أيمي مايرز جاف

الكهرباء هي النفط الجديد!

29 حزيران 2021

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

في الشهر الماضي، أطلق مقرصنون واحداً من أقوى الاعتداءات الرقمية في التاريخ الحديث. في 7 أيار، استخدمت مجموعة معروفة باسم DarkSide هجوماً مبنياً على برامج الفدية لتعطيل واحد من أكبر خطوط الأنابيب في الولايات المتحدة، وهو يُعتبر شرياناً حيوياً لنقل البنزين والديزل ووقود الطائرات من مصافي ساحل الخليج الأميركي إلى عشر ولايات على الساحل الشرقي. بسبب هذا الاعتداء، اضطر نظام التشغيل Colonial Pipeline لوقف عمليات التسليم موقتاً، ما أدى إلى نقص حاد في المواد وإقدام السائقين المذعورين على تخزين الوقود. كذلك، أجبر هذا العطل عدداً من المطارات على تغيير مسارات رحلاتها، وبلغت أسعار الوقود في أنحاء البلد أعلى مستوياتها منذ العام 2014.

خلال السنوات المقبلة، من المتوقع أن تتعرض بنى تحتية إضافية لاعتداءات مشابهة، وتبدو الولايات المتحدة غير مستعدة للدفاع عن نظام الطاقة العالمي مستقبلاً. إذا أراد البلد أن يحتفظ بنفوذه الجيوسياسي الكبير، فيجب أن يأخذ المبادرة مجدداً ويبتكر أفضل الطرق كي تحافظ واشنطن وحلفاؤها على أمن شبكات الكهرباء الحيوية.

اليوم، بدأ العالم يتجه إلى استعمال الطاقة المتجددة كخيار بديل عن الوقود الأحفوري وأنظمة التوزيع التي ترافقه. بدل خطوط الأنابيب والسفن الناقلة في المحيطات، يتّكل المستهلكون بشكلٍ متزايد على شبكات متطورة تكنولوجياً وقادرة على ربطهم بحقول الطاقة الشمسية، وتوربينات الرياح، والمولدات الكهرومائية، ومحطات توليد الطاقة الحرارية الجوفية.

في ظل توسّع هذه العملية الانتقالية، لا مفر من أن تتوسع أيضاً تجارة الكهرباء العابرة للحدود فيما تسعى الدول إلى اكتساب الطاقة من مصادر ومواقع متنوعة. سبق وأخذت أوروبا زمام المبادرة. تهدف اتفاقيات مثل "نورد بول" (نظام خاص بتجارة الكهرباء يرتكز على مزاد علني ويربط بين تسع شبكات وطنية مختلفة) إلى تحسين أمن الطاقة وفعاليتها في أنحاء القارة. على الجانب الآخر من العالم، أنشأت الصين "منظمة التنمية والتعاون للربط العالمي للطاقة" في العام 2016، وهي تحمل طموحات كبرى لربط شبكات الكهرباء الصينية بشبكات دول أخرى في أنحاء آسيا، وحتى في أماكن بعيدة مثل أميركا اللاتينية.

بشكل عام، تبرز تطورات إيجابية في هذا المجال. تسمح الشبكات الموزعة والجديرة بالثقة بتحقيق أهداف عدة، أبرزها معالجة واحدة من أكبر نقاط الضعف في قطاع الطاقة المتجددة. بما أن أنماط الطقس تتغير بحسب المواقع، تعجز الرياح والطاقة الشمسية عن تلبية جميع الحاجات المحلية. من خلال الاتكال على مصادر طاقة من مواقع مختلفة، تسهم الشبكات متعددة الأطراف في تقليص الأعطال المحتملة نتيجة أحوال الطقس المحلية أو المشاكل التقنية، ما يسمح للدول بتحسين جوانب من أمن الطاقة والتخلي عن الوقود الأحفوري.

لكن تبرز في المقابل بعض السلبيات الواضحة طبعاً. تتطلب أي شبكة متوسّعة المزيد من البنى التحتية التي تحتاج إلى الحماية وتزيد احتمال أن يخترقها المقرصنون سعياً وراء مكاسب شخصية أو تنازلات سياسية. من المعروف مثلاً أن المقرصنين الروس عطلوا ثلاث شركات أوكرانية لتوزيع الكهرباء في العام 2015، وأغلقوا عن بُعد 30 محطة فرعية، وقطعوا الكهرباء عن مئات آلاف المواطنين الأوكرانيين. وفي زمن الحرب، يستطيع المقرصنون أن يتسللوا إلى منشآت الطاقة ويسيئوا إلى المدنيين ويسببوا كارثة بيئية. في العام 2017، انتشرت ادعاءات مفادها أن المقرصنين الإيرانيين اخترقوا مصنعاً سعودياً للبتروكيماويات لتخريب عملياته وإحداث انفجار فيه. لكنهم فشلوا في مساعيهم لحسن الحظ.

