ألمانيا تتخلى عن موظفيها في أفغانستان

02 : 00

جنود ألمان في دورية بالقرب من مزار الشريف / أفغانستان

انسحبت القوات الألمانية المسلحة رسمياً من أفغانستان وتركت وراءها عدداً كبيراً من العاملين الأفغان الذين يواجهون مخاطر الاضطهاد أو حتى الموت على يد "طالبان" لأنهم ساعدوا الألمان سابقاً وكانوا قد تلقوا وعوداً سياسية بحمايتهم.

لا شك في أن العمل لصالح ألمانيا طوال 12 سنة يترك أثراً كبيراً في حياة أي شخص، فتترسخ قناعته بأهمية حُكم القانون ومسؤولية الحكومة وضرورة اتخاذ خطوات سلمية ضد مظاهر الظلم الواضحة. حين راح عبد الرؤوف نزاري (49 عاماً) يتنقل للمرة الألف إذاً في مدينة مزار شريف الحارة بحثاً عن شخص مستعد لتحمّل مسؤولياته، اكتفى بحمل حقيبة تبريد فضية اللون فيها جميع الوثائق المرتبطة بعمله لصالح الجيش الألماني في قاعدة "معسكر مارمال".

فجأةً، بدا وكأن أحداً لا يهتم باحتمال أن يصبح نزاري ومئة موظف محلي آخر أهدافاً محتملة لحركة "طالبان" بسبب تعاملهم السابق مع الجيش الألماني. يقول نزاري أثناء وجوده في منزله المرتّب: "لقد قصدتُ المعسكر بين 10 و15 مرة. قال الألمان هناك إنهم لا يستطيعون فعل شيء لي لأن مقاولاً فرعياً هو الذي وظفني في نهاية المطاف. لكن حين قصدتُ رب عملي، أرسلني إلى الألمان مجدداً". كمبادرة أخيرة من الجيش الألماني، حصل نزاري على ورقة ممزقة من مفكّرة وفيها عنوان بريد إلكتروني مكتوب بخط اليد حين وصل إلى بوابة المعسكر. لكن لم تلقَ رسالته أي جواب.

في الأســـابيع الأخيرة، سرّع الجيش الألماني انسحابه من أفغانستان نتيجة تسريـع انسحاب القوات الأميركية، فتأججــــت بذلك المخـــاوف الأمنية في مزار شريف. في غضون ذلك، بدأت حركة "طالبان" تقترب من هذا المكان مجدداً. في منتصف يوم 21 حزيران، حضر عضو واحد من "طالبان" كان يضع عمامة برتقالية اللون إلى البوابة الغربية من المدينة، ما دفع الشرطة إلى التراجع نحو وسط المدينة من دون خوض أي قتال. لم يتحرك الجيش لفرض الأمن في ذلك الموقع قبل مرور ساعات. أمام هذا الوضع، تشعر الاستخبارات الأميركية بالقلق من انهيار الحكومة في كابول خلال ستة أشهر بعد الانسحاب الأميركي.

لكن لن يتخلى الجيش الألماني عن جميع العاملين المحليين. وفق وزارة الدفاع الألمانية، تم قبول طلبات التأشيرة الخاصة بـ471 عاملاً محلياً مع حوالى 1900 فرد من عائلاتهم، وسيتلقى 95% منهم تقريباً الوثائق اللازمة للسفر إلى ألمانيا حين ينتهي وجود الجيش الألماني في أفغانستان.

خيارات عشوائية

تبدو معايير انتقاء الموظفين عشوائية. لا يستطيع الياس نوري الذي كان يعمل في قسم الطعام السفر إلى ألمانيا مثلاً، لكنّ شقيقه عباس الذي عمل في جواره كمدير قسم المعدات في النادي الرياضي التابع للمعسكر حصل مع أفراد عائلته على جواز السفر الرمادي الذي يُعطى للأجانب.

