يرغب شيندلر

بوريس جونسون يضيّق الخناق على قناة "بي بي سي"

5 حزيران 2021

المصدر: DER SPIEGEL

02 : 01

بدأت المشكلة بسبب علم بسيط. وُضِع هذا العلم في الزاوية اليمنى الخلفية من مكتب وزير الإسكان البريطاني، روبرت جنريك، وكان واضحاً أمام ملايين الناس من مشاهدي برنامج Breakfast على قناة "بي بي سي" في الساعة السابعة وأربعين دقيقة صباحاً من أحد أيام شهر آذار. على الشاشة، بدا العلم عالقاً بين وجه جنريك ووجه الملكة المبتسمة في صورة مُعلّقة على الجدار. وصلت سارية العلم إلى السقف لأن العلم كان كبيراً جداً.

حين انتهت المقابلة، قال مقدّم البرنامج مازحاً: "أظن أن حجم علمك لا يتماشى مع القياسات الحكومية النموذجية خلال المقابلات. يبدو أنه أصغر من اللزوم". سُمِع صوت ضحك المذيع الآخر في الاستوديو. ثم أضاف مقدم البرنامج بكل جدية "إنها مجرّد فكرة خطرت على بالي"، فيما ارتسمت ابتسامة مؤلمة على وجه الوزير.

قد يكون هذا الحديث قصيراً لكنه كان كافياً لإحداث فضيحة وطنية أخرى لقناة "بي بي سي". خلال الساعات التي تلت المقابلة، تلقّت القناة 6500 شكوى وكتبت مجموعة من النواب المحافظين رسالة ذكروا فيها ما يلي: "نشعر بأننا مضطرون لتذكير المذيعين بأن حرف B في اسم القناة يشير إلى بريطانيا". حتى أن رئيس الوزراء بوريس جونسون تدخّل في الموضوع وأعلن أن هذه القناة أصبحت "منفصلة" عن بقية البلد.

في نهاية المطاف، عبّرت قناة "بي بي سي" عن أسفها لما حصل وأعلنت أنها ذكّرت المذيعَين بمسؤوليتهما. لكن لم يكن هذا التصرف كافياً طبعاً. بعد مرور أسبوع، استغل نائب محافظ جلسة استماع في البرلمان لتوبيخ تيم ديفي، المدير العام الجديد لقناة "بي بي سي". تساءل النائب: هل يعرف ديفي كم مرة يظهر العلم البريطاني في تقرير "بي بي سي" السنوي المؤلف من 268 صفحة؟

فأجاب ديفي: "لا فكرة لديّ". ثم قال النائب المحافظ: "لا يظهر هذا العلم ولا مرة. هل فاجأك الجواب"؟ شعر ديفي بانزعاج متزايد وقال: "أظن أنه مقياس غريب. قناة "بي بي سي" فخورة جداً بالعمل الذي تقدّمه دعماً لبريطانيا في الخارج".

قد تبدو المشكلة سخيفة لكنها سبّبت أزمة كبرى. تبث "بي بي سي"، أقدم قناة وطنية في العالم وواحدة من الأكثر أهمية على الإطلاق، برامج على مدار الساعة، وهي منارة للديموقراطية الليبرالية ومرجع صحافي عملاق. ومع ذلك، تعرّضت هذه القناة للسخرية من حكومة بلدها وكانت ضعيفة بما يكفي كي ترضخ للانتقادات بسبب مزحة عابرة حول قطعة قماش!

ستحتفل قناة "بي بي سي" بالذكرى المئوية على تأسيسها في السنة المقبلة. لكن لا شيء يدعو إلى الاحتفال في الوقت الراهن. تواجه القناة أزمات متلاحقة منذ فترة، لكن لم يسبق أن ضَعُف أداؤها لهذه الدرجة يوماً. يهاجمها الجميع من كل الاتجاهات. اضطرت القناة لتخفيض ميزانيتها في آخر عشر سنوات بسبب تراجع التمويل الذي تحصل عليه، لكن ترتكز المنافسة القائمة مع شركات البث الخاصة على الأموال النقدية في المقام الأول. اليوم، أصبح المراهقون بين عمر الثانية عشرة والخامسة عشرة أكثر ميلاً إلى مشاهدة أو سماع البرامج على منصات مثل "نتفلكس" أو "سبوتيفاي". يحمل بوريس جونسون وكبار المسؤولين من مؤيدي خطة "بريكست" مشاعر العداء والكراهية تجاه قناة "بي بي سي" منذ سنوات ولطالما اعتبروهــــا "عدوّهم اللدود".

يحــــــرص المحافظـــون على فعل كل ما يلزم لترويض هذه القناة وإخضاعها لسيطرتهم السياسية. في غضون ذلك، يبدو أن القناة العملاقة رضخت لأسلوب الترهيب، حتى أنها تراجعت عن مواقفها في مناسبات عدة كما فعلت عند احتدام الجدل حول العلم في شهر آذار.

