رايتشل ميريك

الولايات المتحدة عادت... لكن إلى متى؟

7 تموز 2021

المصدر: Foreign Affairs

02 : 01

ذكر الرئيس الأميركي جو بايدن في أول خطاب له خلال جلسة مشتركة للكونغرس في 28 نيسان، أن تعليقاً واحداً تكرر على مسامعه خلال عشرات المحادثات التي أجراها مع قادة العالم منذ استلامه الرئاسة في شهر كانون الثاني: "نحن نلاحظ أن الولايات المتحدة عادت إلى سابق عهدها، لكن إلى متى"؟ تُعتبر هذه الشكوك التي يحملها رؤساء الدول الأخرى ردة فعل مباشرة على الماضي الحديث. خلال عهد الرئيس دونالد ترامب، تحدّت واشنطن جدّياً أكثر من 12 اتفاقاً دولياً ومؤسسة عالمية أو انسحبت منها بالكامل، بما في ذلك اتفاق باريس للمناخ، والشراكة العابرة للمحيط الهادئ، والاتفاق النووي الإيراني، ومنظمة الصحة العالمية.

تتجاوز المخاوف المرتبطة بطبيعة الالتزامات الأميركية ومدتها الإرث الذي تركه ترامب في الخارج. بدأ حلفاء الولايات المتحدة يتفاعلون أيضاً مع سياسة واشنطن الداخلية، لا سيما تعمّق الانقسامات الحزبية التي تُرسّخ الشكوك حول مستقبل السياسة الخارجية الأميركية.

هذه المخاوف مبررة. تقليدياً، كانت السياسة الخارجية معزولة عن الانقسامات السياسية، لكن لم يعد الوضع كذلك اليوم. في مسائل مثل التعددية والتغير المناخي والإرهاب، أصبح الأميركيون أكثر انقساماً من أي وقت مضى. وبدأ الإجماع حول السياسة الخارجية بين الناخبين والسياسيين من الحزبين الديمقراطي والجمهوري ينهار. الأسوأ من ذلك هو أن الانقسام السائد أنتج عواقب يستخف بها الكثيرون وانعكس على قدرة الولايات المتحدة على إقرار سياسة خارجية دقيقة بسبب إضعاف ركيزة أساسية من نفوذ البلد: سمعة الولايات المتحدة التي كانت معروفة بالاستقرار والمصداقية والصلابة.

مزايا الأنظمة الديمقراطية

إستنتج خبراء العلاقات الدولية منذ وقت طويل أن الديمقراطيات تتمتع بمزايا عدة على مستوى صناعة السياسة الخارجية. في المقام الأول، تكون هذه الأنظمة مستقرة. في الدول الاستبدادية، غالباً ما تترافق العمليات الانتقالية مع تقلبات دراماتيكية في مجال السياسة الخارجية حين يسقط القادة من السلطة بطريقة غير منظّمة (عبر الثورات أو الانقلابات العسكرية مثلاً). في المقابل، تبقى السياسة الخارجية شبه ثابتة خلال العمليات الانتقالية السياسية في الدول الديمقراطية حيث يسقط الزعيم في إطار انتخابات منظّمة.

تتفوق الديمقراطيات على الأنظمة الاستبدادية أيضاً من حيث المصداقية. بما أن القادة الديمقراطيين يخضعون للمحاسبة داخلياً، من الطبيعي ألا يميلوا إلى إصدار التهديدات أو إطلاق وعود لا يستطيعون الالتزام بها. في عالم المفاوضات والأزمات الدولية، يعني ذلك أن الرسائل التي توجهها الديمقراطيات إلى الخصوم الخارجيين تكون أكثر مصداقية. في هذا السياق، يقول عالِم السياسة كينيث شولتز إن تأييد الحزبَين الجمهوري والديمقراطي للسياسة الخارجية التي يُحددها الرئيس هو مؤشر صادق بالنسبة إلى السياسة الدولية. على سبيل المثال، لا يشكك الكثيرون بقوة تصميم الحكومة الأميركية حين يصوّت عدد كبير من المشرّعين في الحزبَين على قرار استعمال القوة العسكرية.

