طوني كرم

"الثوار" في طوابير الذلّ إلى الإنتخابات...

ساحات فارغة... قبضات وشعارات بلا ضجيج

11 حزيران 2021

02 : 00

شهداء "17 تشرين" يشهدون على تحوّر الثورة

سكون محدق يخيّم على وسط المدينة الناجية من الدمار الكلّي من إنفجار 4 آب. لوحات تعبيرية تحاول بلسمة جراح أهالي الشهداء والضحايا على الرصيف المقابل لموقع الإنفجار الذي هزّ العالم ولم يوقظ حسّ المسؤولية لدى السياسيين المتحكمين بمصير اللبنانيين.

برلمان موصدة مداخله بجدران إسمنتية خوفاً من تسلل أنين المواطنين الذين تسنّ القوانين باسمهم، سراي حكومي قاطنه معتكف عن القيام بأبسط واجباته الوظيفيّة في تصريف الأعمال، يبحث عن وظيفة في المهجر.

قوى أمنيّة تستجدي ابسط مقومات الصمود لأفرادها. مرفأ مدمر، معامل لا تنتج كهرباء، مستشفيات بلا مرضى قريباً، بطالة تعدت 60 في المئة، وشعبٌ خانع في طوابير الذلّ من أجل الحصول على أبسط مقومات العيش من دواء وغذاء ومحروقات، بعد أن سجّل أسمى الإنتصارات السلميّة منذ 14 شباط 2005 وصولاً إلى مشهدية "17 تشرين" التي ما بقيَ منها سوى قبضات مهجورة في الساحات العامة.

على مشارف ساحة الشهداء وسط المدينة، لوحة إعلانية "يتيمة" تحمل صور "شهداء الثورة الأبطال" (الذين سقطوا بعد 17 تشرين 2019)، يقابلها من الجهة الغربية أمام نصب الشهداء قَسَم القاضي الصادق الشريف حيث إعتادت "النهار" رفع "قسم جبران"، لترفع "الدوليّة للمعلومات" بدورها، على واجهة مكاتبها المدمرة وسم "بيروت ستنهض".

في بيروت كما في باقي الساحات، قبضة "منسيّة" شكّلت يوماً رمزاً للثورة والحرية والمقاومة الشعبيّة السلميّة، بعد أن هجرها روّاد الساحات مع صعود الخطاب الإلغائي التخويني من قبل جموع إنتهازية تحاول تحوير مشهدية "الفورة الشعبية" لإكتساب مشروعية شعبية في صناديق الإقتراع، في وجه القوى السيادية الوازنة التي ساهمت في تحقيق المطالب التي رُفِعت في 17 تشرين.

في الساحات كما المنابر، لوحات فنيّة تنشد الأمل، تملأ الحواجز التي تفصل بين المقرات الرسمية والساحات العامة، في ظل غياب الشعارات السياسية والمطلبيّة المحقة تماماً كما منابر مدّعي الثورة. لا شيء يرمز إلى المطالب المعيشية، لا إلى تحقيق دولي في إنفجار المرفأ، لا ذِكر لتطبيق القرارات الدولية، ولا مطالبة بفك الحصار عن الشرعية وتحرير المؤسسات من هيمنة قوى الأمر الواقع، أمّا مطلب دولة العدالة والمؤسسات فمغيّب عن وسط المدينة.

تحذيرات البنك الدولي من تبوّؤ لبنان المرتبة الثالثة عالمياً نتيجة أسوأ أزمة إقتصادية يعيشها العالم منذ 150 عاماً، مرّ كأي خبر على مجموعات الحراك الذين إنتفضوا لإزالة الركام من الشوارع التي عصف بها انفجار المرفأ، وتقاعسوا عن مواجهة العالمين بوجود نيترات الأمونيوم.


قبضة الثورة وحيدة خلف مجسم يضم حجارة الثوار وقنابل السلطة الدخانية



في ساحة الشهداء، شبّان لا يتعدى عددهم أصابع اليد الواحدة، نسألهم اين الحراك من تفاقم الوضع فلا يترددون بالاجابة أن رياض سلامة كان محقاً حين قال "الشعب سيتأقلم مع الوقت...".

