ربيع الشاعر

ثالوث المقترحات للقاء بطاركة الشرق مع البابا: صمود... نهوض... إشعاع

1 تموز 2021

02 : 00

يقول أرسطو: "على الكائن السياسي أن يمتلك بعض المعرفة بكل ما هو مرتبط بالروح". والروح في بلد مثل لبنان ترتبط ارتباطاً عضوياً بالديانات السماوية أي بالله، لذا جمع الدستور اللبناني بطريقة غريبة بين مبدأي حرية الاعتقاد المطلقة المنصوص عليها في المادة (9) وواجب تأدية الدولة لفروض الإجلال لله تعالى وكأنها كائن بشري تسري عليه طقوس الطوائف والمؤمنين.

من هذا المنطلق لعبت المرجعيات الروحية للطوائف اللبنانية دوراً في تذكير الدولة بفروضها تجاههم وتجاه الله تكريساً لجدلية أرسطو والتي تفترض أيضاً على "الكائن الروحي" أن يمتلك بعض المعرفة بكل ما هو مرتبط بالسياسة!

ولأن الدولة في لبنان أفلست أخلاقياً قبل أن تفلس مادياً، ولأن ذلك له الأثر الكبير على توازن وتنوّع لبنان الثقافي حيث الانتماء الطائفي يتجه الى أن يصبح وراثيّاً أكثر منه إيمانيّاً - منطقيّاً، دعى قداسة البابا فرنسيس، الراهب اليسوعي الإصلاحي والمدافع عن الفقراء والبساطة والسلام، ممثلي الطوائف المسيحية الى لقاء معه في دولة الفاتيكان حول الوجود المسيحي في لبنان.

ولبنان اليوم هو في زمن شبيه بزمن قيام السلطنة العثمانية سنة 1516 حيث سعى العثمانيون الى القضاء على كل الموروث الثقافي للعرب واللبنانيين. وقد واجه المسيحيون الهيمنة العثمانية بالعلم والوعي وأنشأت لهم روما سنة 1584 المدرسة المارونية واستحقوا اللقب الذي أطلق عليهم في القرن السادس عشر: "عالم كماروني". وواصل الموارنة نهضتهم الثقافية بمساعدة موفدي الكرسي الرسولي الى لبنان وصولاً الى "المجمع اللبناني" الذي انعقد سنة 1736 وسبق الثورة الفرنسية في حداثته حيث أمر بالتعليم الالزامي والمجاني للأحداث والبنات وبأن تدفع الكنيسة جزءاً من "أجرة" المعلمين.

هذا الشغف بالعلم والثقافة أدى الى لعب الموارنة والمسيحيين دوراً أساسياً في النهضة العربية بل وانقاذ اللغة العربية مروراً بالمساهمة في الإشعاع الحضاري من خلال تطوير الاعلام والمسرح والأدب والرواية وصولاً الى قيام لبنان الكبير.

أربعمئة عام احتاج المسيحيون لكسر الاحتلال التركي تحت مسمى الخلافة، فهل لدى المسيحيين اليوم ترف الوقت لتحرير لبنان من احتلالاته؟ بالطبع لا! من هنا الانتظارات من لقاء بطاركة الطوائف المسيحية اللبنانية مع قداسة الحبر الأعظم كبيرة وهي تفترض منهم بلورة خطة من ثلاثة محاور هذه أعمدتها:

1. مرحلة الصمود

هذه مرحلة انتفاضة الكنيسة على ذاتها، فكما يقول القديس نعمة الله الحرديني: "الشاطر يخلص حالو". فالمطلوب من الكنيسة ومن أحبارها قبل الصلاة وقبل إدانة السلطة السياسية، مطلوب منهم ثورة على الذات كي يزيلوا عنهم شبهة الفساد وأن يعودوا الى بساطة إيمان الأجداد لا إيمان الفريسيين لأنه كما يقول القرآن الكريم: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) ]الرعد:11[. فالكنيسة عامة بدأت بنفض غبار التكتم عن ممارسات بعض مسؤوليها التي تتعارض مع تعاليم المسيح وآن الأوان للكنيسة اللبنانية والمشرقية أن تسقط من حساباتها قاعدة الصمت "أومرتا" وتعمل على إعادة ثقة أبنائها بها لا على أساس ديني دوغماتي بل على أساس إيماني وطريقة عيش المحبة والعطاء اللذين هما أساس الحياة المسيحية.

