فلاديسلاف إينوزيمتسيف

عقلية الروس المعاصرة:لا للأحلام... نعم لتقديس الماضي

15 حزيران 2021

المصدر: Riddle

02 : 00

في الفترة الأخيرة بدا وكأن الاستبداد الروسي بدأ ينضج داخل هياكل السلطة المحلية. لكن لماذا سمح المجتمع الروسي بنشوء المسار التنموي الذي نعرفه اليوم جميعاً؟ من الواضح أن التاريخ كان له دور مؤثر. رحّب معظم الروس بالقرن الجديد غداة استيائهم من أول عقد بعد الحقبة السوفياتية. إنهار الاقتصاد وانتشرت مظاهر الفوضى والحرمان وبدأت حقبة جديدة من البرجوازية المكروهة. هكذا تفكك بلدٌ كان موحداً في السابق، ما أدى إلى ظهور موجات من اللاجئين وتدمير الحياة التي اعتاد عليها ملايين الناس. كان ذلك الانهيار أيضاً ركيزة للمزاج الانتقامي والإمبريالي المستقبلي.

لم تنتج الديمقراطية حياة سياسية جديدة، بل إنها أطلقت بكل بساطة شكلاً من التكافل بين المناصب القديمة والأوليغارشية المالية الجديدة. بدا الوضع كله مضطرباً. لكن أدرك الجميع في الوقت نفسه استحالة تدمير الواقع الجديد. لقد ترسخت مظاهر اللامساواة الاقتصادية، ولم يستطع أحد بناء حُكم ديمقراطي دستوري، وأصبح ترميم الإمبراطورية المفقودة مستحيلاً. انعكست هذه المشاعر بقوة على طريقة إنشاء النظام الجديد، فكان أي إنجاز في تلك المرحلة أشبه بمعجزة ولم تُعتبر أي مكاسب ينتجها النظام قيّمة ما لم تكن ملموسة أو مفيدة.

بحلول العام 2010، تعرّضت السياسة الروسية لضربة قاضية. وغداة بعض الاضطرابات الخفيفة بين العامين 2011 و2013، استُبدِلت السياسة بنظام إداري بحت.

خلال العقد اللاحق، حان وقت تطهير الاقتصاد. برأي النخبة الروسية المعاصرة، لا وجود لاقتصاد حقيقي، بل ثمة مجموعة من الأصول التي تستطيع النُخَب استعمالها وكسب الأرباح منها. لا يُعتبر الشعب مورداً بحد ذاته، بل ترتبط الموارد الحقيقية بالنفط، والغاز، والأراضي، والأملاك، وعوامل جاذبة أخرى لا غنى عنها لتشغيل نظام الاغتناء الذي ينشط فيه أصحاب السلطة. مهّدت هذه النظرة إلى العالم لبلوغ نتيجة واضحة: يمكن تحديد مدى أهمية السكان بحسب منفعتهم. تكمن منفعة المواطنين السياسية مثلاً في ميلهم إلى التصويت بطريقة "صائبة". وتتوقف منفعتهم الاقتصادية على القيمة المضافة التي يحصل عليها "أسيادهم"، وأموال ضرائبهم، ومدفوعاتهم الإلزامية، وحجم استهلاكهم للسلع والخدمات التي تبدي الشركات الأوليغارشية استعدادها لبيعها في السوق الداخلي.

يُعتبر هذا النوع من الاقتصاد فريداً من نوعه لأنه لا يحتاج إلى التنمية. لا تشتق ثروات النخبة الحاكمة من زيادة رسملة الأصول، بل من التدفق المستمر للأموال النقدية بما يتجاوز حجم الاستهلاك. في هذه الظروف، سيكون النمو المعدوم شبه مثالي. لن تتحسن نوعية حياة الناس لأنهم يميلون إلى إنفاق معظم مداخيلهم بعد كسبها مباشرةً، ما يعني أنهم سيبقون بحاجة إلى العمل مستقبلاً. في غضون ذلك، تتضاعف ثروات النخبة الحاكمة بمعدل شبه ثابت انطلاقاً من الأرباح المُحققة وميزانية الدولة. كما كان متوقعاً، سجّل العقد الأخير تراجعاً سريعاً في معدلات النمو في المرحلة الأولى (بين العامين 2011 و2013)، ثم بدأت فترة من الجمود ولا تزال مستمرة حتى اليوم. تراجعت مظاهر الازدهار في حياة الجميع باستثناء النُخَب الحاكمة. افترض عدد كبير من الخبراء أن النظام سيعجز عن الحفاظ على استقراره في ظل تراجع المداخيل، لكن أثبت الواقع أن هذه الفرضية خاطئة.