قد تكون هذه المشاكل جديدة، لكنّ حلولها ليست كذلك. تستطيع الدول التي تتكل على الشبكة نفسها أن تزيد قدرة توليد الطاقة الاحتياطية وتُوسّع أنظمة الإرسال الزائدة لكبح تداعيات أي اعتداء محتمل. ويمكنها أن تحتفظ بمحطات الوقود الأحفوري كمكان احتياطي وجاهز للاستعمال في الحالات الطارئة، وتدفع المال لمزوّدي الكهرباء كي يحتفظوا بفائض قدرة توليد الطاقة تحسباً لأي أعطال. حتى أنها تستطيع استعمال شبكات الطاقة الشمسية المصغرة (إنها أنظمة صغيرة تعمل بشكلٍ مستقل انطلاقاً من شبكة الكهرباء العامة) لتجاوز الكهرباء التي ينتجها النظام المركزي في حال انقطاعها. كذلك، قد تتمكن الدول أو المناطق من إنشاء أنظمة تخزين الطاقة التي تستعمل البطاريات وتلجأ إلى ضخ الهواء والمياه أو الهيدروجين.

لكن يطرح عالم الشبكات الكهربائية الموزّعة والرقمية تحدياً فريداً من نوعه على الولايات المتحدة تحديداً، لا سيما دورها كضامنة لأمن قطاع الطاقة العالمي. غداة أزمات النفط خلال السبعينات والغزو السوفياتي لأفغانستان في العام 1979، أعلن الرئيس الأميركي جيمي كارتر أن الولايات المتحدة كانت مستعدة لاستعمال القوة للدفاع عن مصالحها الوطنية في الخليج العربي الغني بالنفط. ثم أصبحت هذه المقاربة معروفة باسم "عقيدة كارتر"، ورسّخت الولايات المتحدة خلال العقود اللاحقة وجودها العسكري في المنطقة وتدخلت في صراعات عدة. اليوم، يتجاوز الدور الأميركي في الدفاع عن إمدادات النفط حدود الخليج العربي: تؤدي القوات البحرية الأميركية دوراً محورياً في حراسة الممرات البحرية الدولية التي تستعملها الدول والشركات لنقـل الوقود الأحفوري.

لكن في العالم المستقبلي المبني على توصيلات الكهرباء العابرة للحدود، لن يكون الحفاظ على أمن الممرات البحرية لمتابعة تصدير النفط كافياً لحصد النفوذ الجيوسياسي نفسه. في ظل تغيّر المشهد العام، يجب أن تعيد واشنطن النظر بدورها في نظام الطاقة العالمي. تستطيع الولايات المتحدة أن تبدأ بأداء دور قيادي في مجال الحوكمة. نظراً إلى المجازفات المطروحة، قد يصبح فرض الضوابط على السلوكيات في الفضاء الإلكتروني مهماً بقدر الحد من الأسلحة النووية خلال الحرب الباردة. في المقام الأول، يُفترض أن تطلق واشنطن حواراً عالمياً يُركّز على تطوير معاهدات لمحاربة المقرصنين الذين يستعملون أنظمة الفدية مثل DarkSide. سبق وألمح السفير الروسي في الاتحاد الأوروبي إلى استعداد موسكو لمناقشة المعاهدات المحتملة تحت رعاية الأمم المتحدة. كذلك، صرّح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على التلفزيون الحكومي حديثاً بأن روسيا مستعدة لتسليم مرتكبي الجرائم الإلكترونية إذا التزمت الولايات المتحدة بتدابير مماثلة. مع ذلك، ستضطر واشنطن لتقييم مدى جدّية موسكو نظراً إلى الدور الروسي في استضافة مرتكبي الإرهاب الإلكتروني أو حتى دعمهم في بعض الحالات.

على صعيد آخر، تستطيع الولايات المتحدة أن تشارك في تطوير مؤسسات جديدة ومتعددة الأطراف للإشراف على اتفاقيات تجارة الكهرباء. تشمل التحالفات القائمة اليوم مشغّلي الشبكة الوطنية وشركات خاصة لكنها قد لا تكون مجهّزة للتعامل مع الخلافات الديبلوماسية الشائكة والمخاوف المرتبطة بالأمن الإلكتروني. ونظراً إلى الانتشار العســــــكري الأميركي على مســتوى العالم ودور واشــنطن المحوري في أنظمـــة التحالفات الإقليمية، ستكون الولايات المتحدة مخوّلة لأداء دور أمني رائد في مجال الحوكمة والأنظمة التنظيمية مستقبلاً.