يظن البعض أن قناة "بي بي سي"، منذ نشوئها قبل مئة سنة، تناضل للصمود لكنّ هذه الادعاءات مُخففة برأي الآخرين.

يجب أن يدرك الجميع أن هذا الصراع على السلطة لا يؤثر على قناة واحدة في إحدى جزر شمال الأطلسي، بل إنه ينعكس على محطات البث حول العالم أيضاً.

منذ أن وصل بوريس جونسون إلى رئاسة الحكومة البريطانية، لم تتمكن قناة "بي بي سي" من التقاط أنفاسها. يعتبر المحافظون كل ما تفعله خاطئاً ويصنّفونها كقناة "ماركسية" أو "معادية لبريطانيا"، كما أنها مكلفة جداً برأيهم. من وقتٍ لآخر، يهدد المحافظون بتخفيض رسوم الترخيص التلفزيونية السنوية أو إلغائها بالكامل، علماً أن هذا النموذج المالي ينطبق على معظم جوانب ميزانية "بي بي سي" التي تصل إلى مليارات الجنيهات الاسترلينية.

ستكون هذه الخطوة كفيلة بإنهاء قناة "بي بي سي" بشكلها الراهن. تتكل محطة البث بالكامل على حكومة مسؤولة عن إصدار رخصة بث جديدة كل عشر سنوات أو حجبها. يريد المحافظون تنظيم استفتاء لتحديد مستقبل القناة. في النهاية، نجح البلد في تنظيم هذا النوع من الاستفتاءات في الماضي.

في بداية السنة، عيّنت الحكومة ريتشارد شارب رئيساً لقناة "بي بي سي". شارب هو مصرفي استثماري سابق وليس مفاجئاً أن نعرف أنه كان من أبرز الجهات المانحة لحزب المحافظين طوال سنوات. في واحدة من أولى إطلالاته العلنية بعد تعيينه في منصبه الجديد، انتقد شارب المسلسل السياسي Roadkill لأنه يشمل "شخصيات محافِظة شريرة" وقد يؤثر على الناس.

من المتوقع أن تُعيّن حكومة جونسون بول داكر قريباً كرئيس جديد لهيئة تنظيم الاتصالات البريطانية "أوفكوم"، لكنّ هذا الخيار لا يخلو من المفارقات. تقضي مهمة "أوفكوم" بنشر مظاهر العدل والإنصاف في المشهد الإعلامي وحماية الرأي العام من الإهانات أو أي محتويات مسيئة أخرى. لكن كان داكر سابقاً يعمل كناشر للصحيفة الشعبية "ديلي ميل" التي اعتبرت القضاة الداعمين للاتحاد الأوروبي "أعداءً للشعب" في عهده. حتى أنه وصف "بي بي سي" في إحدى المناسبات بالقناة "الكبـــيرة والشهيــرة والقوية بدرجة مريعة".

في غضون ذلك، من المنتظر أن تنطلق قناتان خاصتان جديدتان خلال الأشهر المقبلة في بريطانيا: "جي بي نيوز" و"نيوز يو كي تي في". تحصل القناة الثانية على تمويل من روبرت مردوخ، ويرأس المحاور الصارم والمناهض لليساريين، أندرو نيل، القناة الأولى.

أدى تفشي فيروس كورونا إلى تراجع حملة المحافظين العدائية ضد "بي بي سي" في الأشهر الأخيرة. كانت الحكومة تحتاج إلى القناة لأن عدداً كبيراً من البريطانيين لجأ إليها خلال الأزمة الصحية للحصول على معلومات جديرة بالثقة وتلقي التطمينات التي يحتاجون إليها. لكن لا أحد يظن أن العاصفة انتهت بين الطرفين.

لقد أطلق بوريس جونسون ومؤيدو خطة "بريكست" حملة استثنائية بمعنى الكلمة. هم لا يتوقفون عن التعبير عن رغبتهم في إنشاء "بريطانيا عالمية" ومتحررة من مخالب الاتحاد الأوروبي، لكنهم يبذلون قصارى جهدهم في المقابل لإهدار واحدة من أبرز الجهات التي تجذب العالم إلى بريطانيا. في هذا السياق، يقول توني هول، المدير العام السابق لقناة "بي بي سي": "هذه القناة هي أفضل ورقة تملكها بريطانيا عالمياً. لا يستطيع أي بلد آخر أن يقوم بما تفعله". لكن ربما لا يهتم جونسون بهذه الميزة.