كما على الكنيسة أن تطبق توصياتها لا سيما توصيات المجمع البطريركي الماروني لعام 2006 التي نصت وبوضوح على ضرورة الاستثمار في الأوقاف لتأمين السكن للشباب والعائلات الأكثر عوزاً من خلال بناء وحدات سكنية صغيرة وبيئية وتأجيرها من الفئات المهمشة ولمدد زمنية معينة تأميناً لمقومات بقائهم في لبنان وصمودهم بوجه الانهيار الاقتصادي. الى جانب الخطة العمرانية-السكنية يجب التفكير بكيفية تأمين الأمن الزراعي والغذائي لهذه العائلات وخلق فرص عمل تتناسب مع احتياجات السوق لا سيما في ظل تدهور الليرة اللبنانية وقابلية لبنان على المنافسة مع الأسواق الخارجية.

بالطبع ليس المطلوب من "الكنيسة" أو "رجال الدين" أن يحلوا محل الدولة وخدماتها ولكن عليهم بما لهم من حضور اجتماعي ومؤسساتي أن يضعوا استراتيجية ذكية وفعالة لشبك البلدات مع بعضها البعض في إطار لامركزي حقيقي كما وشبكها مع الاغتراب والشركات الأجنبية وبناء توأمة بين الرعايا بما يسمح بتبادل الخبرات والتعاضد والمقاومة على الحفاظ على أدنى درجات الكرامة الانسانية التي بدونها لا قيمة لأي دين.

هذا يمرّ أيضاً من خلال إعطاء قطاع التعليم الأولوية على باقي القطاعات تماماً كما جاء في آخر تقرير للبنك الدولي والذي اعتبر فيه أن التعليم في خطر ويجب إعطاء الأولوية للإرتقاء بجودة التعليم للجميع تماماً كما فعل اللبنانيون والمسيحيون أيام الاحتلال العثماني كشرط أساسي "للتأسيس لمستقبل أفضل". وهذا يمر حتماً عبر الاستثمار في الحضانات ونوعية التعليم فيها والحفاظ على الأساتذة وتطوير مهاراتهم وتغيير مفهوم التعليم والمدارس لا سيما في مجالات ثلاثة ضرورية لصناعة أجيال متحررة فكرياً وقابلة على التأقلم مع تحديات العصر التكنولوجي من خلال الاستثمار في الرياضيات وتطويرها وعلم الفلسفة واللغات.

2. مرحلة النهوض

يقول الفيلسوف الإلماني هيغل في كتابه (the Phenomenology of Spirit ) أن "التاريخ مدفوع بصراع الأشخاص باعتراف الآخرين بذاتيتهم" (history was driven by a struggle for recognition) . ففي محاضرة له بعنوان "لبنان الكبير وفلسفة تآلف الاختلاف" بتاريخ 22 حزيران 2021 استشهد الفيلسوف اللبناني البروفسور الأب جورج حبيقة أمام المؤسسة البطريركية المارونية العالمية للإنماء الشامل بالفيلسوف الكندي وعالم السياسة شارلز تيلور Charles Taylor وكتابه (Multiculturalism and “The Politics of Recognition”). وقد قصد بذلك ضرورة التمثيل النيابي على أساس طائفي ضمانة للتعددية والتنوع والفروقات في المجتمعات البشرية، تماماً كما جاء في رسالة البطريرك الحويك والأساقفة الموارنة الى المفوض السامي هنري دي جوفنيل في 8 كانون الثاني 1926، والتي أكدت على أن "الانتخاب على قاعدة الطائفية يمثل هذه الطوائف على نسبة معينة في ذلك المجلس، فتتعارف وتتآلف ويضحي كل منها بشيء من مطلبه بحكم الأخذ والعطاء، ويؤدي ذلك تدريجياً الى الامتزاج وتوحيد السياسة...".

ويقول المفكر والفيلسوف الأميركي من أصول يابانية فرانسيس فوكوياما Francis Fukuyama في كتابه (Identity: Contemporary Identity Politics and the Struggle for Recognition) أن هذا الصراع على الاعتراف بخصوصية الكائن البشري والجماعات على أنواعها ينقسم الى نوعين Isothymia وهو الحاجة بأن يكون الشخص محترماً على قدر المساواة مع الأشخاص الآخرين وMegalothymia وهو الرغبة بأن يتم الإعتراف بفوقية الشخص أو المجموعة على سائر الأشخاص والمجموعات تماماً كما هو الحال مع الطوائف اللبنانية التي لا تسعى في صراعها مع الطوائف الأخرى الى المساواة بل الى التفوق عليها وممارسة عنصرية مقنعة تضع هذه الطائفة بمقام متقدم على الأخريات بحجة الدفاع عن حقوق الطائفة وصلاحياتها.