يشير هذا الوضع إلى عدم وجود "إجماع على بوتين" في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين. وكان البحث عن خَلَف له في العقد الثاني من القرن الجديد بلا جدوى. لم يكن الروس بعد الحقبة السوفياتية يهتمون بالسياسة مثلما لا يهتمون بالاقتصاد اليوم. الأهم بالنسبة إليهم هو الحفاظ على حقوقهم الأساسية لكنها لا تشمل حق المشاركة في الحياة السياسية. يريد الروس أيضاً الحد الأدنى من الازدهار: هم لا يهتمون كثيراً بزيادة الازدهار بوتيرة ثابتة ولا بفرص إدارة الشركات. لهذا السبب، اختفى الاقتصاد "المعاصر" في روسيا بعد العام 2010، مثلما اختفـــت السياسة "المعاصرة" بعد العام 2000.

انطلاقاً من تاريخ روسيا الحديث، قد يواجه النظام في بداية عشرينات القرن الواحد والعشرين تحدياً أكثر خطورة بكثير. قد لا تقتصر المجازفات هذه المرة على حقوق التصويت والترشّح للرئاسة، أو حتى تحسين نوعية الحياة. بل إن الحريات التي اعتبرها معظم الروس ثابتة في آخر عشرين سنة ستصبح على المحك، بما في ذلك حرية مغادرة البلد كونها رهينة السياسة الخارجية الروسية. لم يقدّر الروس قيمة حرية التعبير بمعنى الكلمة، لكنهم لن يُسَرّوا على الأرجح باحتمال دخول السجن لمجرّد أن ينشروا تعليقات بريئة على مواقع التواصل الاجتماعي. لقد أصبحت أداة الحملات الدعائية بديلة شبه كاملة عن حرية المعلومات وقد يزداد الوضع سوءاً في ظل تنظيمات الإنترنت المقترحة. كذلك، سيضطر الروس للتفكير بحرية التجمّع، لا خلال الاحتجاجات الحاشدة فحسب، بل في المحاضرات التعليمية الحاصلة داخل المقاهي الشهيرة أيضاً. وحتى الحق بالخصوصية، الذي أصبح مُهدداً بسبب توسّع قدرات جمع البيانات، قد ينحسر في ظل السيطرة الكاملة على حياة المواطنين. لقد أثبت الروس أنهم يستطيعون العيش من دون سياسة معاصرة وحتى من دون اقتصاد طبيعي. لكن هل سيكونون مستعدين للتنازل عن حقهم بأبسط النشاطات ووسائل الراحة اليومية؟

لقد أثّرت آخر ثلاثين سنة على المجتمع الروسي بكل وضوح، لكن لا تقتصر آثارها على ما سبق ذكره. بالإضافة إلى تراجع التوقعات من الحقبة الراهنة، جاء التاريخ الحديث ليشوّه التوقعات المستقبلية. نتيجةً لذلك، تراجعت قيمة المستقبل الذي استُبدِل بظاهرة يصعب وصفها.

كانت مجموعة القيم الشخصية في الحقبة السوفياتية خلال الثمانينات تختلف عن معايير روسيا المعاصرة. نشأ السوفيات وهم يحملون أوهاماً حول بناء الشيوعية في إطار معيار مبني على شرطَين مطلقَين. أولاً، كان التغيير الذي يطاول طبيعة عمليات الغزو والتقدم التكنولوجي والثورة الاجتماعية ممكناً ومرحّباً به. ثانياً، اعتُبِر التقدّم حتمياً، ما يعني أن الغد سيكون أفضل من اليوم طبعاً. سرعان ما أصبحت هاتان القيمتان جزءاً من العوامل التي سمحت للشعب السوفياتي بمجابهة البيريسترويكا (برنامج "إعادة الهيكلة") وتحطيم النظام الشيوعي بحماسة يصعب تخيّلها اليوم.

ترافقت الأحداث اللاحقة مع تداعيات سلبية بارزة. لم يكن السوفيات في عهد بريجنيف يجرؤون على تخيّل حروب عرقية داخلية، أو ممارسات مهنية وحشية، أو النزوح الاجتماعي الفائق، أو توسّع تحركات المواطنين باسم الانتهازية الاجتماعية. شكّلت أحداث التسعينات والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين ضربة مريعة انعكست على وعي ملايين الناس. بدل إنشاء نوع جديد من الأشخاص، انهارت الشخصيات القائمة أصلاً. أدى أسلوب الحياة الجديد إلى نسف القدرة على تحسين المستقبل أو توقّع أي وضع إيجابي. اليوم، لا يفهم الكثيرون إلى أي حد لا يزال المجتمع الروسي عالقاً في تلك التجارب.

