بيرني ساندرز

إجماع جديد وخطير حول الصين في واشنطن

25 حزيران 2021

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

تواجه الولايات المتحدة اليوم تحديات غير مسبوقة (التغير المناخي، الأوبئة، الانتشار النووي، اللامساواة الاقتصادية الفادحة، الإرهاب، الفساد، الاستبداد)، وهي تحمل طابعاً عالمياً مشتركاً ولا يمكن أن يحلّها بلد واحد. بل تتطلب هذه المشاكل تعاوناً دولياً واسعاً يشمل الصين، البلد الأكثر اكتظاظاً في العالم. من المقلق إذاً أن ينشأ إجماع متسارع في واشنطن حول وضع العلاقات الأميركية الصينية في خانة الصراع العسكري والاقتصادي العقيم. يسهل أن ينشئ هذا الرأي بيئة سياسية حيث يصبح التعاون الذي يحتاج إليه العالم بشدة هدفاً بعيد المنال.

من المعروف أن معايير الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان لم تتحسن في الصين. بل إنها ضعفت بدرجة إضافية فيما اتجه البلد نحو نهج أكثر استبداداً، وسرعان ما زادت عدائية الصين على الساحة العالمية. في غضون ذلك، بدأت الأفكار التقليدية السائدة في واشنطن تنتقل من التفاؤل المفرط حول الفرص التي تقدّمها التجارة غير المقيّدة مع الصين إلى عدائية مفرطة بشأن تهديدات الصين التي تزداد غنىً وقوة واستبداداً نتيجة توسّع عملياتها التجارية.

في شباط 2020، كتب المحلل بروس جونز من معهد "بروكينغز" أن "الشؤون العالمية اضطربت نتيجة صعود الصين وتحوّلها إلى ثاني أكبر اقتصاد وأول مُستهلِكة للطاقة وثاني دولة تنفق على الدفاع في العالم"، وأن التحرك "لمواجهة الوقائع الجديدة التي تفرضها المنافسة القائمة بين القوى العظمى هو أكبر تحدّ سيواجهه الحكام الأميركيون خلال المرحلة المقبلة". منذ بضعة أشهر، قارن السيناتور الجمهوري المحافظ عن ولاية "أركنساس"، توم كوتون، بين التهديد الصيني الراهن والتهديدات التي طرحها الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة، فقال: "مجدداً، تواجه الولايات المتحدة خصماً توتاليتارياً قوياً يحاول الهيمنة على أوراسيا وإعادة صياغة النظام العالمي". ومثلما أعادت واشنطن تنظيم هندسة الأمن القومي الأميركي بعد الحرب العالمية الثانية استعداداً لخوض الصراع مع موسكو، كتب كوتون: "اليوم، لا بد من تحديث الجهود الأميركية الاقتصادية والصناعية والتكنولوجية على المدى الطويل كي تعكس التهديدات المتزايدة التي تطرحها الصين الشيوعية". في الشهر الماضي قال كيرت كامبيل، كبير المسؤولين عن سياسات آسيا في مجلس الأمن القومي الأميركي: "لقد انتهت فترة التواصل مع الصين وستكون المنافسة المعيار الطاغي في المرحلة المقبلة".

منذ عشرين سنة، كانت الأوساط الاقتصادية والسياسية الأميركية مخطئة بشأن الصين. اليوم، تغيرت وجهة النظر التي تحصد إجماعاً أميركياً واسعاً، لكنها لا تزال خاطئة. بدل تمجيد منافع التجارة الحرة والانفتاح تجاه الصين، بدأت واشنطن تقرع طبول حربٍ باردة جديدة وتعتبر الصين تهديداً وجودياً على الولايات المتحدة. بدأنا نسمع السياسيين وممثلي الأوساط العسكرية والصناعية وهم يستعملون هذه الفكرة كأحدث عذر لتبرير زيادة ميزانيات الدفاع.

