نيكولاس إيبرستاد

الولايات المتحدة لم تخسر تفوّقها الديموغرافي

29 أيار 2021

المصدر: Foreign Affairs

02 : 01

تدين الولايات المتحدة بتفوقها العالمي إلى تركيبتها السكانية. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكيكه، أصبحت الولايات المتحدة ثالث أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان بعد الصين والهند. مقارنةً بدول متقدمة أخرى، حافظت الولايات المتحدة على مستويات مرتفعة من الخصوبة والهجرة (أطلق البعض اسم "الاستثنائية الديموغرافية الأميركية" على هذه الظاهرة في العام 2019). ومنذ نهاية الحرب الباردة، زاد العدد السكاني الأميركي الإجمالي وعدد الناس في سن العمل (بين 20 و64 عاماً) بوتيرة أسرع من الدول المتقدمة الأخرى، بما في ذلك الصين وروسيا. كما يسهم تنامي عدد السكان في سن العمل في زيادة الإنتاجية الوطنية في الاقتصادات التي تديرها الحكومات القادرة على تطوير الموارد البشرية واستغلالها. في دول الرفاهية المعاصرة، يؤدي تباطؤ شيخوخة السكان إلى كبح جزء من الأعباء المالية المرتبطة بالترتيبات الراهنة.

ينذر الوضع اليوم بتغيرات كبرى في الأفق. تعكس النتائج الأولية للإحصاء الرسمي للسكان في الولايات المتحدة خلال العام 2020 والتقارير المرتبطة بمجموع الولادات في السنة الماضية واقعاً متغيراً: في ظل تباطؤ النمو السكاني وتراجع الخصوبة الوطنية بوتيرة ثابتة، يبدو أن الولايات المتحدة تتجه اليوم نحو مسار ديموغرافي أقل تفاؤلاً وقد يقودها إلى مستقبل مبني على زيادة أعداد كبار السن وتراجع الكثافة السكانية.

لكن وراء أحدث البيانات السكانية والتوقعات المرتبطة بها، ما من سبب وشيك للقلق حول موقع البلد على الساحة الدولية. ستحافظ الولايات المتحدة على مكانة ديموغرافية قوية مقارنةً بمنافسيها خلال العقود المقبلة.

كان تراجع الزيادة السكانية الطبيعية في الولايات المتحدة خلال العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين ينجم جزئياً عن زيادة الوفيات السنوية: إنها نتيجة متوقعة جداً نظراً إلى زيادة متوسط العمر المتوقع بين إجمالي السكان. لكن كان تراجع عدد الولادات العامل الأكثر تأثيراً في هذا المجال. انخفضت الولادات الإجمالية في العام 2019 بأكثر من نصف مليون نسمة مقارنةً بالمعدل القياسي الذي سجّله البلد في العام 2007 (4.3 ملايين)، قبل الركود الاقتصادي العظيم مباشرةً.

تعكس معدلات الخصوبة الإجمالية (أي حجم الولادات لكل امرأة على مر حياتها) حقيقة مستوى الإنجاب في الولايات المتحدة على المقياس البشري. خلال العقدين اللذين سبقا مرحلة الركود العظيم، كان معدل الخصوبة الإجمالي في هذا البلد يساوي أكثر من طفلَين بقليل لكل امرأة. لكن بين العامين 2007 و2019، تراجع المعدل الأميركي من أكثر من 2.1 (فوق مستوى استبدال السكان على المدى الطويل) إلى 1.7 (تحت مستوى الاستبدال). يُعتبر هذا المعدل الأدنى مستوى على الإطلاق في الولايات المتحدة حتى الآن. وتشير أرقام الولادات التقديرية في العام 2020 إلى تراجع إضافي بنسبة 4%، فبات العدد يقتصر على 3.6 ملايين، ما يعني أن معدل الخصوبة الإجمالي على المستوى الوطني بلغ حوالى 1.64 في العام 2020، أي أقل من مستوى الاستبدال بمعدل يفوق العشرين في المئة.

توثّق البيانات المتاحة حتى الآن تراجعاً واسعاً ومؤثراً في مستوى الخصوبة منذ مرحلة الركود العظيم. لهذا السبب، يفضّل خبراء التركيبة السكانية توخي الحذر قبل طرح أي أسباب جازمة لتفسير هذه التغيرات. قد تكون المخاوف الاقتصادية جزءاً من العوامل المؤثرة في هذا المجال، إذ يبرر البعض تردده في إنجاب المزيد من الأولاد أو أي طفل على الإطلاق بارتفاع تكاليف تربية الأطفال. كذلك، قد تختلف أولويات الأجيال الأكثر شباباً ومواقفها الثقافية مقارنةً بأسلافها، إذ من الواضح أن معظم فئات جيل الألفية، الذي يشكّل راهناً أكبر جزء من السكان في سن الإنجاب، لم تعد متديّنة بقدر الأجيال السابقة ولا تحمل التفاؤل نفسه بالمستقبل.

تفوّق مستمر

يُفترض ألا تكون نتائج إحصاء العدد السكاني في العام 2020 سبباً للهلع أو انتشار توقعات حول تراجع وشيك في الكثافة السكانية. ورغم تغيّر مستويات الخصوبة، يتجه إجمالي السكان وعدد الناس في سن العمل داخل الولايات المتحدة إلى تسجيل نمو متواصل. من المتوقع أن يؤدي استمرار الهجرة و"الزخم السكاني" الذي ترتكز عليه البنية الديموغرافية الأميركية الراهنة إلى زيادة إجمالي السكان الأميركيين والناس في سن العمل طوال جيل آخر على الأقل.