رامي الذي لا يفارق ساحة الشهداء، يتحدث عن تباينات ونقاشات تجرى بين مجموعات متنوعة، فمنهم من يركز على خوض الانتخابات النيابية ومشاركة المنظومة الحاكمة في السلطة، ومنهم من يريد تغيير المنظومة كلها تحت شعار "كلن يعني كلن"، رافضين التعاون مع الأحزاب التي شاركت في السلطة. فالثورة بالنسبة لهم هي ثورة تغييرية وليس مجرّد معارضة، خلافاً لمجموعات أخرى يتفقون معها على العناوين الكبرى ويختلفون على التفاصيل. وإذ يؤكد باسم "ثوار الساحة" أنّ لا مكان بينهم لكل من شارك في السلطة منذ 1990 قبل محاكمته امام القضاء يتساءل: لكن أيّ قضاء؟ لذلك طالبنا منذ 17 تشرين باستقلالية السلطة القضائية، وباسترجاع الأموال المنهوبة وبحكومة مستقلين تجري الإنتخابات النيابية. وعن حراك الذوق، يكشف رالف أن العمل منصب وبوتيرة سريعة على تشكيل لوائح إنتخابية مشتركة تضم شخصيات وجمعيات شاركت في الإنتخابات السابقة تحت لوائح "كلنا وطني"، اتخذت من مقر الكتلة الوطنيّة في بيروت خلية عمل لها، بعد انضمام خبيرة انتخابية إليهم اليوم.

من ساحة الثورة، بدا واضحاً ان التفرغ للإنتخابات والإبتعاد عن نبض الشارع يعكسان بوضوح مساكنة اللبنانيين مع واقعهم المرير بعدما تخلوا عن قبضاتهم المرفوعة في الساحات، متفرغين للتعبير عن غضبهم عبر وسائط التواصل الإجتماعي، لتشكل المجموعات الإفتراضية عبر "الواتساب"، والتفاعل معها، قاعدة لدى البعض منهم لتحوير الفورة الشعبية بما يخدم أهدافهم الخاصة.

إنعدام المتطلبات المعيشية يعكس هشاشة الدولة، وعدم قدرتها على أداء وظائف الحوكمة الأساسية، ما يقود إلى أن الحلّ في لبنان يتطلب إجراءات سياسيّة تتمحور حول العقد الإجتماعي بين الدولة والمجتمع وتطبيق الدستور، قبل المطالب المعيشيّة المحقة. هذا يتطلب أوسع قدر من التكاتف بين القوى السياديّة، في حين يشكل غياب التكاتف خدمة للمنظومة الحاكمة وتجسيداً لهشاشة وترهل مستوى الأداء السياسي في لبنان، قبل إلقاء اللوم على الشعب، الذي قارع الوصاية السورية وأخرجها من لبنان، ونجح مع 14 آذار في وضع حدّ لها، رغم تبدد الأكثرية النيابية التي حصل عليها في العامين 2005 و 2009، أمام سطوة السلاح وتحوله باتجاه بيروت والجبل وقادة 14 آذار.

يومها كان الخطاب السيادي يملأ الساحات، والإنتخابات شكلت تأييداً لمشروع قيام الدولة بوجه الدويلة، بحيث جسّدت مشهديّة الساحات أقوى سلاح بوجه وصاية السلاح.

المطالب السياسية عكست جوهر التحركات الإحتجاجية في 14 آذار، وغيابها اليوم يبدد الجهود الشعبيّة التي ستعجز عن الإستمرار في ظل نهج الانكار المتعمد من قبل بعض من شاركوا في "فورة 17 تشرين".

فلا حلول ترقيعية للواقع المزري وترهّل ما تبقى من مؤسسات قبل أن تستعيد الساحات المبادرة، وتنتفض لتحرير المؤسسات وقيام دولة قادرة على تأمين أبسط مقومات الصمود لشعبها عوض الخنوع في طوابير الذل والموت على أبواب المستشفيات... فهل من يبادر إلى ترتيب الأولويات؟!.