يجب أن يتحدى الجميع هذا الإجماع الجديد، إذ توازي هذه الخطوة بأهميتها التصدي للإجماع القديم. لا شك في أن الحكومة الصينية مذنبة بسبب عدد كبير من السياسات والممارسات التي تتعارض مع توجهات جميع الأميركيين، منها سرقة التكنولوجيا، وإضعاف حقوق العمال والصحافة، وحملة القمع المستمرة في التِبَت وهونغ كونغ، وتهديدات بكين لتايوان، وسياسات الحكومة الصينية الوحشية تجاه الإيغوريين. كذلك، يجب أن تقلق الولايات المتحدة من طموحات الصين العالمية العدائية وتتابع الضغط لطرح هذه المسائل خلال المحادثات الثنائية مع الحكومة الصينية وفي مؤسسات متعددة الأطراف مثل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. ستصبح هذه المقاربة أكثر مصداقية وفاعلية إذا تبنّت الولايات المتحدة موقفاً متماسكاً تجاه حلفائها وشركائها في مجال حقوق الإنسان.

لكن لا يمكن تحسين تصرفات الصين عبر تنظيم السياسة الخارجية الأميركية بناءً على مواجهة عالمية عقيمة مع بكين، حتى أن هذه المقاربة ستكون خطيرة من الناحية السياسية وقد تترافق مع نتائج استراتيجية عكسية. تعكس سابقة حديثة جداً تداعيات خوض مواجهة متسرّعة مع الصين: "الحرب العالمية على الإرهاب". غداة هجوم 11 أيلول، استنتجت الأوساط السياسية في واشنطن سريعاً أن مكافحة الإرهاب أصبحت محور السياسة الخارجية الأميركية. لكن بعد مرور عشرين سنة تقريباً وإنفاق 6 تريليون دولار، اتّضح أن البعض استغل الوحدة الوطنية لإطلاق سلسلة من الحروب اللامتناهية التي ترافقت مع تكاليف بشرية واقتصادية واستراتيجية باهظة ورسّخت مشاعر كره الأجانب والتعصب في السياسة الأميركية (يتحمّل الأميركيون المسلمون والعرب معظم أعباء هذه الظاهرة). في ظل الحملة الرامية إلى تأجيج المخاوف من الصين اليوم، لا عجب في أن يسجّل البلد زيادة في جرائم الكره المعادية للآسيويين. في الوقت الراهن، أصبحت الولايات المتحدة أكثر انقساماً مما كانت عليه في أي مرحلة من التاريخ الحديث. لكن يُفترض أن تكون تجربة العقدَين الأخيرين إثباتاً على ضرورة أن يقاوم الأميركيون ميلهم إلى محـــــاولة تعزيز وحدتهم الوطنية عن طريق العدائية والخوف.

نـــحـــو مـــســـتـــقـــبـــل أفـــضـــل

كانت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن محقة حين اعتبرت توسّع النزعة الاستبدادية تهديداً كبيراً على الديمقراطية. لكن لا يتركّز صراع الديمقراطية والاستبداد بين الدول بل في داخلها، بما في ذلك الولايات المتحدة. وإذا كانت الديمقراطية محكومة بالانتصار، فلن يتحقق هذا الفوز في ساحة معركة تقليدية بل عبر إثبات قدرة الديمقراطية على تحسين حياة الناس أكثر من الأنظمة الاستبدادية. لهذا السبب، يجب أن نعيد إحياء الديمقراطية الأميركية ونُجدد ثقة الناس بالحكومة عبر تلبية حاجات العائلات العاملة التي تم إهمالها لفترة طويلة. ويجب أن نوفر ملايين الوظائف ذات الأجور اللائقة ونعيد بناء البنية التحتية المتصدعة ونحارب التغير المناخي. ويجب أن نعالج الأزمات التي نواجهها في مجالات الرعاية الصحية، والإسكان، والتعليم، والعدالة الجنائية، والهجرة، وقطاعات أخرى كثيرة. لن تكون هذه الخطوات ضرورية لزيادة القدرة الأميركية على منافسة الصين أو أي بلد آخر فحسب، بل تكمن أهميتها أيضاً في تلبية أبرز حاجات الشعب الأميركي.

