كريستينا هيبيل

المعارضة في بيلاروسيا تحت المجهر...

شجاعة نساء مينسك إلى الواجهة

28 حزيران 2021

المصدر: DER SPIEGEL

02 : 00

وصلت رسالة عبر تطبيق "تلغرام" في وقت متأخر من إحدى الأمسيات وكانت تشمل عنواناً في حي يقع في شمال شرق مدينة مينسك. بعد مرور ثلاثين دقيقة، توجهت خمس نساء نحو ذلك الموقع وتابعن السير باتجاه غابة مجاورة. ثم مررن بين شجيرات قبل أن يجلسن على بعض الجذوع. تتألف هذه المجموعة النسائية من جارات يُقِمن في الحي نفسه. هنّ يعملن على التوالي في مستشفى، وحضانة، وجامعة، ومصنع معادن، ويعتنين بأولادهنّ. لقد تعرّفن على بعضهن البعض خلال التظاهرات ضد ألكسندر لوكاشينكو في آب الماضي ويتابعن اليوم المشاركة في الاحتجاجات المعادية للدكتاتور الحاكم.

تحمل الطبيبة ماري حقيبة فيها ملابس داخلية وجوارب أينما تذهب في حال تم اعتقالها: "يجب أن نكون مستعدين لأي شيء"! على معصمها الأيسر، لا تزال تضع سواراً باللون الأبيض والأحمر والأبيض، وهي ألوان علم المعارضة الذي رفضته الحكومة. يسهل أن يتعرض كل من يحمل هذا العلم للاعتقال فوراً ثم يُحتجَز لبضعة أيام إذا أوقفته السلطات.

"ماري" ليس اسم المرأة الحقيقي طبعاً بل إنه اسم مستعار في هذه المقالة، على غرار أسماء النساء الأخريات، لأسباب متعلقة بسلامتهنّ الشخصية. المخاطر المطروحة كبيرة لدرجة أن يزور جهاز الأمن البيلاروسي عائلاتهنّ في أي لحظة. تتابع الشرطة دورياتها المنتظمة في أحياء مينسك السكنية بحثاً عن معارضي النظام.

برأي أولئك النساء، تُعتبر تلك الغابة المجاورة لمكان إقامتهنّ المساحة الوحيدة حيث يستطعن التكلم مع أي صحافي بلا خوف. هنّ يعبّرن عن مخاوفهن الهائلة، حتى أن بعضهنّ يشاهد الشرطة التابعة لجهاز الأمن في كوابيسه. مع ذلك، تؤكد هذه المجموعة على عدم استعدادها للاستسلام.

آلاف المعتقلين

لم يعد سكان بيلاروسيا قادرين على التظاهر منذ أشهر. أَمَر الدكتاتور ألكسندر لوكاشينكو عصاباته بتفريق الحشود في الشوارع باستعمال العصي والرصاص المطاطي والقنابل الضوئية ورشاش الفلفل. مرّت عشرة أشهر منذ أن أعلن لوكاشينكو نفسه الفائز في الانتخابات الرئاسية المزوّرة، فزعم أنه حصد أكثر من 80% من الأصوات. منذ ذلك الحين، يتعرّض كل من يشكك بفوزه لقمع جهازه الأمني. اعتُقِل أكثر من 35 ألف شخص منذ آب الماضي، وحُكِم على الآلاف بالسجن وتعرّضوا للضرب والتعذيب. حتى أن بعضهم خسر حياته.

في الفترة الأخيرة، أصدر لوكاشينكو أمراً بعودة رحلة "ريان إير" المتّجهة إلى ليتوانيا وعلى متنها 126 راكباً إلى مينسك لاعتقال الناشط المعارِض المنفي رومان بروتاسيفيتش وحبيبته.