في ظل تصاعد الانقسامات، تصبح مظاهر الشراكة بين الحزبين في السياسة الخارجية أقل شيوعاً. حتى أن الحزب الذي أصبح خارج السلطة قد يُكافأ على إضعاف مصداقية رئيس الدولة. خلال مفاوضات إدارة أوباما حول الاتفاق النووي الإيراني مثلاً، اتخذ الجمهوريون في الكونغرس خطوات غير مسبوقة للتأكيد على معارضتهم لذلك الاتفاق. وذهب 47 عضواً منهم إلى حد التوقيع على رسالة مفتوحة إلى القادة الإيرانيين حيث ذكروا أن البيت الأبيض لا يملك صلاحية إبرام أي صفقة نووية بل يُفترض أن يلجأ إلى "اتفاق تنفيذي بسيط". رداً على هذه الخطوة، قال وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، إن تلك الرسالة "تُضعِف مصداقية آلاف الاتفاقيات التنفيذية التي شاركت فيها الولايات المتحدة أو تنوي المشاركة فيها لاحقاً مع حكومات متنوعة أخرى".

يسهل أن نتوقع انحراف مسار المفاوضات الشاقة أو حتى امتناع القادة عن المشاركة في أي مفاوضات طموحة أو معقدة بسبب هذه الديناميات الحزبية. فيما تُقيّم الإدارة الأميركية الراهنة طريقة التعامل مع الاتفاق النووي الإيراني في المرحلة المقبلة، ليس مفاجئاً أن يميل بايدن إلى التكتّم عما ينوي فعله، مع أن هذه الخطوة قد تعزز انعدام الثقة بين البيت الأبيض وخصومه في الكونغرس.

أما الميزة الثالثة، فتتعلق بميل الديمقراطيات إلى الالتزام بالاتفاقيات الدولية أكثر من غيرها، ما يزيد مصداقيتها كحليفة وشريكة للآخرين. ثمة استثناءات على القاعدة طبعاً، لكن تُصعّب عمليات المصادقة المحلية انسحاب الديمقراطيات من التزاماتها العالمية. في هذا السياق، أثبتت عالِمة السياسة ليزا مارتن أن البلد يصبح أكثر ميلاً إلى تنفيذ الاتفاق حين يشارك مجلسه التشريعي في مفاوضات دولية. بناءً على نموذج التكامل الأوروبي، استنتجت مارتن أن البرلمانات التي شاركت في أولى مراحل مفاوضات الاتحاد الأوروبي نفذت توجيهات الاتحاد بطريقة أفضل من غيرها وبغض النظر عن شكوكها الأولية بفاعلية ذلك التكامل.

لكن في الديمقراطيات التي تكون شديدة الانقسام، تزداد صعوبة التوصل إلى إجماع بين مختلف الأحزاب للمصادقة على الاتفاقيات. في الولايات المتحدة حيث تتطلب المصادقة على المعاهدات أغلبية الثلثين في مجلس الشيوخ، أدى المأزق القائم بين الحزبَين الجمهوري والديمقراطي إلى انهيار المعاهدات الدولية سريعاً. يتوقع الرؤساء معارضة الحزب الآخر، لذا باتوا يتجنبون اليوم إجراءات المصادقة على القرارات في الكونغرس عبر المشاركة في التزامات سياسية أو اتفاقيات تنفيذية. تسمح هذه الاستراتيجية للقادة بإقرار سياساتهم المفضلة، لكنها تترافق مع كلفة معينة: من الأسهل أن تلغي الإدارات الأميركية اللاحقة الاتفاقيات التي لا يصادق عليها الكونغرس.

