جيل بلا خوف

الشباب الروسي يقف في وجه الدولة!

10 : 59

اعتُقِل الطالب الجامعي يغور زوكوف بعد مشاركته في احتجاجات موسكو، فأعلن آلاف الشبان الروس عن دعمهم له. لا يتردّد الجيل الجديد في التصدّي لقمع الكرملين...

في مساء يوم ثلثاء دافئ في موسكو، احتشد شبان أمام محكمة "بسماني" المحلية وارتسمت ابتسامة على وجوههم. تبيّن أنه يوم جميل، بالنسبة إلى أصدقاء يغور زوكوف على الأقل.

قبل وقت قصير، كان طالب العلوم السياسية يجلس داخل قفص الاتهام في قاعة المحكمة. أمضى شهراً في الاعتقال قبل محاكمته وكان معرّضاً للسجن ثماني سنوات بتهمة المشاركة في "اضطراب جماعي". يستعمل القضاء الروسي هذا المصطلح لوصف الاحتجاجات التي طالبت بانتخابات حرة ونزيهة في مجلس مدينة موسكو في 8 أيلول. شارك زوكوف في تلك الاحتجاجات.

لكن عشية يوم الثلثاء نفسه، أصدر القاضي حكماً مفاجئاً يقضي بإطلاق سراح زوكوف وخضوعه للإقامة الجبرية بعد خروجه، مع أن المحققين أعلنوا أنه يُحاكَم حصراً بتهمة "التطرف" التي تترافق عموماً مع حكم بالسجن لخمس سنوات كحدّ أقصى بدل ثمانٍ. تعكس هذه القضية وضع روسيا الحقيقي في أواخر صيف 2019: في هذا البلد، يتنفس الناشطون المعارضون الصعداء للحظات قبل أن يواجهوا اتهامات سخيفة متلاحقة.

منذ اندلاع الاحتجاجات الأخيرة في موسكو، أصبح نظام العدالة الجنائية الروسي كثير الانشغالات. في يوم إطلاق سراح زوكوف وخضوعه للإقامة الجبرية، تعددت الأحكام الصارمة الصادرة عن محاكم موسكو: خمس سنوات بسبب تغريدة، ثلاث سنوات بسبب استعمال رذاذ الفلفل خلال التظاهرات، سنتان بتهمة سحب يد شرطي...

لكن تبقى قضية زوكوف الأبرز في الفترة الأخيرة. أصبح هذا الطالب الجامعي رمزاً للشباب الروسي الجريء الذي يتعرض للقمع على يد جهاز الدولة. زوكوف "بطل معاصر"، برأي الكاتب ديمتري بيكوف، كما أنه يعكس "أهم خصائص أبناء جيله". اعتبر بيكوف اعتقاله "خطأً فادحاً" من جانب الكرملين.

1400 عملية اعتقال

تكشف قضية زوكوف أيضاً عن نوع جديد من التضامن، فقد تكاتف طلاب وأساتذة الجامعات لدعمه. عرض أوكسيميرون، واحد من أشهر مغنّي الراب في روسيا، مليونَي روبل لدفع كفالة الطالب وإطلاق سراحه، واقترح رئيسا تحرير آخران أن يكفلاه أيضاً. وحتى "الرابطة الأميركية لأساتذة اللغات السلافية والأوروبية الشرقية" نشرت رسالة مفتوحة لدعمه.

بدأت الضجة بشأن زوكوف خلال استراحة الصيف بين الفصول الدراسية، حين احتشد آلاف الأشخاص من سكان موسكو أمام دار البلدية في أواخر تموز، احتجاجاً على إقصاء مرشّحي المعارضة من انتخابات برلمان مجلس المدينة. لم يحصل المتظاهرون السلميون على إذن بالتجمّع وفرّقتهم الشرطة واعتقلت 1400 شخص. تكلّم رئيس البلدية ومسؤولون آخرون حينها عن حصول "اضطراب جماعي".