في برلين، أحدث تصريح وزيرة الدفاع الألمانية، أنغريت كرامب كارينباور، حول "التزام ألمانيا" العميق بهذه القضية ضجة واسعة. خلال أول اجتماع بين وزراء الدولة بعد ذلك التعليق في شهر نيسان، أصرّت وزارة الداخلية على الحد من برنامج الحماية خوفاً من ارتفاع أعداد الطلبات. كذلك، حذر كبار المسؤولين في وزارة التنمية من إقرار معايير مرنة أكثر من اللزوم لأنهم قلقون من ميل مئات الموظفين الأفغان في مشاريع المساعدات الألمانية إلى تقديم الطلبات لنيل تصريح للإقامة في ألمانيا.

لم تُحقـــق جولات الاجتماعات الأسبوعية مع كبار المسؤولين من وزارات مختلفة أي نتائج منذ ذلك الحين. في وزارة الدفاع، لم تكن كرامب كارينباور المسؤولة المستاءة الوحيدة. فقد حذر عدد من كبار الضباط العسكريين أيضاً من وقوع تداعيات كارثية إذا بدأت "طالبان" تطارد الأشخاص الذين كانوا يتعاونون سابقاً مع الجيش الألماني. قال أحد الجنرالات: "إذا تحقق هذا السيناريو، سيتّضح حينها أننا لم ننسحب بل هربنا".

في النهاية، أخذت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل المبادرة ودعت الوزراء إلى إيجاد تسوية ورفع عتبة السنتين. قد تنقذ القواعد الجديدة عدداً صغيراً من المترجمين والمفاوضين الأكثر عرضة للخطر بعد عملهم مع الجيش الألماني. إنها المجموعة التي أقيلت من عملها لأنها تلقت تهديدات كثيرة. من المنطقي أن نتوقع من الجيش الألماني أن يقدم حماية خاصة للموظفين الأفغان الذين واجهوا أكبر التهديدات. لكن رُفِضت طلبات كثيرة من هذا النوع. أمضى المترجم جاويد سلطاني سنوات وهو يشارك في مهام دقيقة. كجزءٍ من فِرَق "بسي أوبس" التكتيكية، انضم هذا الأخير إلى الجيش الألماني بعد إطلاق عمليات قتالية في شاحنة صغيرة مزوّدة بمكبرات صوت. كان الفريق يتنقل في أنحاء القرى لتحديد الجهات التي تضررت حقولها. يقول سلطاني إنهم أرادوا تعزيز تواصلهم مع عامة الناس.

ضحكة مريرة


بدأت رسائل التهديد تصل بعد فترة قصيرة وكانت تحمل توقيع وختم "طالبان". قدّم سلطاني "تقريراً طارئاً" إلى القيادة الألمانية ثماني مرات، لكن رُفِض طلبه في كل مرة. لقد أخبروه بأنه ليس معرّضاً لمخاطر كبرى. ثم أُقيل من عمله في العام 2018. هو يزعم أن ضابطاً قال له شفهياً: "إذا كانوا يهددونك، سيلحقون بك ويأتون إلينا. هذا الاحتمال بالغ الخطورة". يضحك سلطاني بكل مرارة عند التفكير بهذا الكلام ويقول: "وكأن "طالبان" اضطرت لملاحقتي كي تعثر على معسكر مارمال".

تعرّض سلطاني للرفض أيضاً عندما قدّم للجيش الألماني طلباً للهجرة إلى ألمانيا. مجدداً، لم يبرز "تهديد معيّن" ضده. لكنه يتساءل: "ما هذا المنطق؟ الوضع خطير جداً بالنسبة إلى الجيش الألماني بينما لا أواجه أنا أي تهديد؟ أنتم الألمان نقلتم حجراً تذكارياً بوزن 27 طناً و22 ألف ليتر من البيرة، لكنكم تتركون وراءكم الأشخاص الذين ساندوكم ميدانياً"؟

رُفِضت طلبات سلطاني ومترجمين آخرين كانوا قد طُردوا من عملهم في العام 2016 لأن حياتهم باتت معرّضة للخطر كجزءٍ من تدابير توظيف محلية تسمح بتقديم طلب للانتقال إلى ألمانيا. لقد قيل لهم إن عقودهم انتهت منذ وقتٍ طويل.