لنقيّم التزامات الولايات المتحدة الأخيرة في ملف المناخ مثلاً. كان أوباما يعرف أن معظم الجمهوريين (وبعض الديمقراطيين) سيرفضون عقد اتفاق مناخي دولي، لذا قرر ألا يطرح اتفاق باريس أمام الكونغرس على شكل معاهدة. وحين وصل ترامب إلى الرئاسة، سارع إلى عكس هذا المسار وأعلن أن الولايات المتحدة ستنسحب من الاتفاق، ثم عاد بايدن وانقلب على هذا القرار في أول يوم من عهده الجديد. ونظراً إلى الطابع الحزبي الذي تتخذه السياسة المناخية في الولايات المتحدة، من الطبيعي أن يشكك حلفاء البلد باستمرار هذه الالتزامات.

نهاية وحدة الصف

اليوم، يسهل أن نتخيّل عالماً حيث تتعارض أولويات السياسة الخارجية بين الحزبَين الديمقراطي والجمهوري وتربطهما علاقات مختلفة مع أبرز الحلفاء والخصوم الخارجيين. ونظراً إلى أهمية الالتزامات طويلة الأمد لضمان نجاح السياسة الخارجية، قد يترافق تناوب الأحزاب على منصب الرئاسة مع مشاكل كبرى.

قد يبدو هذا السيناريو مستبعداً حتى الآن، لكن تبرز مؤشرات أولية حول ما يمكن أن يحصل إذا تعمقت الانقسامات الحزبية في مجال السياسة الخارجية. لنفكر مثلاً بالآراء المختلفة التي حملها الديمقراطيون والجمهوريون بشأن التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية في العام 2016: كان يُفترض أن يدين الحزبان التقارير المرتبطة بالتدخل في الانتخابات، لكن منعت الانقسامات السائدة أي رد سريع وموحّد من الطرفَين. ورغم الاستنتاج الذي توصلت إليه الأوساط الاستخبارية حول محاولة روسيا التأثير على نتائج الانتخابات لصالح ترامب، يصدّق ثلث الجمهوريين فقط هذه المعلومة. لننتقل الآن إلى النقاشات الحزبية حول روابط إدارة ترامب بالمملكة العربية السعودية: كان ترامب مقرّباً من ولي العهد محمد بن سلمان وامتنع عن معاقبته بسبب إصداره الأمر بقتل الصحافي جمال خاشقجي في العام 2018. رداً على هذا الموقف، أصبح الديمقراطيون في الكونغرس أكثر ميلاً إلى معارضة النظام السعودي.

قد يكون أي خلاف حزبي حول طريقة تواصل الولايات المتحدة مع حلفائها وخصومها طبيعياً بدرجة معينة في الديمقراطيات السليمة. لكن يجب أن تخضع السياسة الخارجية الأميركية للتدقيق والنقاش، وقد تشير خلافات الحزبَين المفرطة في مجال السياسة الخارجية إلى اختلالات أخرى. قد يؤدي التفكير الجماعي في أوساط الأمن القومي مثلاً إلى وقف النقاش حول الفرضيات الأساسية.

لكن في أي بيئة شديدة الانقسام، من المستبعد أن تكون النقاشات المرتبطة بمستقبل السياسة الخارجية الأميركية بناءة. في ظل تصاعد الانقسامات، ستزداد صعوبة التمييز بين الخلافات الصادقة والسياسات الحزبية. يحمل عدد كبير من المشرّعين الجمهوريين مخاوف مشروعة حول سياسة بايدن الخارجية، لكن من مصلحتهم أيضاً أن يعيقوا عمل البيت الأبيض لاسترضاء قاعدتهم السياسية. وبسبب الأصوات الأكثر تطرفاً، ستصبح إدارة بايدن أقل ميلاً إلى كسب تأييد المشرّعين المعتدلين وأكثر ميلاً إلى إبعاد الكونغرس عن أبرز قرارات السياسة الخارجية. هذه الخطوات تعزز الفكرة القائلة إن الإدارة الأميركية غير مستعدة للتواصل مع الطرف الآخر، ما يؤدي إلى إضعاف الثقة بين البيت الأبيض وخصومه في الكونغرس.