تهتم الحكومة الأميركية في المقام الأول بأمن الشعب الأميركي وازدهاره، لكن يجب أن تدرك في الوقت نفسه أن هذه العوامل تتوقف على وضع شعوب الدول الأخرى في ظل العالم المترابط اليوم. لتحقيق هذه الغاية، من مصلحة الأميركيين أن يتعاونوا مع دول غنية أخرى لتحسين مستوى المعيشة حول العالم وتقليص مظاهر اللامساواة الاقتصادية التي استغلتها القوى الاستبدادية في كل مكان، لتعزيز نفوذها السياسي وإضعاف الديمقراطية.

ضغطت إدارة بايدن لفرض حد أدنى عالمي من الضرائب على الشركات. إنها خطوة إيجابية لإنهاء "السباق نحو القاع". لكن يجب أن نفكر بالمشهد العام لتحديد حد أدنى عالمي للأجور وتعزيز حقوق العمال حول العالم، ومنح ملايين الأشخاص الآخرين فرصة عيش حياة لائقة وكريمة، وإضعاف قدرة المؤسسات متعددة الجنسيات على استغلال أكثر الشعوب حرماناً في العالم. لمساعدة الدول الفقيرة على تحسين معيشتها تزامناً مع الاندماج في الاقتصاد العالمي، يجب أن تزيد الولايات المتحدة ودول غنية أخرى استثماراتها في مجال التنمية المستدامة.

لضمان ازدهار الشعب الأميركي، يجب أن تصدّق الأطراف الأخرى حول العالم أن الولايات المتحدة حليفة لها وأن نجاحاتها من نجاح واشنطن. كان بايدن محقاً حين قرر تقديم 4 مليارات دولار دعماً لمبادرة التلقيح العالمية "كوفاكس"، وتقاسم 500 مليون جرعة لقاح مع دول العالم، والموافقة على التنازل عن حقوق الملكية الفكرية التي تفرضها منظمة التجارة العالمية للسماح للدول الأكثر فقراً بإنتاج اللقاحات بنفسها. تستحق الصين الإشادة على الخطوات التي اتخذتها لتأمين اللقاحات، لكن تستطيع الولايات المتحدة أن تحقق إنجازات إضافية. حين يشاهد الناس حول العالم العلم الأميركي، يُفترض أن يُذكّرهم بِحُزَم المساعدات الإنقاذية، لا الطائرات بلا طيار والقنابل. لترسيخ الأمن والازدهار لصالح الطبقة العاملة في الولايات المتحدة والصين معاً، لا بد من بناء نظام عالمي أكثر إنصافاً حيث تُعطى الأولوية للحاجات الإنسانية بدل جشع الشركات والنزعات العسكرية. في الولايات المتحدة، لا يمكن تحقيق هذه الأهداف عبر تقديم مليارات الدولارات الإضافية من أموال دافعي الضرائب إلى الشركات والبنتاغون تزامناً مع تأجيج مظاهر التعصّب.

يجب ألا يتعامل الأميركيون بسذاجة مع ارتكابات الصين التي تتمثل بأساليب القمع، وتجاهل حقوق الإنسان، وتوسيع الطموحات العالمية. من مصلحة الشعب الأميركي أن يعزز المعايير الدولية التي تحترم حقوق جميع الشعوب وكرامتها، في الولايات المتحدة والصين وحول العالم. لكنّ توسّع الإجماع بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي حول خوض المواجهة مع الصين سيُضعِف تلك الأهداف ويجازف بتقوية الجهات الاستبدادية والقومية المتطرفة في البلدين. حتى أنه قد يصرف الانتباه عن المصالح المشتركة بين الطرفين على مستوى محاربة تهديدات وجودية مثل التغير المناخي، والأوبئة، والدمار الناجم عن أي حرب نووية محتملة.

لن يكون تطوير علاقة ترضي الطرفين مع الصين مهمة سهلة بأي شكل، لكن تستطيع واشنطن أن تبتكر حلاً أفضل من إطلاق حرب باردة جديدة.


MISS 3