نتيجةً لذلك، ستحافظ الولايات المتحدة على تفوقها الديموغرافي مقارنةً بالقوى العظمى الأخرى على الأرجح. سجلت الصين واليابان وروسيا ودول الاتحاد الأوروبي معدلات خصوبة دون مستوى الإحلال لفترة أطول من الولايات المتحدة، وقد أصبحت مستويات الخصوبة الراهنة هناك أقل من المعدل الأميركي. كذلك، بات سكان تلك الدول أكبر سناً من سكان الولايات المتحدة اليوم (تشمل الصين أصغر السكان من بين تلك القوى الأخرى، لكن يتجاوز متوسط عمر السكان فيها المعدل الأميركي أيضاً).

سجلت الولايات المتحدة مستوىً إحلالياً للخصوبة للمرة الأخيرة في العام 2008. في المقابل، سجلت اليابان ودول الاتحاد الأوروبي معدلات خصوبة دون مستوى الإحلال خلال فترة السبعينات، واتخذت الصين وروسيا هذا المسار أيضاً في بداية التسعينات. بدأت وفرة الولادات مقارنةً بالوفيات تتلاشى بوتيرة ثابتة في الولايات المتحدة منذ أكثر من عشر سنوات، لكن تتفوق الوفيات على الولادات في الاتحاد الأوروبي منذ العام 2012 تقريباً، وتتوقع المديرية العامة للمفوضية الأوروبية "يوروستات" أن يبدأ مجموع السكان في دول الاتحاد الأوروبي بالتراجع بحلول العام 2025. تسجّل اليابان من جهتها فائضاً من الوفيات مقارنةً بالولادات منذ العام 2007 ويستمر تراجعها السكاني منذ العام 2011. أما روسيا، فقد سجلت عدد وفيات أكثر من الولادات بمعدل 14 مليون نسمة منذ سقوط الاتحاد السوفياتي.

في ما يخص الصين، بدأ عدد السكان في سن العمل يتراجع منذ الآن ومن المتوقع أن يبدأ التراجع السكاني العام خلال العقد المقبل (أو ربما قبل تلك المرحلة). كذلك، يتجه البلد نحو شيخوخة سكانية متسارعة جداً، مع كل ما يرافقها من تداعيات على مستوى الأداء الاقتصادي والحاجات الاجتماعية المحلية. ستصبح خصائص المسار الديموغرافي المستقبلي في الصين أكثر وضوحاً عند الكشف عن تفاصيل الإحصاء السكاني للعام 2020، مع أن ميل بكين إلى تأجيل الإعلان عن ملخص النتائج طوال شهر بلا مبرر يشير إلى استياء السلطات الرسمية من تلك النتائج. تبرز أيضاً مفاجآت ديموغرافية مزعجة أخرى، فقد لاحظ الحزب الشيوعي الصيني أن الولادات بدأت تتراجع منذ تعليق "سياسة الطفل الواحد" الصارمة التي فرضها النظام في العام 2015. رصد نظام التسجيل الشائب في الصين حوالى 18 مليون ولادة في العام 2016، لكن يذكر الإحصاء الرسمي للسكان في العام 2020 أن ذلك العدد يقتصر على 12 مليون ولادة في العام نفسه. قد يؤدي هذا الرقم المتدني إلى تفاقم صدمة وباء "كوفيد-19"، مع أن النظام يُصِرّ على نجاحه في السيطرة على هذه الأزمة منذ البداية. لكن حين يحصل خبراء التركيبة السكانية على معطيات إضافية عن هذا الموضوع، قد يكتشفون أن التراجع السكاني في الصين يتسارع بوتيرة تفوق توقعاتهم.

من بين جميع الدول الكبرى المزعومة، وحدها الهند تتجه إلى تسجيل نمو سكاني متزايد ومتسارع وزيادة في عدد السكان في سن العمل أكثر من الولايات المتحدة خلال الجيل المقبل، ومن المتوقع أن تحافظ على مجتمع أكثر شباباً من الولايات المتحدة أيضاً. من المعروف أن الهند ستطيح بالصين خلال بضع سنوات وتصبح البلد الأكثر اكتظاظاً بالسكان في العالم، حتى أنها ستتفوق على الصين من حيث عدد السكان في سن العمل بعد فترة قصيرة. لكن بدأت الهند تدخل اليوم في مرحلة الخصوبة دون مستوى الإحلال: تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى تراجع سكان الهند تحت عمر العشرين منذ الآن وقد يبلغ عدد السكان في سن العمل ذروته قبل العام 2050.

النوعية مهمّة بقدر الكمّية!

قد يشير تراجع معدلات الخصوبة في الولايات المتحدة إلى انتهاء عصر الاستثنائية الديموغرافية الأميركية الواضحة، في الوقت الراهن على الأقل. ستتنازل الولايات المتحدة على الأرجح عن مكانتها كثالث أكبر دولة من حيث عدد السكان في العالم لنيجيريا في مرحلة معينة قبل العام 2050. لكنها ستحافظ على مجتمع حيوي وشاب نسبياً، مقارنةً بدول متقدمة أخرى على الأقل ومنافسين بارزين مثل الصين وروسيا.

مع ذلك، يجب ألا يكتفي الخبراء الاستراتيجيون وصانعو السياسة الأميركية بهذه الوقائع. لن يكون عدد السكان وحده كافياً لتقوية مكانة الولايات المتحدة في منافستها مع الدول الأخرى. بل يجب أن يحافظ البلد أيضاً على تفوّقه في مجال تطوير الرأسمال البشري، علماً أن هذا التفوق بدأ يتلاشى منذ عقود. لهذا السبب، أصبح تنشيط قطاعات الصحة والتعليم وجوانب أخرى من قاعدة الموارد البشرية في الولايات المتحدة مهمّة عاجلة اليوم، ولا مفر من أن تترافق هذه العملية مع مكاسب جيوسياسية كبرى.


MISS 3