وفق وجهة نظر أكثر تفاؤلية، تكون السياسة الخارجية أقل تأثراً بهذه المواقف الحزبية. يظن علماء السياسة أن الفرص التي تقدّمها الشراكة بين الحزبَين كثيرة في مسائل تتراوح بين الدفاع الوطني وحقوق الإنسان. برأي عدد كبير من الخبراء، تُعتبر المنافسة المحتدمة بين الولايات المتحدة والصين فرصة محورية لردم الخلافات الحزبية في واشنطن. لكن تكشف الأدلة المتاحة أن أهم مسائل السياسة الخارجية لن تتفوق على الخلافات الحزبية. تاريخياً، كانت طريقة التعامل مع تحديات الأمن القومي في الولايات المتحدة تعكس المستويات القائمة من الانقسامات المحلية. وعندما تتسلل تهديدات أمنية جديدة إلى بيئة منقسمة أصلاً، لا مفر من أن تتسيّس سريعاً. في العصر الراهن، يعني هذا الوضع أن تثير أصعب مشاكل السياسة الخارجية وأكثرها أهمية انقسامات إضافية بدل توحيد الصفوف.

انــــقــــســــام أبــــدي؟

قد يفضّل الكثيرون الاقتناع بقدرة بايدن على تجاوز مشكلة الانقسام عبر تسريع تنفيذ أجندته الخارجية. فيما يصبّ الرأي العام تركيزه على وباء كورونا والبنية التحتية المحلية المتصدعة، قد يتوقع البعض أن يتصالح البيت الأبيض سريعاً مع حلفائه ويطوّر سياسات أكثر ذكاءً وصرامة ضد خصوم مثل الصين وروسيا. قبيل الدورة الانتخابية المقبلة في العام 2024، يظن مؤيدو هذا المنطق أن الردود الحزبية على هذه التحركات قد تكون هادئة أو قصيرة الأمد.

لكن لا تعالج هذه المقاربة حتى الآن المشاكل البنيوية التي تُسبّبها الانقسامات. تمنع البيئة السياسية الراهنة صانعي السياسة من استهداف أهم مشاكل السياسة الخارجية بطريقة ترضي الطرفَين. ومن دون دعم الحزبَين الجمهوري والديمقراطي، تجازف إدارة بايدن بتسييس أي قرارات مؤثرة وانهيارها بعد وقتٍ قصير. قد تشمل تلك القرارات أولويات عدة حدّدها بايدن في أول خطاب له عن السياسة الخارجية في شهر شباط الماضي، منها توسيع برنامج قبول اللاجئين، وزيادة الاستثمارات في التحالفات الخارجية، وقيادة التعاون الدولي في ملف المناخ والصحة العامة.

من المتوقع أن تشهد الانقسامات السائدة تقلبات متواصلة على مر الدورات الانتخابية، لكنها ستبقى على الأرجح جزءاً دائماً من السياسة الأميركية المعاصرة، لأن عدداً كبيراً من العوامل التي تفسّر استمرار الانقسامات (أي الفرز الإيديولوجي للأحزاب، وتوسّع مظاهر اللامساواة الاقتصادية، وتفكك البيئة الإعلامية، والتراجع العام في معايير الحزبَين في واشنطن)، لن يختفي في أي وقت قريب.

تَقِلّ السيناريوات التي تنفي أضرار الانقسامات الحادة على مستوى السياسة الخارجية الأميركية. في الحد الأدنى، سيؤدي أي انقسام إلى ضخ شكوك إضافية في الشؤون الخارجية وإثارة استياء حلفاء واشنطن. وإذا دفع الانقسام المستمر بالولايات المتحدة إلى التخلي عن مفاوضات شائكة أو التراجع عن الالتزامات القائمة في كل مرة يصل فيها حزب جديد إلى السلطة، قد تصبح سمعة البلد كخصمٍ جدير بالثقة وحليف موثوق به في خطر محدق.