يجب ألا يفترض أحد أن عدداً كافياً من الناس سيهبّ للدفاع عن "بي بي سي" هذه المرة. بدأت حملة الانتقادات اللاذعة التي أطلقها أعداء "بي بي سي" في السنوات الأخيرة تعطي مفعولها، فقد تلاشت الثقة بأهم وسيلة إعلامية في البلد. في العام 2018، كشف استطلاع أن 40% من البريطانيين يعتبرون "بي بي سي" حزبية، مع أن نصفهم اعتبرها منحازة جداً لمعسكر اليمين بينما اعتبرها النصف الآخر يسارية أكثر من اللزوم. وفي استطلاع مختلف خلال الشتاء الماضي، اعتبر نصف المشاركين تقريباً أن هذه القناة لم تعد تعكس قيمهم.

يبدو أن طموحات "بي بي سي" المتعلقة بالمعاملة المتساوية بين جميع أطراف النقاشات لم تعد تنطبق على هذه الحقبة حيث يرغب الناس في سماع وجهة نظرهم حصراً. في هذا العصر، يتفاعل الناس مع الآراء المختلفة وكأنها إهانة لا يمكـــن تحمّلها ويتعاملون مع أصحـــاب التوجهات المختلفة وكأنهم مصدر اضطراب مزعج.

يتذمر مارك دمازر، نائب المدير السابق في قناة "بي بي سي نيوز"، من الوضع القائم لأن عدداً كبيراً من الناس ما عاد يفهم على ما يبدو الهدف من محطات البث العامة: "لا تهدف قناة "بي بي سي" إلى التأكيد على آراء الناس حول العالم أو مهاجمة من يحملون آراءً مختلفة عنهم وتصويرهم كأشخاص أغبياء. كل من يريد مشاهدة هذا المحتوى يستطيع التوجه إلى "فوكس نيوز" أو أي قناة أخرى تبرع في بث المواقف الغاضبة وتجني الأرباح منها".

أصبحت قناة "بي بي سي" فجأةً أشبه بمختبر اجتماعي متفجّر، إذ تحصل أكبر النقاشات التي يخوضها البريطانيون تحت سقفها وقد تتراوح المواضيع الشائكة بين الثقافة، والمعارك المعاصرة بين الجنسين أو حول الهوية الفردية، والانقسامات السائدة، والتفكك الاجتماعي، والمعركة الملحمية بين الحقائق والأكاذيب، ومنافع الديموقراطية المتبقية إذا وُجِدت.

لكن تعجز "بي بي سي" اليوم عن تقديم أي أجوبة مُرضِية على هذه الأسئلة. بعد سنوات من تلقي الانتقادات والبغض السياسي وارتكاب الأخطاء، لم تعد القناة تحاول تحقيق هدفها الأصلي بالقوة نفسها. ولتجنب انتقادات إضافية، يبدو أنها تسعى إلى الابتعاد عن إثارة الجدل قدر الإمكان.

أصدر المدير العام الجديد، تيم ديفي (كان في السابق مديراً تنفيذياً مرموقاً في شركة "بيبسي" والمسؤول عن إعادة إحياء هذه العلامة التجارية)، أوامر جديدة لموظفيه ودعاهم إلى التصرف بأعلى درجات الحيادية. لا يُسمَح لأي أعضاء في فريق "بي بي سي" بالتعبير عن رأيهم على تويتر أو حتى الموافقة على رأي آخر. حتى أنهم يعجزون عن استعمال الرموز التعبيرية لأنها قد تشير "عمداً أو عن غير قصد" إلى شكل من الانتماء الحزبي.

كذلك، يُفترض أن يمتنع كل من يعجز عن إصدار أحكام عقلانية (بسبب معاقرة الكحول مثلاً) عن كتابة التغريدات بالكامل. لقد أوضح ديفي أن جميع المواقف المرتبطة بالمواضيع الأخلاقية باتت ممنوعة. حتى أن الصحافيين المثليين يشعرون بالارتباك لأنهم لا يعرفون إذا كانوا يستطيعون مناقشة مسيرات المثليين أو المشاركة فيها.

يخطط ديفي لإرسال آلاف الموظفين من "بي بي سي" إلى جميع أنحاء بريطانيا خلال السنوات المقبلة في محاولة منه لنفي الانتقادات التي تتهم القناة بأنها تبالغ في التركيز على لندن دون سوها. كذلك، تُعطى الأولوية اليوم لتنويع الموظفين، ما يعني أن الرجال البيض الذين تخرّجوا من جامعتَي "إيتون" و"أكسفورد" سيجدون صعوبة متزايدة في بلوغ أعلى المناصب في "بي بي سي".

سيتحقق جزء من الخطوات التي اتخذها ديفي (54 عاماً) على المدى الطويل. لكن يوحي الانطباع الأول بأن ديفي يرضخ للضغوط التي يمارسها خصومه الأقوياء. هل سيكون إرضاء بوريس جونسون الذي عمل كصحافي لفترة معينة كافياً؟ وإذا حاول أي مسؤول إرضاء الجميع، ألن يجازف حينها بعدم إرضاء أحد؟ يطرح عدد كبير من العاملين في قناة "بي بي سي" هذا السؤال أيضاً.


MISS 3