بعد مراجعة قاعدة السنتين، سيصبح هؤلاء مؤهلين للاستفادة من التعديل. لكن لم يتواصل معهم أحد لإبلاغهم بما سيحصل. في الوقت نفسه، لا يمكن التواصل مع أي جهة عبر رقم الهاتف المخصص للاستفسارات. تحتدم المخاوف في المدينة حول الوقت المتبقي لتقديم الطلبات في حال اضطرت الأمم المتحدة لإخلاء مكاتبها المحلية أيضاً بسبب الاعتداءات المحتملة من جانب "طالبان".

أرادت شركة تعاقد ألمانية أن تجلب موظفيها الأفغان إلى ألمانيا بمبادرة خاصة منها لكنها وصلت بدورها إلى طريق مسدود. بنى دانيال بوليغ، وهو رجل أعمال في "فلنسبورغ"، ألمانيا، حظائر للطائرات في "معسكر مارمال" ووفّر لها الوقود. وحين تأكد الانسحاب الألماني، سأل موظفيه الأربعة الدائمين إذا كانوا يشعرون بأنهم مهددون، فأجابوا جميعاً بالإيجاب. ثم جعلهم بوليغ يقدمون طلباً لنيل جوازات سفر بيومترية في كابول، ونظّم وظائف لهم مع وسائل راحة في ألمانيا وقدّم الطلبات اللازمة لمنحهم التأشيرات.

لكنه لم ينجح في نيل التأشيرات رغم تواصله مع جهات متعددة، منها الإدارة العسكرية في "معسكر مارمال" ورئيس بلدية "فلنسبورغ" ومكتب المستشارة ميركل. في النهاية، قرر إرسال رسالة عبر استمارة التواصل الخاصة بخدمة المواطنين على الموقع الإلكتروني لوزارة الداخلية الألمانية. كتب بوليغ: "للأسف، لا تستطيع حركة "طالبان" أن تُميّز بين الموظف المحلي الذي عمل مباشرةً مع القوات المسلحة، والموظف الذي عمل بطريقة غير مباشرة عبر الشركات".

جاء الرد من وزارة الدفاع في 8 حزيران. أبلغه رئيس قسم الطلبات باقتضاب بأن "موظفي الشركات المدنية غير مؤهلين لبرامج التوظيف المحلية". استاء بوليغ كثيراً من هذا الرد لأنه يعتبر هذه المسألة مرتبطة بحياة البشر.

لكنّ الفرق الدقيق الذي أشار إليه رئيس القسم بين الموظفين استُعمِل في حالات كثيرة من جانب الوزارة التي يعمل لصالحها.

منذ العام 2015، أصبح صميم جباري أشهر وجه في فيديوات كثيرة تهدف إلى توثيق معركة القوات الأفغانية المسلحة ضد "طالبان". يمكن اعتباره ممثل حملة العلاقات العامة الألمانية في أفغانستان. كان جباري في خط المواجهة دوماً حين استولت "طالبان" على المقاطعات من جديد. يمكن سماعه وهو يقول من وراء الكاميرا: "ها هم أعداء الإسلام يكشفون عن وجههم الوحشي مجدداً".