يستعمل الدكتاتور قضيـــــة بروتاسيفيتش اليوم لتلقين الآخرين درساً قاسياً: لم يُجبَر ذلك الشاب البالغ من العمر 26 عاماً على الاعتراف بميوله المتطرفة في أحد الفيديوات بعد اعتقاله فحسب، بل اضطر أيضاً لإجراء مقابلة مع التلفزيون الحكومي، فأدان نفسه وآخرين وعبّر عن احترامه للوكاشينكو. كانت الخدوش على معصمَيه واضحة وهي تنجم على الأرجح عن الأغلال التي كُبّل بها.

يفترض عدد من الناشطين المعارضين الآخريـــــن أن بروتاسيفيتش يتعرض للتعذيب. لم تتمكن محاميته من زيارته في السجن طوال أسبوعين.

رسالة لوكاشينكو واضحة: سيخسر معارضوه كل شيء. تدرك النساء المُجتمِعات في الغابة هذا الواقع جيداً. فضّل بعضهنّ عدم مشاهدة مقابلة بروتاسيفيتش، مع أن إعادة طائرته قسراً هي التي جدّدت آمالهنّ.

تقول ماري إنها تشعر بحزن شديد لما أصاب رومان، لكن تصبّ خطوة لوكاشينكو الأخيرة في مصلحة منتقدي النظام. لقد فهم السياسيون الأوروبيون أخيراً حقيقة لوكاشينكو: إنه دكتاتور لا يكتفي بترهيب بلده لإسكات منتقديه بل يرعب أوروبا كلها أيضاً. هي تعرف أن هذا التعليق قد يبدو خبيثاً بنظر البعض، لكن توقّف الاتحاد الأوروبي أخيراً عن التعبير عن "قلقه الشديد" من الوضع القائم. تتكلم هذه الناشطة بسرعة فيما تومئ النساء الأخريات برؤوسهنّ في إشارة إلى موافقتهنّ على كلامها. كانت هذه المجموعة تنتظر منذ وقت طويل أن يفرض الاتحاد الأوروبي عقوبات مؤلمة ضد النظام، لكن بقيت أوروبا مترددة.

يضطهد زعيم بيلاروسيا شعبه منذ عشرة أشهر وقد تلاشت جميع الآمال التي حملها الناس حول سقوطه الوشيك في الصيف الماضي.

تقول أوليسيا (30 عاماً): "لم يصبح رومان ومئات المعتقلين السياسيين رهينة هذا النظام فحسب، بل نحن جميعاً رهائن لديه". في شهر آب الماضي، تجرأت المحاضِرة الجامعية أولغا (37 عاماً) على حضور اجتماع من تنظيم سياسي محلي للتكلم عن نتائج الانتخابات الرئاسية. بعد وقتٍ غير طويل، تم تمديد عقد عملها في الجامعة الحكومية التي تعمل فيها لسنتين فقط بدل خمس سنوات كما جرت العادة.

تقول أولغا إن الجامعات تراقب تصرفات الموظفين للتأكد من أنها "وطنية" بما يكفي. بحسب قولها، يُطلَب من المعلمين أن يحذروا طلابهم من "غسل أدمغتهم" عبر "تلغرام" (منصة المراسلة المفضلة لدى المعارضة) ويتطرقوا إلى المعركة ضد التطرف. في بيلاروسيا، يُعتبر جميع معارضي القيادة الراهنة متطرفين.

"تحيا بيلاروسيا"!


بدأت مشاعر اليأس تسيطر على شعب بيلاروسيا. خسر عدد هائل من خصوم النظام وظائفه. في شهر أيار، توفي السياسي المعارض فيتولد أشوراك حين كان رهن الاعتقال بسبب سكتة قلبية مفاجئة وفق الادعاءات. نشر المسؤولون فيديو يظهر فيه أشوراك وهو يترنح قبل أن يسقط ويبقى أرضاً بلا حركة. حضر مئات الأشخاص جنازته وراحوا يهتفون بشعار المعارضة: "تحيا بيلاروسيا"!