بعد وقت قصير، لام مذيع تلفزيوني زوكوف على المشاركة في تنظيم التظاهرات واتّهمه بإعطاء تعليمات للحشود بتجاوز الشرطة. كان المقطع المعروض عبارة عن لقطة دعائية سريعة وسرعان ما تبيّن أن الشخص المعني لم يكن زوكوف. لكن كانت الإجراءات القضائية قد بدأت واعتُقِل زوكوف في 2 آب.

لم يكن استهداف هذا الشاب مجرّد صدفة، فهو يدير مدونة على يوتيوب فيها 100 ألف مشترك، ويستعملها لمناقشة استراتيجيات الاحتجاج السلمي. كانت المدونة الطلابية الفكرية تُركّز بشكلٍ متكرر على مفهوم "التحرريّة"، أي الفكرة القائلة إن الدولة غير مجدية في معظمها لأنها تتعدى على الحريات الفردية. علّق زوكوف وراءه، على جدار فوق الكنبة، راية تحررية تظهر عليها أفعى مجلجلة مع خلفية صفراء وعبارة "لا تسحقني"!

عند رؤية زوكوف من خارج العاصمة، قد يبدو شاباً مدللاً وتحمل فلسفته الليبرالية المتطرفة طابعاً نخبوياً. تُركّز الاحتجاجات المتكررة في مختلف المناطق على حاجات الناس الملموسة، مثل الطعام ومعاشات التقاعد والمياه النظيفة. المبدأ أهم من كل شيء في موسكو، حيث يكره السكان أن يُعتبَر طالب سلمي وذكي من عائلة محترمة عدواً للدولة فجأةً. إلى أين يتجه البلد إذا كان يعتقل هذا النوع من الأشخاص؟

تقول فاليريا كاسامارا، مُحاضِرة في العلوم السياسية ونائبة رئيس الكلية العليا للاقتصاد (كان زوكوف طالباً في صفّها وقد شهدت لمصلحته في المحكمة): "سواء كنا نؤيده أم نعارضه، يتمتع يغور بشخصية مدهشة. إنه طالب طموح وذكي وممتاز".

تُعتبر الكلية العليا للاقتصاد (تُسمّى أيضاً "فيشكا") جامعة نخبوية معروفة ببيئتها الليبرالية وروابطها الوثيقة مع الحكومة. هذا ما يفسر الدعم الذي تلقاه زوكوف. لكنّ التقرب من السلطة والمعسكر الليبرالي في آن يقيم توازناً يستحيل أن ينجح اليوم في روسيا. كاسامارا خير مثال على ذلك، فقد قررت بدورها الترشّح لانتخابات برلمان مجلس المدينة كداعمة لرئيس البلدية الذي أشاد بصرامة الشرطة في التعامل مع التظاهرات.

طرق تقليدية غير فاعلة

تستكشف كاسامارا في أبحاثها ما يميّز جيل زوكوف عن جيلها، معتبرةً أن جيل اليوم (أي "جيل بوتين" كما يسمّي نفسه) لا يخاف شيئاً. لقد نشأ في أفضل فترات السلم التي شهدتها روسيا على الإطلاق ويحظى بحماية أهله. حتى أن الشبان لا يخافون حين تصطحبهم سيارة الشرطة بعد المشاركة في التظاهرات.

يمثّل زوكوف جرأة الشباب، وتفسّر هذه الجرأة تحديداً العقوبات القاسية التي يفرضها النظام عليه وعلى رفاقه. تهدف الأحكام الصارمة إلى تعليم الجيل الجديد من المحتجين معنى الخوف. الخوف صفة مكتسبة أيضاً ولم تحقق الطرق التقليدية الهدف المنشود حتى الآن.

يبدو أسلوب التخويف أشبه ببعض الأدوية، ما يعني أن الدولة تضطر لزيادة الجرعة للتأثير على الشباب الروسي. كذلك، يبدي القضاء الروسي سروره بزيادة جرعة التخويف لأنه يملك الآن وسائل إضافية لتحقيق هدفه، مقارنةً بموجة الاحتجاجات الواسعة في العام 2012، بعدما عمد المشرعون إلى تشديد القوانين. لكنه لم يحدد بعد الأدوات التي يفضّل استعمالها، فعارض إطلاق محاكمة جديدة واسعة لكبح "الاضطراب الجماعي" كما حصل في العام 2012.