عند تحليل معظم الخطابات الروسية المعاصرة، يسهل أن نستنتج أنها تُركّز على الماضي في المطلق. وحتى لو لم تبذل السلطات أي جهود في هذا المجال، يسود جدل حول تفضيل الماضي السوفياتي بحكومته "الإنسانية"، ومعاشات التقاعد، والمساواة، والتعليم المجاني، و"الصداقة بين الشعوب"، أو الماضي الذي تلا الحقبة السوفياتية مع ما يرافقه من ديمقراطية، وأسواق حرة، ومشاريع، وفرصة التحوّل من مدرّس في كلية المحافظة إلى النائب الأول لرئيس مجلس الدوما خلال بضع سنوات. منذ أيام، أثبتت الذكرى المئوية لولادة أندريه ساخاروف أن جميع الأطراف، بما في ذلك من يكرهون النظام الروسي الراهن، لا تزال تحلم بالنقاشات والقيم التي كانت سائدة في عصرٍ مضى ولن يعود يوماً. مع ذلك، يريد معظم الناس أن "يعودوا" إلى إحدى حقبات الماضي: يفضّل البعض فترة الستينات، ويختار البعض الآخر الثمانينات، أو التسعينات، أو بداية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين.

لقد أصبح تقديس الماضي أشبه بهواية وطنية. ونظراً إلى رفض بناء مستقبل افتراضي، أصبح الروس عالقين في الزمن الحاضر. خلال الخمسينات، تصوّر الأوروبيون نشوء اتحاد عابر للأوطان وأسسوا مشروعاً سياسياً بدا الأكثر مثالية في العالم. لكن تمسّك الروس في المقابل بوهم قبيح حول المساحة الاقتصادية في حقبة ما بعد السوفيات، ونجحوا بطريقة ما في استرجاع شبه جزيرة القرم من أوكرانيا. خلال الثمانينات، قررت الصين أن تنفتح على العالم وتبني اقتصاداً جديداً من الصفر بناءً على جذب الاستثمارات وتوفير عشرات آلاف المنتجات المُصنّعة. أما الروس، فقد اكتفوا بخصخصة وتقسيم ما بنوه سابقاً. لم يخلق بوتين خوف الروس من المستقبل وحبّهم للماضي، بل إنه استغل هذه العواطف بكل بساطة. لا يتطلع الناس اليوم إلى المستقبل لأنهم يعطون الأولوية للاستقرار. تضمن السلطات الروسية الحالية هذا الاستقرار وتستفيد منه.

تواجه روسيا اليوم أزمة عميقة في نظامها. لن ينفي الليبراليون ولا المحافظون هذا الواقع. لكنّ أي خيارات محتملة للخروج من تلك الأزمة تعود إلى الماضي بدل التطلع إلى المستقبل. يحاول الجميع ربط "اليوم" بـ"الأمس". لكن تغفل النقاشات المرتبطة بمواضيع مثل الفساد، ونقل السلطة، ومعاشات التقاعد، وإصلاح نظام الرعاية الصحية، والمنافسة الاقتصادية، والمحاكم المستقلة، عن فكرة واضحة: لا يمكن اعتبار روسيا دولة "طبيعية" حيث يحتاج النظام الاقتصادي والسياسي إلى "تعديل مناسب". لقد أصبح البلد معزولاً عن العالم. لا يُقاس تأخّره عن الدول الرائدة في مجالات التكنولوجيا والاقتصاد، والأهم من ذلك العقلية الشعبية، بعدد السنوات بل الأجيال. من دون حصول تغيير جذري في رأي الروس حول نظرتهم إلى أنفسهم وبلدهم والعالم المحيط بهم، سيكون انتظار أي تغيير حقيقي محكوماً بالفشل.

بعد العام 2020، يواجه بوتين والنخبة الحاكمة الروسية تحديات أكثر خطورة من أول عقدَين من القرن الواحد والعشرين. هم مصمِّمون على عدم الاكتفاء باستهداف المشاركة السياسية أو الرفاهية المادية، ويتطلعون إلى الحريات الشخصية التي يقدّرها الجيل المعاصر أكثر من جميع العوامل الآنف ذكرها. لكن قد يتبيّن أيضاً أن النظام قادر على تحقيق أصعب الأهداف لأن الروس خسروا أهم نوع من حرياتهم الشخصية: إنها حرية الحلم أو تخيّل مستقبل مجهول.


MISS 3