سُجّلت وفاة أخرى بعد وقت قصير. سقط شاب في الثامنة عشرة من عمره من مبناه السكني في مينسك بعدما رفع المسؤولون قضية جنائية ضده بتهمة إثارة "اضطرابات شعبية". كان الشاب قد شارك في احتجاجات شهر آب.

وفي بداية شهر حزيران، طعن الناشط ستيبان لاتيبوف نفسه في العنق بقلم حبر في المحكمة أثناء محاكمته. كان يواجه تُهَماً جنائية مع أفراد عائلته وجيرانه الذين احتجوا معه في فناء المبنى الذي يقيم فيه، وهو موقع معروف على نطاق واسع باسم "ساحة التغيير".

استضاف ذلك المكان عدداً من الحفلات الموسيقية والمسيرات وسرعان ما أصبح معقلاً أساسياً للاحتجاجات. لكن اتخذ المسؤولون على ما يبدو قراراً بتدمير ذلك الرجل المعروف بشجاعته: منذ بضعة أسابيع، قال والد لاتيبوف في قاعة المحكمة إن ابنه حمل كدمة على عينه وظهرت مؤشرات أخرى على وجهه تثبت تعرّضه لسوء المعاملة. أضاف الأب أن ابنه بالكاد يستطيع النوم وزعم أن مرضى نفسيين شاركوه زنزانته ثم اعتدوا عليه.

برأي فيكا (40 عاماً)، المعلمة التي تعمل في الحضانة وكانت جزءاً من مجموعة النساء في الغابة: يمكن اختصار ما يحصل بكلمة واحدة: الرعب. تقول إيرينا التي كانت تجلس بالقرب منها إنها تشاهد كوابيس متكررة حيث تحاول الهرب من الشرطة فيما تنفجر القنابل الضوئية في جوارها. في أواخر تشرين الأول الماضي، طاردت عصابات النظام هذه الشابة البالغة من العمر 28 عاماً ومتظاهرين سلميين آخرين عبر الشوارع الخلفية في مدينة مينسك.

تقول إيرينا إنها تعجز عن النوم لأي لحظة أحياناً، فتجد نفسها جالسة أمام حاسوبها في الساعة الواحدة ليلاً. في لحظات مماثلة، قد تتصل بواحدة من النساء الأخريات للاتفاق على الخروج والقيام بنشاط معيّن.

مــؤشــر عــلــى عــدم الاســتــســلام

تخرج النساء في تلك الأمسيات لإلصاق لافتات باللون الأبيض والأحمر على أعمدة الإنارة ورسم علم المعارضة في الشارع أو نشر صور زعيمة المعارضة المسجونة ماريا كاليسينكافا على جدران المبنى. في إحدى المناسبات، استعملت النساء رذاذاً لكتابة عبارة "حاربوا كي تتحرروا" باللغة البيلاروسية على أحد الجدران، فبقيت هذه العبارة هناك لأكثر من شهر. في العادة، يزيل عمّال المدينة جميع الشعارات المرتبطة بالمعارضة سريعاً.

تشعر النساء بالتحسن عند القيام بهذا النوع من النشاطات: "إنه مؤشر على أننا ما زلنا على قيد الحياة وأن حركتنا الاحتجاجية لا تزال قائمة ولا ننوي الاستسلام"! تبقى هذه المبادرات صغيرة ومبتكرة في معظم الأحيان، وتضعها الناشطات في إطار "الأعمال الحزبية". هنّ يتواصلن عبر مجموعات "تلغرام" في أحيائهن السكنية. قد تشمل المجموعات 60 عضواً لكن يصل عدد الأعضاء أحياناً إلى 250. لا يشارك الجميع في النشاطات، بل يقدّم البعض المساعدة من وراء الكواليس.

في الفترة الأخيرة، صوّر عدد من الناشطين أنفسهم وهم يفتحون علماً ضخماً باللون الأبيض والأحمر بالقرب من طريق سريع تزامناً مع إطلاق الألعاب النارية بألوان المقاومة. ثم نشروا الفيديو على مواقع التواصل الاجتماعي.

