محمد دهشة

سوق النجّارين في صيدا: لم يبقَ سوى اسمه ...ومحترفوه يشكون الركود والغلاء

19 أيلول 2019

10 : 51

تشتهر صيدا القديمة بأسواقها التاريخية وحرفها التراثية. ما زالت قلّة من الحرفيين تحفظ مصنوعاتها الخشبية من الانقراض، فحال الحرفيين داخل أسواق صيدا القديمة تشكو من الركود والجمود وتحوّلت محترفاتهم الى مكان لتزيين السوق بعد الترميم وتوحيد الأبواب والنقش والألوان، ممّا حوّل المشهد الى تراثية لالتقاط الصور التذكارية أكثر من البيع.

يحافظ نجارو صيدا على حرفتهم من الاندثار بشقّ نفسهم. يواجهون لفظ أنفاسها الأخيرة، وبصبر وأناة يواصلون العمل في "سوق النجارين" ليحافظوا على مهنة الآباء والأجداد و"تقطيع" المرحلة الاصعب، بعدما تعرضت الى مخاطر جمة، من الغزو الاجنبي الى البلاستيك على انواعه، مروراً بإرتفاع الأسعار بشكلٍ جنونيّ وصولاً الى الاوضاع الاقتصادية الخانقة التي جعلتهم مثل "القابض على الجمر".

لم يبق من "سوق النجارين" اليوم سوى اسمه. يكاد يلفظ انفاسه الأخيرة. من أصل اربعين محترفاً لصناعة الادوات الخشبية التراثية، أربعة صمدت فحسب وهي ملك "أبو ظهر، الشامية (الاب علي وولده محمد) والملاح (محمد ولده عبد الماجد)" داخل السوق نفسه، وآل كوسا عند الواجهة البحرية لمدينة صيدا. لكن المحال كلّها تترنح تحت وطأة الاهمال الرسمي وغياب الطلب على المنتوجات في ظلّ غياب الدعم أو التعويض عن الخسارة، فرزح البعض تحت وطأة الديون وبات قاب قوسين او أدنى من بيع المحل أو تأجيره للبحث عن مصدر رزق بديل، ليلحق بمن سبقه من محلات النجارة التراثية التي اقفلت ابوابها اما بسبب موت اصحابها او مرضهم او إفلاسهم.



أحمد أبو ظهر الملقب بـ"ابو محمد" 67 عاماً من محترفي هذه المهنة. يقول أبو محمد لــ "نداء الوطن": "احترف هذه المهنة منذ 50 عاماً. عرفت عصرها الذهبي منذ عقود ولكنها اليوم على شفير الانقراض بسبب الاستيراد الاجنبي، وجاءت محال الـ"وان دولار"، لتسدّد الضربة القاضية. لسنا نحن مثل دكاكين "وان دولار"، بل نحن صناعة حرفية نحافظ عليها برمش العين، فنبذل جهداً ونتكبّد مشقة في صناعتها من الخشب الاصلي كالسرو والسنديان وغيرهما".

كغيره من الحرفيين في "السوق العتيق" يصنع أبو ظهر الكثير من المنتوجات الخشبية بمختلف الاحجام كـطابع المعمول "الكعك"، وشوبك العجين، ومدقات وأجران التوم، مناخل العجين والزعتر، قباقيب للزينة والحمام، طبالي للعجين، صناديق... وغيرها. يؤكد وهو جالس على كرسيّ خشبي فيما يجول بنظره الى المحال المجاورة وقد أقفلت ابوابها، وينتظر زبوناً او سائحاً: "صناعتنا تعمّر طويلاً بينما منتوجات "وان دولار" عبارة عن خردة ليس إلا وسرعان ما تخرب وتزول، مثلها مثل "البلاستيك" التي تتحول الى نفايات".

يصب أبو ظهر، جام غضبه على الركود الاقتصادي. بتأففٍ يؤكد: "حتى السواح باتوا لا يشترون منتوجاتنا. يلتقطون الصور وحسب ثم يمضون في سبيلهم ممّا يزيدنا غضباً. عانينا من البلاستيك ومن محال "وان دولار"، و"الغلاء" ومن غياب الخطة السياحية التي تجعل من الأسواق مقصداً لشراء الانتاج، مستذكرا أيامّ العز لعقود خلت وحكايات جده عن السوق وصناعة العلب الخشبية التي تقدم فيها الحلوى للملوك والسلاطين، وكلها منتوجات تصدّر إلى الخارج، فضلاً عن صناديق "جهاز العروس"، لا سيما للأميرات، فضلاً عن تولّي أصحاب المحال تسييج البساتين بالأخشاب. يقول شارحاً: "كان جدي وابي يبيعان بالجملة، اما اليوم بالمفرق ولا نبيع، كيف سنصمد ونقاوم الاقفال والافلاس... الحرفة لا تُطعم خبزاً اليوم!".


حسن كوسا

خارج سوق النجارين يلفت محترف عائلة "كوسا" انتباه العابرين إلى الواجهة البحرية مستوقفاً بعضهم. يراقب هؤلاء حسن، الشاب البالغ من العمر 39 عاماً، والذي ورث المهنة عن والده، وهو يقوم بصناعة كراسي القش "للحدائق والمطاعم والمقاهي"، وسلال القصب "للفواكه،والخضار والصيادين"، الى جانب المقاعد والطاولات، والمشاعل وغيرها من التحف والمحفورات التراثية التي يتداخل فيها الخشب بالقش والخيزران والفخار أحياناً.



يقول كوسا لــ "نداء الوطن": "المنتوجات الخشبية ومنها الكراسي تعمّر أكثر من مئة عام، لسهولة إصلاحها، ولكن للأسف تغيّر كلّ شيء، لذلك طوّرنا المهنة كي نعيش، فصناعة الكراسي الخشبية وحدها لا تكفي لكسب قوتنا يومياً، ولم تعد تلقى رواجاً كما كانت في الماضي، فأدخلنا "القش" على صناعة الكراسي والطاولات التي يتم شراؤها بهدف الزينة، وأدخلنا "القصب" أيضاً لأنّ ابناء القرى ما زالوا يطلبون السلال لقطف الزيتون والفواكه والخضار، والسياح عموماً هم من يهتمون باقتناء الأشياء التراثية.

يؤكد كوسا انّ المشكلة التي تواجهها الصناعة اليوم هي غياب سوق لتصريف المنتوجات كما يجب، خاصة أنّ صناعة كل قطعة صغيرة تستغرق ساعات، وثمة قطع تحتاج إلى يوم أو يومين، وفق حجمها، فيما ارتفعت الاسعار، فمتر الخشب وهو عادة من شجرتي السرو والحور ارتفع من 200 الى 500 دولار، بينما ارتفع القش من 3 دولارات الى نحو 6 دولارات، وبقي البيع على حاله وزادت الأسعار قليلاً، فالكرسي الصغيرة ثمنها 15 ألف ليرة لبنانية، ويربح الصانع فيها فقط 3 آلاف ليرة. "لم تعد المهنة تسمن ولا تغني عن الجوع ولكننا مستمرون بها كجزء من التراث وحفاظاً على مهنة الآباء والاجداد" . وختم كوسا قائلاً: "أتمنّى إدخال المحترفات التراثية هذه على خريطة السياحة المحلية في المدينة ولبنان بشكلٍ يسهم في تنمية القطاع والحفاظ على الحرف التراثية والهويات الثقافية للمدينة ومورد رزق للعائلات التي تعتاش منه".


MISS 3