وقد أفرزت هذه الحالات المرضية ديكتاتوريات داخل كل طائفة تحتكر التمثيل السياسي بقوة الدم والمال والتجييش الطائفي وتلغي أي إمكانية للركون للعقل والحكمة كما تلغي أي مساواة بين حقوق الفرد وحقوق الطائفة والمتنفذين داخل تلك الطائفة. حتى أصبح "ديكتاتور" كل طائفة يتعاطى مع سائر الطوائف بمنطق العزل والتهديد والتهميش ويميّز أبناء طائفته لا سيما أتباعه عن سائر المواطنين ويخصهم بالوظائف وصرف النفوذ وتوزيع الغنائم. كما يدعي هؤلاء "الزعماء" حماية "مصالح الطائفة" فتخال أن لديهم توكيل من الله يواجهون به تهديد الطوائف الأخرى لوجود طائفتهم وهويتها، بينما في الواقع يساهم هؤلاء الزعماء واتباعهم في تشويه صورة الله وتحجيمها بما يخدم غرائزهم المحدودة التي تدفعهم الى التحريض على العنف والعنصرية والكراهية. من هنا، على رجال الدين لا سيما المسيحيين منهم تحرير الهيكل من التجار ليتحرر المسيحيون واللبنانيون ويتساوون أمام القانون بالحقوق والواجبات.

من هنا أيضاً الدعوة الى السادة البطاركة المجتمعين في روما الى إجراء إحصاءات دقيقة حول نظرة اللبنانيين والمسيحيين الى الله والدين ورجال الدين ونظرتهم الى الطوائف والأحزاب والوطن ليبنوا على أساسه استراتيجيتهم التبشيرية والإنقاذية. فلا يمكن أن ينهض لبنان من دون صحوة الضمير هذه. فأي حياد نرجو في ظل عدم إيمان اللبنانيين في وطنهم. وأي لامركزية في ظل المنطق العائلي والقبلي؟ وأي قضاء وعدالة في ظل الاستقواء على القانون ومحاباة القوي؟ وأي حريات في ظل أحوال شخصية قمعية تلغي في بعض الأحيان الكرامة الإنسانية؟ وأي ضرائب عادلة وإنماء متوازن في ظل ثقافة السرقات والتباهي بالسارق؟ وأي ديمقراطية تمثيلية في ظل اندماج السلطات الثلاث في حفنة من الأشخاص لا تتعد عدد الأصابع تحظى ببركات الهية؟

نحن قادمون على عقد اجتماعي جديد شئنا أم أبينا، ستتم محاولة فرضه علينا من خلال فراغ دستوري بدأت تتكون ملامحه وفوضى أمنية أبطالها معروفون.

على الكنيسة بشكل عام والكنيسة المارونية بشكل خاص أن تكون مهيأة لأن تدعم قيام عقد اجتماعي عادل بين اللبنانيين لا يكون لصالح طائفة على بقية الطوائف. من هنا، هذه الكنيسة مدعوة الى موقف تاريخي وشجاع تكسر فيه حلقة الـMegalothymia على الأقل بين الطوائف المسيحية من خلال القبول بالمساواة بين كافة الطوائف المسيحية وأبنائها لتبوؤ المناصب المخصصة للمسيحيين في الدولة كمرحلة أولية للمساواة بين جميع اللبنانيين وقيام دولة المواطنة لا دولة الطوائف.

لماذا لا يكون رئيس الجمهورية المقبل ارثوذكسيا أو كاثوليكياً إذا كان يتمتع بمواصفات قيادية جامعة ومعترف بها لا يتمتع بها أي ماروني آخر مرشح لهذا المنصب؟ إن الدعوة للمساواة بين جميع أبناء الطوائف المسيحية هي الدليل على تقديم مبدأ الخدمة العامة والكفاءة على سائر الانتماءات الطائفية. وإذا كان إلغاء الطائفية السياسية بين جميع الطوائف بحاجة الى خطة وطنية نصت عليها المادة (95) من الدستور ولم تتبلور بعد، فما الذي يمنع أن يبادر المسيحيين الى القبول بمساواة جميع أبناء طوائفهم أمام الدستور والقانون؟ سيخلق ذلك ديناميكية وتعاضد داخل المجتمع المسيحي ويحد من هجرة أبنائه الذين يشعرون بالغبن والتهميش ويدفع سائر الطوائف الى أن تخطو خطوة مماثلة نحو تقديم حقوق الأشخاص على حقوق الطوائف وإلغاء الزعامات الطائفية والخطاب الطائفي والتفكير الطائفي والمداورة في كافة المناصب الأساسية على قدم المساواة بعد السعي الى تقديم الضمانات الدستورية اللازمة التي تمنع سيطرة طائفة أو عدة طوائف على الطوائف الأخرى والتي لا يجب أن يخجل الآباء البطاركة من الإشارة اليها اليوم وقبل أي وقت آخر.

