونغ مراراً وتكراراً البابا يوحنّا بولس الثاني والبابا بنديكتوس السادس عشر.

في بداية عهد الأخير، عُقد اجتماع في 24 أيلول 2005 بين الإثنين في قلعة غاندولفو. وأكّدت نشرة المكتب الإعلاميّ للفاتيكان، في تقريرها عن اللقاء، أنّ الاجتماع عُقد في جوّ وديّ، إذ ركّزت المباحثات على موضوعين أساسيّين في فكر هانز كونغ: مسألة "Weltethos" (أخلاقيّات العالم)، والحوار بين العقل والإيمان، فأكّد كونغ أنّ مشروعه لـ"Weltethos" ليس بأيّ حال من الأحوال مجرّد بناء فكريّ معزول، بل إنّه يسلّط الضوء على القيم الأخلاقيّة التي تلتقي حولها الأديان الكبرى في العالم، على الرغم من كلّ اختلافاتها، والتي يمكن أن يُنظر إليها على أنّها معايير صالحة - بالنظر إلى معقوليّة هذه المعايير المقنعة - بالعقل العلمانيّ. من جهته، أعاد بنديكتوس السادس عشر تأكيد موافقته على محاولة كونغ إحياء الحوار بين الإيمان والعلم، وتقديره لجهوده للمساهمة في تجديد الاعتراف بالقيم الأخلاقيّة الجوهريّة للإنسانيّة من خلال حوار الأديان وفي مواجهة العقل العلمانيّ، مؤكّداً أن الالتزام بتجديد الوعي هو من القيم التي تحافظ على حياة الإنسان. وأعرب كونغ عن موافقته على الجهود التي يبذلها البابا لصالح حوار الأديان. لكنّ الاجتماع لم يتطرّق إلى قضايا أساسيّة مثل زواج الكهنة، وكهنوت النساء، ومنع الحمل، والقتل الرحيم، وغيرها.

كان كونغ قاسياً جدّاً في احكامه على الكنيسة. ففي 29 تشرين الأوّل 2009، على سبيل المثال، احتجّ مدير صحيفة الفاتيكان اليوميّة، جيان ماريا فيان "Gian Maria Vian" على مقال كتبه هانز كونغ بشأن "الإعلان التاريخيّ الحقيقيّ من جانب الكرسيّ الرسوليّ للسماح بالدخول في شركة مع الكنيسة الكاثوليكيّة للعديد من الأنغليكان". وقد نُشر المقال الذي يحمل عنوان "سياسة البابا تجاه الأنغليكان هي مأساة"، في صحيفة لوموند الفرنسيّة، ولكن أيضاً في إيطاليا في لا ريبوبليكا، وفي إنكلترا في صحيفة الغارديان. وجاء في الردّ أنّه "لا تجدر الإشارة إلى أكاذيب وأخطاء هذه الكتابة الأخيرة لكونغ، الذي لا تنصف لهجته، مرّة أخرى، تاريخه الشخصيّ"، بينما يتجاهل "الحقائق بشكل طوعيّ". وأخيراً، استحضر مدير جريدة الفاتيكان اليوميّة "المرارة" التي شعر بها "في مواجهة هذا الهجوم غير المبرّر على كنيسة روما والتزامها المسكونيّ الذي لا يقبل الجدل".

الخيبة من عهد البابا فرنسيس


عندما أصبح اليسوعيّ الأرجنتينيّ خورخي ماريو بيرغوليو البابا فرنسيس في 2013، كان الدكتور كونغ يأمل في حقبة جديدة من الليبراليّة في الكنيسة الكاثوليكيّة، لكنّه شعر بخيبة أمل لأنّ التغيير الكبير كان بطيئاً في الظهور.

في 2016، رأى كونغ أنّه يصعب تصوّر أن يسعى البابا فرنسيس جاهداً لتعريف العصمة البابويّة كما فعل بيّوس التاسع بكلّ الوسائل المتاحة، سواء كانت جيّدة أو أقلّ جودة، في القرن التاسع عشر. كما اعتبر أنّ من غير المعقول أيضاً أن يكون فرنسيس مهتمّاً بتعريف العقائد المريميّة بشكل معصوم عن الخطأ كما فعل بيّوس الثاني عشر. ومع ذلك، سيكون من الأسهل بكثير تخيّل البابا فرنسيس وهو يبتسم وهو يقول للطلّاب: "أنا لست معصوماً من الخطأ" كما فعل البابا يوحنّا الثالث والعشرون في عصره، حسب قوله. وفي موضوع العقيدة المريميّة، كتب هانز كونغ، في كتابه (Points, 2016) أنّ ولادة مريم العذراء ليست في صميم الإنجيل، وأنّ الإيمان بالمسيح لا يعتمد عليها، مضيفاً أنّ حقيقة هذه القصّة هي في جوهرها لاهوتيةّ: مع يسوع، الذي يأتي من الله، نشهد "بداية جديدة حقّاً في تاريخ العالم".

في آذار 2018، وجّه هانز كونغ رسالة إلى البابا فرنسيس طالباً منه أن يناقش مسألة العصمة، وقد ردّ فرنسيس بشكل إيجابيّ في رسالة مكتوبة بخطّ اليد، أنّه لا يعارض "فتح مساحة للنقاش الحرّ".

المصالحة مع الكنيسة

إنتقد كونغ الفاتيكان بقساوة، لكن في أعماق قلبه ظلّ دائماً ابن الكنيسة ولم يفكّر أبداً في تركها. لقد أراد أن يفعل الأفضل للكنيسة من الداخل ويبقى مسيحيّاً وكاثوليكيّاً. وقد ساعدت نظريّاته اللاهوتيّة، التي نشرها بلغة واضحة ومفهومة، الكثير من الناس في العثور على الإيمان أو البقاء في الكنيسة. وقد ذكر الرئيس السابق للمجلس البابويّ لتعزيز الوحدة المسيحيّة، الكاردينال والتر كاسبر"Cardinal Walter Kasper" أنّ البابا فرنسيس حمّله في 2020 رسالة شفويّة لهانز كونغ، وأنّ هذا الأخير تصالح مع الكنيسة قبل موته.

وفي 7 نيسان 2021، في اليوم التالي لغيابه، غرّدت الأكاديميّة البابويّة للحياة "Pontifical Academy for Life" أنّ هانز كونغ كان "شخصيّة عظيمة في علم اللاهوت في القرن العشرين".

فلترقد روحك بسلام أيّها اللاهوتيّ العظيم الشجاع!


MISS 3