تثبت قناة زوكوف على يوتيوب ما فعله هذا الشاب للتغلب على الخوف. سجّل آخر فيديو له في 1 آب حيث يقول بنبرة جدّية وحازمة: "لن نسمح للخوف بأن يهزمنا لأن الخوف يتزامن مع الصمت، ولا يمكن كسر هذا الصمت إلا بقدوم سيارة الشرطة إلى منازلنا ورنّ جرس الباب".

بعد ساعات قليلة، رنّ جرس بابه فعلاً. كان صديقه يفغيني أوفشاروف حاضراً حين ساقته الشرطة من منزله. يوضح أوفشاروف: "لم تظهر عليه معالم الخوف، بل بدا ساخراً وكأنه يقول: يا له من موقف مضحك! أنا طالب عمري 21 عاماً وجاء هذا العدد كله من ضباط الشرطة لاصطحابي".

يعرف أوفشاروف وزوكوف بعضهما من عملهما السياسي، وقد فكّر زوكوف بالترشح لانتخابات برلمان مدينة موسكو بمساعدة صديقه. لكن سرعان ما اتّضح أنها فكرة جنونية، فتراجعا بعد جمع ألف توقيع.

لم يتوقع الشابان ما سيحصل لاحقاً: سرعان ما خاضا أول مواجهة لهما مع نظام العقوبات الروسي. حين قصد أوفشاروف السجن لجلب ملابس لزوكوف، صرخ في وجهه الحراس لأنه لا يعرف القوانين. يقول أوفشاروف: "كيف لي أن أعرف القوانين؟ هل سيعلّمونها في المدارس مستقبلاً"؟

المعركة مستمرة...

على غرار أوفشاروف، شعر زميل زوكوف في الكلية العليا للاقتصاد، نيكيتا بونارين، بالخوف في الأيام الأولى بعد اعتقال رفيقه: "نحن نخشى أحكام السجن المطوّلة. أي حكم آخر، مثل تمضية 10 أيام في السجن أو دفع غرامة مكلفة، يُعتبر سخيفاً في هذه الأيام". يتميز بونارين بشارب معقوف ويضع سلحفاة فضية في أذنه! يقول إنه لم يؤيد يوماً مواقف زوكوف الليبرالية المتطرفة، لكن كانا يستمتعان بمناقشة السياسة.

لكنه ينشط الآن على الإنترنت لحشد المساعدة لزوكوف. حتى أنه أنشأ مع آخرين منصة دردشة تقدّم نصائح لأهالي الشبان القابعين في الاحتجاز السابق للمحاكمة. أصبحت جميع الإجراءات منظّمة، بدءاً من دفع الغرامات والرسوم القانونية وصولاً إلى توجيه الرسائل. لم يكن الوضع كذلك خلال الاحتجاجات المعادية للحكومة في العام 2012. هذا هو الفرق بين الأجيال على الأرجح برأي بونارين: "لا أشعر بأنني وحدي ضد النظام، بل يدعمني 3 آلاف شخص تسجلوا في قناتنا".

يبدو أن التضامن يخفف مستوى الخوف، لكن يحاول القضاء الصارم زيادة منسوبه مجدداً.

ربما شعر داعمو زوكوف أمام محكمة "بسماني" المحلية بالسعادة عشية يوم الثلثاء، لكنهم شككوا في الوقت نفسه بمستوى رضاهم. من الواضح أن محاكمة زوكوف، باعتباره من أبرز المخططين لموجة "الاضطراب الجماعي"، لن تحصل علناً. لكن تثبت الأحكام التي صدرت بشكلٍ منفصل بحق الأفراد المعنيين أن حملة التخويف لن تنتهي في أي وقت قريب. القوانين تغيرت والمعركة مستمرة!