تجتمع ماري مع أصدقائها أيضاً لتحضير هذا النوع من مقاطع الفيديو. حين أغلق النظام موقع tut.by، أهم وسيلة إعلامية مستقلة في بيلاروسيا، في منتصف أيار الماضي، نشر الناشطون مقطعاً هتفوا فيه "يحيا موقع tut.by!" تزامناً مع حمل علم الاحتجاج. كانت وجوههم مغطاة بالأقنعة. خلال هذه السنة وحدها، اعتُقِل 75 صحافياً في بيلاروسيا. يقبع 27 منهم في السجن، بما في ذلك المراسلة إيكاترينا أندرييفا والمصورة داريا تشولتسوفا من الشبكة المعارِضة "بيلسات". اتُهمت المرأتان بتغطية مسيرة احتجاجية في تشرين الثاني مباشرةً.

يتحسن المزاج العام قليلاً في غابة مينسك حين تتكلم النساء عن نشاطاتهن الاحتجاجية ويعرضن فيديوات حيث يظهرن وهنّ يرقصن بملابس حمراء وبيضاء. حتى أن هذه المجموعة أسست صحيفتها الخاصة. يكون عدد كبير من الجيران أكبر سناً ولا يستعملون قناة "تلغرام" ولا يستطيعون مشاهدة وسائل الإعلام التابعة للمعارضة. معظمهم من مناصري لوكاشينكو، وهم متقاعدون كانوا يعملون سابقاً في مصانع تابعة للدولة. لكن يقرأ معظمهم الآن النشرة الإخبارية، حتى أنهم قد ينشرونها على لوح الرسائل في مداخل المباني. تقول النساء إن جندياً متقاعداً واحداً اعتاد على تمزيق الصحيفة.

في قلب مدينة مينسك، يرفرف علم بيلاروسيا الوطني الأحمر والأخضر على عدد كبير من المباني، وكأن لوكاشينكو يريد بهذه الطريقة أن يحدد المناطق المحسوبة عليه. ولا تحمل الشوارع النظيفة أي مؤشر على التظاهرات الحاشدة. لكن تبقى الحركات الصغيرة كافية لأخذ فكرة عن حقيقة ما يحصل وراء هذا الوضع المنظّم ظاهرياً: إيماءة بسيطة بالرأس حين يلاحظ أحد المتسوقين في المتجر أن غطاء هاتف الشخص المجاور له يحمل اللون الأحمر والأبيض، أو ظهور ابتسامة على وجه الناس حين يقف ألكسندر كاليسنيكاف، والد زعيمة المعارضة ماريا كاليسينكافا، لالتقاط صورة مع السجين رقم 1 فيما يرسم شكل قلب بيديه كما تفعل ابنته. تقبع ماريا كاليسينكافا في السجن منذ تسعة أشهر ومن المنتظر أن تبدأ محاكمتها بتهمة التطرف قريباً. يقول والدها إن شعب بيلاروسيا تغيّر في السنة الماضية، وقد لاحظ ذلك عبر مظاهر التضامن التي يختبرها يومياً.

سبق وغادر آلاف الناس بيلاروسيا، معظمهم من المهندسين والمبرمجين المتعلمين والأصغر سناً. يقول آخرون إنهم يتمنون أن يلحقوا بهم لأنهم ما عادوا يتوقعون أي مستقبل واعد في بيلاروسيا.

لكن يقول كاليسينكافا من جهته: "كيف يُعقَل أن أرحل ولديّ ابنة بهذه القوة؟ أنا أعتبرها قدوتي". كانت ماريا قد مزقت جواز سفرها حين حاول أتباع لوكاشينكو إجبارها على مغادرة البلد.

لا تنوي النساء الخمس في الغابة الاستسلام لأي سبب أيضاً. حين قالت أوليسيا إنهن سيتابعن النضال لفترة قصيرة أخرى، ضحكت النساء كلهن وكرّرن وراءها: "لفترة قصيرة فقط"!


MISS 3