د. ميشال الشماعي

ما هي فائدة تحرير القرار السياسي؟

27 أيار 2021

02 : 00

إنّ تحرير الأرض المحتلّة هو عمل مشروع ومبارك ومطلوب في قاموس الشعوب والدّول والكيانات. وأيّ احتلال اليوم في أيّ بقعة من بقاع العالم مرفوض. لا سيّما احتلال فلسطين من قبل العدو الاسرائيلي. وللمدّعين بمناصرة القضيّة العربيّة، والذين يتسارعون ليفاوضوا هذا العدوّ تحت طاولة التسويات الكبرى في المنطقة، انطلاقاً من الخلفيّات التّاريخيّة من زمن نبوخذ نصّر الفارسي وهجرة ابراهيم الخليل من أور الكلدانيّين؛ لا يكفي أن تدّعوا تحرير الأرض وتبايعوا الأعداء والأولياء المتحالفين معهم القرار السياسي.

إنّ تجارب التّاريخ كفيلة بأن تعطينا أقسى الدّروس وأجملها. ولا يدرك قيمة النّور إلا أولئك السـائرون في دياجير العتمة. لقد اختبر اللبنانيّون معنى أن يكون القرار السياسي حرّاً في أصعب الفترات التي مرّ بها لبنان إبّان الاحتلال السوري. وذلك يوم بقيت منطقة وحيدة عاصية في لبنان على هذا الاحتلال بفضل المقاومة اللبنانيّة الحقّة. والأهمّ من ذلك كلّه أنّ هذه المنطقة التي عُرِفَت بالمنطقة الشرقيّة آنذاك، لم تكن فقط حرّة من وجود وسيطرة جيش الاحتلال السوري، بل الأهمّ كان قرارها السياسي حرّاً.

ويكفي العودة إلى الحقبة التي امتدّت من العام 1986 حتّى العام 1989 يوم كانت "القوّات اللبنانيّة" برئاسة سمير جعجع تدير المنطقة الشرقيّة. في تلك المرحلة، عندما كان القرار السياسي حرّاً نعمت هذه المنطقة بأفضل الخدمات الاجتماعيّة؛ فكان الصندوق الوطني في ضبيّة للخدمات الاجتماعيّة والطبيّة، وشبكة النقل المشترك التي ربطت القرى والبلدات كلّها بعضها ببعض، حتّى صارت باقي المناطق تسميها عن حقّ سويسرا الشرق. فيما بعض المتملّقين اليوم بالسياسة، الذين بنوا شعبيّتهم على الحقد الذي صبّوه على حزب "القوّات اللبنانيّة" في تلك المرحلة، لم يألوا أيّ جهد لتشويه تلك المرحلة حتّى لو كلّفهم ذلك إنشاء أكثر من ثلاثة أجيال على تربية الحقد لـ"القوّات اللبنانيّة" وما قامت به في تلك المرحلة.

قد يبدو هذا الموضوع مبتذلاً بالنّسبة إلى بعضهم اليوم بعد مرور هذه السنين كلّها، لكن إثارته الآن ليست من باب العودة إلى الماضي للقنص من أولئك الذين لم يعودوا في الوجدان السياسي، حتّى لمَن كانوا معهم في الصفّ نفسه. إنّما إثارة هذا الموضوع اليوم هي إثارة وجوديّة للإشارة إلى أهميّة أن يكون القرار السياسي حرّاً.

وهذه تجربة ننقلها إلى الشعب الفلسطيني العزيز الموجود اليوم في أراضيه التي ما زالت حرّة. فضلاً عن الأخوة العرب الذين يعيشون مع المحتلّ الاسرائيلي في دولته التي نجح باغتصاب أرضها من الشعب الفلسطيني.

في هذا السياق، يجب ألا يقبل الفلسطينيّون اليوم بمبادلة حريّة وجودهم بقرارهم السياسي. وهذا ما يتهافت عليه نظام الأسد اليوم. ولقد رأينا الرسائل المتبادَلَة بينه وبين العدوّ الاسرائيلي التي كانت آخر تجلّياتها بمكرمة لقاحات الفايزر التي منّ بها العدوّ على الشعب السوري تحت الذرائع الانسانيّة.

وهكذا استطاع "حزب الله" في لبنان أيضاً أن يتّبع النّهج نفسه. فهو رهن وجوده السياسي اليوم في صلب الدّولة اللبنانيّة مقابل رهنه لقرار الدّولة السياسي بالكامل لوليّه في إيران. وهذا كلّه تحت أكذوبة التحرير إن كان تحقّق في جنوب لبنان، وإن كان لم يتحقّق بعد في الجولان وفي فلسطين المحتلَّين. وهنا تكمن فائدة تحرير القرار السياسي، ولنا المثال في ذلك ما كان يعرف بالمنطقة الشرقيّة. وعلى اللبنانيّين اليوم أن يختاروا:

- أيّ لبنان يريدون؟

- هل يريدون لبنان المرتهن قراره السياسي على غرار بعض المنظومات المتعربنة اليوم؟ أو تلك التي رهنت نفسها لإيران، كي لا نستعمل كلمة عربيّة بنفس الصياغة المعجميّة للكلمة السابقة.

- هل يريد اللبنانيّون لبلدهم أن يكون فاقد القدرة السياسيّة على غرار ما برهنته لنا المنظومة الحاكمة طوال هذه العقود الثلاثة، أي لا قدرة له في اتّخاذ قرار الحرب أو السلم مع أيّ طرف كان؟

- هل يريد اللبنانيّون لبلدهم أن يعادي العالم العربي، أي عمقه الاستراتيجي، وأوروبا والغرب المتحرّرَين مقابل ارتهانه لحلف الأقليّات المزعوم من طهران إلى بغداد مروراً بالشام حتّى بيروت؟

القرار اليوم بيد اللبنانيّين وحدهم. فالأمور واضحة وضوح الشمس. دعم المواطن لا دعم السلع هو المطلوب، والحفاظ على ودائع النّاس من خلال الحفاظ على الاحتياطي الالزامي هو المطلوب، والاصلاح مطلوب طبعاً، ولكن لا شيء ينفع في حال تمّ إبقاء القرار السياسي مرتهناً لهذه المنظومة ولهذا الحلف. ولا طريق للتحرّر سوى بالارادة السياسيّة النابعة من صلب إرادة النّاس.

فالمطلوب واحد وهو: ثورة حقيقيّة وكيانيّة وسياديّة من قبل النّاس جميعهم متّحدين تحت راية واحدة وهي استعادة القرار السياسي، من خلال الضغط والمطالبة بإجراء انتخابات نيابيّة حرّة، وبإشراف أممي مباشر، وليس مراقبة دوليّة من بُعدٍ، كي لا يتمّ التلاعب بنتائجها – ولنا تجارب مع هذه المنظومة في الانتخابات السابقة وتحت أعين بعض المراقبين الدّوليّين- وعندها يكون التحرير الحقيقي. وعدا ذلك لا خلاص للبنان لا اقتصاديّاً ولا اجتماعيّاً وبخاصّة لا سياسيّاً وكيانيّاً ووجوديّاً. ومن له أذنان للسماع... فليسمع !