اضطر جباري لإرسال نصوصه والنسخ المُعدة للبث من تقاريره إلى مرشديه في الجيش الألماني، وكان هؤلاء يطلبون منه أحياناً تعديل المحتوى أو يقترحون عليه مثلاً أن يعطي صوته طابعاً بطولياً. وبعد الموافقة على المواد، كانت الفيديوات تُرسَل إلى المحطات المحلية أو تُنشَر على قنوات مواقع التواصل الاجتماعي. اعتُبِر مركز "باوار" الإعلامي في مزار شريف صوت الجيش الألماني في أفغانستان وروّج أجندته، بما في ذلك ضرورة محاربة "طالبان" وتعزيز حقوق المرأة.

في العام 2018، انتقلــت العقود الموقّعة حتى تلك الفترة مع الجيش الألماني إلى شركة أفغانية. لم يتغير أي شيء آخر، بل استمر تجاهل السلطات الضريبية المحلية على اعتبار أن مركز "باوار" الإعلامي كان جزءاً من "القوات الدولية". وحين بدأ الموظفون يسألون مرشديهم الألمان بقلق متزايد عن مسار الإجراءات لنيل التأشيرات والانتقال إلى ألمانيا، قيل لهم فجأةً إن موظفي مركز "باوار" الإعلامي لا يحق لهم الاستقرار في ألمانيا لأنهم يعملون في شركة أفغانية.

شعر جباري بذهول تام إزاء ما حصل: "لطالما أهنتُ "طالبان" بأسوأ الطرق ولا أندم على ذلك. لا أريد أن يسيء أحد فهمي. لكن إذا ألقى عناصر "طالبان" القبــــــض عليّ، سيقتلونني فوراً".

في أواخر شهر أيار، قصد 28 موظفاً المعسكر لتقديم طلبات نيل التأشيرة والانتقال إلى ألمانيا. وفي صباح اليوم التالي، طرد مديرهم الأفغاني 26 شخصاً منهم بطريقة تعسفية. ثم كتب مستشارهم الألماني خلال دردشة معهم أنه يدعم بالكامل قرارات المدير لأنهم أوضحوا أنهم لا يركزون على مستقبل المركز الإعلامي بقدر ما يريدون الذهاب إلى ألمانيا.

مروة السحرابي هي واحدة من خمس نساء طُردن من عملهن. هي تهز رأسها وتقول: "يا لهذه السذاجة! الجميع يعرفنا ويعرف أصواتنا ووجوهنا". بدأت مروة تعمل كمحللة إعلامية في مركز "باوار" الإعلامي في العام 2016 وقد أمضت سنوات وهي تحارب عائلتها وعائلة زوجها: "أردتُ أن أعمل منذ أن كنتُ في عمر الثامنة! لكن ستكون أي صحافية تعمل لصالح جهات أجنبية معرّضة للخطر إذا وصلت "طالبان" إلى السلطة. الألمان يقومون اليوم بجميع الارتكابات التي نَسَبها الأجانب للأفغان دوماً، أي التخلي عن النساء والخداع وعدم تحمّل المسؤوليات".

أمام المنطقة المسيّجة في شركة "إيكولوغ" بالقرب من "معسكر مارمال"، اجتمع منظّفو المطبخ والمسؤولون عن الغسيل والطلاء في منتصف شهر حزيران بانتظار من ينقذهم. لا يزال الكهربائي نافيد يحمل جروحاً خلّفتها الشظايا على عنقه ويديه من جراء قنبلة استعملتها "طالبان" على ما يبدو لمهاجمة بنك كابول في وسط المدينة حيث كان نافيد متواجداً مع بعض الجنود الآخرين لتلقي أجورهم.

كل يوم، تختفي أغراض إضافية من شركة "إيكولوغ". في البداية، وصلت الشاحنات لنقل الآلات والمفروشات ثم جاءت لأخذ المدراء، ثم اختفى آخر موظف باتجاه الحدود المؤدية إلى أوزبكستان. توقفت خطوط الهواتف عن العمل أيضاً. انتظر الرجال خارج الساحة الفارغة وشاهدوا على مسافة بعيدة هبوط طائرة شحن حضرت لنقل معدات الجيش الألماني وجنوده.

MISS 3