يجب أن تستفيد واشنطن أيضاً من تفوّقها التكنولوجي على خصومها. بفضل شركات التكنولوجيا الرائدة في منطقة "سيليكون فالي"، تستطيع الولايات المتحدة أن تصبح من أبرز مزوّدي المعدات والبرمجيات الكهربائية المتطورة، بما في ذلك موارد الطاقة الموزعة. على غرار الشبكات المصغّرة للطاقة الشمسية ومحطات الطاقة الافتراضية، تسمح هذه الأنظمة للشركات بشراء قدرات الطاقة الفائضة من الألواح الشمسية المركّبة على السطوح، والسيارات الكهربائية، وأنظمة تخزين البطاريات، ثم بيعها مجدداً إلى الشبكة حين يحتاج المستهلكون إلى طاقة إضافية. من خلال تخزين المعدات التي تحتاج إليها هذه الأنظمة، قد يتمكن الجيش الأميركي من مساعدة حلفائه في الظروف الطارئة أو في زمن الصراعات. يمكن تركيب الشبكات المصغرة للطاقة الشمسية أو استبدالها أو إصلاحها مثلاً خلال أيام معدودة، بينما يتطلب إصلاح محطات الطاقة الحرارية الكبرى أشهراً أو حتى سنوات عدة إذا تضررت بسبب الحروب أو الطقس أو الحوادث.

يُعتبر الهيدروجين مصدراً واعداً آخر للطاقة الاحتياطية وتستطيع واشنطن تطويره. لا يسيطر أي بلد اليوم على تجارة الهيدروجين أو إنتاجه عالمياً. وعلى غرار النفط أو الغاز الطبيعي المُسال، يمكن شحنه وتخزينه لاستعماله مستقبلاً. إذا سارعت الحكومة الأميركية إلى زيادة إنتاج الهيدروجين وتحويله وتصديره، قد تحافظ على دورها الطاغي في أسواق الطاقة العالمية.

لكن تحتاج الولايات المتحدة في المقام الأول إلى تحسين جهودها في مجال البحث والتطوير، لا سيما تكنولوجيا البطاريات، والعاكسات الشمسية (تُحوّل الطاقة المشتقة من الألواح الشمسية إلى تيار كهربائي عادي)، والبرنامج الذي تستعمله أنظمة الطاقة الجديدة. لمواكبة مسار الصين التي تملك راهناً حوالى 60% من القدرات العالمية لمعالجة الليثيوم المستعمل في إنتاج البطاريات، يجب أن تُركّز واشنطن جهودها البحثية والتنموية على مواد من صنع البشر لاستبدال المعادن وعناصر الأرض النادرة التي تسيطر عليها بكين في الوقت الراهن.

اليوم، أصبحت الولايات المتحدة متأخرة في مجال البنية التحتية للكهرباء. نشأت الشبكة الأميركية القديمة في معظمها خلال الخمسينات والستينات وأصبحت بحاجة ماسة إلى التصليحات الآن. وفق تقديرات الشركة الاستشاريةBrattle Group، تحتاج واشنطن إلى إنفاق أكثر من 1.5 تريليون دولار لتحديث البنية التحتية الأميركية الراهنة ومبالغ أكبر بكثير لتلبية الطلب المتزايد على مصادر الطاقة النظيفة. لهذا السبب، تُعتبر الأموال التي خصصتها إدارة بايدن لتحديث الشبكة (200 مليار دولار)، بالإضافة إلى مبلغ 2.1 مليار دولار لوكالة الأمن الإلكتروني الأميركية، ميزانية صغيرة مقارنةً بحجم التحديات المطروحة.

لكن لن تكون هذه الشوائب مدمّرة. لقد أثبتت الحكومة الأميركية منذ وقت طويل أنها مستعدة دوماً لزيادة استثماراتها بهدف التفوق في مجال الطاقة. إلى جانب نظام ضخم ومتعدد الأطراف لتخزين النفط، تنفق واشنطن اليوم بين 50 و100 مليار دولار سنوياً لضمان التدفق الحر للهيدروكربونات من الشرق الأوسط. وإذا أرادت الولايات المتحدة الحفاظ على مكانتها كقوة عظمى في قطاع أمن الطاقة، فيجب أن تقوم بالتزام مماثل تجاه أنظمة الطاقة المستقبلية. قد يواجه البلد عواقب خطيرة إذا امتنع عن اتخاذ تلك الخطوة. في هذه الحالة، لن يصبح التفوق العسكري الأميركي مُهدداً فحسب، بل ستضعف قدرة البلد على الدفاع عن أراضيه أيضاً. لتجنب هذا المستقبل القاتم، يجب أن يقوم القادة الأميركيون بمراجعة جذرية للمعطيات الجيوسياسية في عالمٍ يزداد اتكالاً على الكهرباء مع مرور الوقت.


MISS 3