إن الدعوة الى عقد اجتماعي جديد بين اللبنانيين يجب أن يضمن أيضاً قيام أحزاب مدنية غير دينية وغير مرتهنة للخارج وأن تكون الحريات والحقوق والواجبات مقدسة ومضمونة للجميع على أساس الشراكة الإيجابية والثقة في إدارة التنوع بسلام ووعي.

وكي لا تنزلق الكنيسة في دهاليز السياسة الوعرة عليها أن تطلق محركات دبلوماسيتها من روسيا الى أميركا مروراً بأوروبا والدول العربية والقوى الإقليمية المؤثرة في موازين الاستقرار الداخلي لألف سبب وسبب فيكون لها مواقف مشرفة من موضوع اللاجئين وترسيم الحدود والقضية الفلسطينية واتفاقية الهدنة والعمق العربي والانفتاح على الحضارة الأممية وضمان حياد إيجابي للدولة اللبنانية تجاه جميع هذه المسائل الشائكة والمتفجرة مما يساهم في الدفاع عن القضايا الإنسانية والوطنية المحقة وتحصين سيادة لبنان وسلامة أبنائه.

لا يمكن أن تنكر الكنيسة المجتمعة في روما هذا الشق الأساسي في استمرار لبنان "وطن الرسالة" من خلال بناء الإنسان وإعادة تفسير مفهوم الله وهي التي كانت الرائدة في احترام خصوصية الكائن البشري لا سيما مع مطلق عصر الاصلاح في أوروبا مارثن لوثر وانبعاث البروتستانتية ولاهوت التحرير وفي ظل وجود البابا الحالي الذي كما وصفته الصحافة الإيطالية "ثورة في تاريخ الكنيسة" وهو القائل بأن الكنيسة "ليست ذات رسالة محصورة فقط بمؤمني شعب الله، بل تتجه الى جميع العالم في بشارة جديدة". كما يجب أن تضع الكنيسة سقوف مطالبها بشجاعة ومسؤولية تسهيلاً لسائر الطوائف كي تحذو حذوها كشرط أساسي لنهوض لبنان واستقراره الاقتصادي والأمني ضمن فترة العشر سنوات القادمة.

3. مرحلة الإشعاع

أما المرحلة الثالثة التي لا يجب أن تغيب عن ذهن بطاركة الكنيسة المسيحية في لبنان وممثليها فهي نتيجة حتمية لمرحلتي الصمود والنهوض وهي مرحلة الإشعاع التي يجب أن تكون الهدف من أي رسالة بشارة دينية وإنسانية والتي تقوم على الحفاظ على ثلاث ثروات أساسية لبقاء لبنان وليس فقط لبقاء المسيحيين فيه وهي أولاً الثروة الإنسانية من خلال تحديد دور لبنان الحضاري في محيطه وفي العالم، وثانياً الثروة المادية من خلال تحديد وظيفة لبنان الاقتصادية والابتكارية، وثالثاً الثروة الطبيعية من خلال تقديس البيئة والأرض التي خصها قداسة البابا فرنسيس سنة 2015 برسالة عامة بابوية حول العناية بالبيت المشترك بعنوان كن مسبّحاً Laudato Si’.

في الختام، يقول الفيلسوف البريطاني توماس هوبس Thomas Hobbs إن الإنسان هو ذئب لأخيه الإنسان. لذا، وأزاء خوف الانسان المتزايد من خطر الموت الذي يتسبب به، ارتضى أن يتخلى عن جزء من حريته لصالح دولة تحفظ أمنه. أما وقد بدأت الدولة اللبنانية بالتخلي عن وظائفها الخدماتية والأمنية مما يترك المجال واسعاً للبنانيين وليس فقط المسيحيين إما الى الهجرة أو اعتماد منطق الدفاع الذاتي بكافة أشكاله، تظهر الحاجة أكثر من أي وقت مضى لكل شخص أو مجموعة مسؤولة في هذا البلد الى تحمل مسؤولياته المصيرية درءاً للأسوأ وحفاظاً على اعتراف الآخرين بكرامته الانسانية. وكما يقول "بابا الإصلاح" أو "بابا الحوار" بولس السادس: "إن وظيفة الكنيسة هي بناء الإنسانية أو بناء حضارة المحبة" ولا كنيسة ولا حضارة ولا محبة في لبنان من دون حرية فردية وحرية تقرير مصير أو من دون مساواة بين اللبنانيين وهذه شروط أساسية للحفاظ على السلام بين الطوائف والمواطنين بل للحفاظ على لبنان أرضاً وشعباً وكياناً ورسالة.

MISS 3