أنطوان العويط

عن إنسان لبنان في "مشروع وطن الإنسان"

10 تموز 2021

02 : 00

الإنسان في معاجم اللغة من فعل أنسن، وأنسنه، ما يصبغ عليه الصفات الإنسانيّة فلا يعود أجوف مجرّداً.

كرّم الله الإنسان في الديانات السماويّة، فسخّر له الكون وذلّل له الأرض رزقاً، تتدفّق عليه رطباً ورغداً.

أسّس الإسلام نظرته إلى الإنسان على أنه الهدف والموضوع، نظراً إلى جوهر فرادته بين مخلوقات الله، لكونه ذاتاً عارفة. وواجه القرآن الكريم عبوديّة الإنسان للإنسان، ونفى حقّ أيّ إنسان في أن يحلّ لغيره أو يحرّم عليه ما يشاء.

وفي المسيحيّة، جعل الله الإنسان على صورته ومثاله، في مسيرة للأخير نحو الكمال. فالإنسان في ذاته قيمة سامية، كرامته مطلقة وهي عطيّة سماويّة. وأعظم ما صنعه الربّ أنّه قرّر أن يصبح إنساناً.

عند صياغة شرعة حقوق الإنسان العالميّة، شاء رجل من لبنان أن يحيط الإنسان بهالة من القدسيّة الفلسفيّة والروحيّة ونجح. أدرك الكبير شارل مالك أن الإنسان هو بيت وطقس في بيوت وطقوس متعاكسة، تتناقض ما بين القيم والمبادئ وبين ما تفرضه مصالح الدول وأهواء الحكّام. ولحماية الإنسان، كتب فيه كمن يريد أن يقول كلّ شيء. كلّ ما قيل وما لم يُقَل حتى الساعة، ولربّما كلّ ما سيقال حتى قيام الساعة. فأين نحن اليوم من إنسان لبنان؟

لقد شهِدنا على مدار السنين الماضية موتاً بطيئاً له. لقد أذلّ وأهين وتشرّد وجاع. إنّه يُقتل. وهم يفعلون بدم بارد، بهمجيّة، بمجون، بسفالة، وبلا ذرّة ضمير.

لقد تعذّب إنسان لبنان مراراً وتكراراً على مرّ الحقب والعهود. لكنّه لم يُقابل يوماً بمثل هذه الانتهازيّة، هذه النذالة، هذه الخساسة، هذه الدناءة. لم يُقتل يوماً إلى هذا الحدّ من احتراف فعل الموت بحقّه من الفنون والأساليب. لم يسبق أن اغتيل إلى هذه الدرجة من انعدام البصر والبصيرة، ومن تعظيم الجريمة والتباهي بها، ومن الوجع والهمّ وفقدان الأمل.

ما عجزت عنه السلطنة العثمانيّة يوماً وبعدها الحرب الأهليّةُ عن تحقيقه، وما لم تتمكّن منه أنظمة الاحتلال والوصاية وسلطات القمع والظلم والإرهاب، يُرتكب اليوم بحقّ إنسان لبنان. فما الذي يمكن أن يتحمّله بعد؟

في سياق محاكاة الحلول، صدر العديد من البرامج والوثائق عن حركات تجديديّة من صلب المجتمع الأهلي منذ انتفض شعبنا العام 2019، وهي في معظمها جيّدة وواعدة. في الوقت عينه، استوقفني مطوّلاً "مشروع وطن الإنسان" الذي أطلق قبل أيام.

أعتقد صادقاً أنّ الواقع يتطلّب أكثر من مبادرات مشغولة وعن طريق نصوص هادفة. وبطبيعة الحال، لن تتبدّل الأحوال بالنقد البنّاء أو بتوصيف الداء وعرض الحلول وإعلاء الصوت فحسب. إنّنا بحاجة إلى روح تؤسّس للعمل، فيكون راسخاً ثابتاً متيناً صامداً، يعلو على الأشخاص، ويضخّ النبض في الخطط والبرامج. إنّها روح الإنسان التي تفتح الستارة على الحياة والبلاد، وعلى احتمالات الضوء والقيامة، وهذا ما تلمّست في "مشروع وطن الإنسان".

المشروع هو ثمرة جلسات عمل مكثّفة ونقاش عميق على مدى أكثر من عام، لمجموعة صافية صادقة متجرّدة وطنيّة ومحترفة وأكثر من واعدة، تتحلّى بنظافة الكفّ والفكر النيّر مع تاريخ أصيل في مسار بناء لبنان وتثبيت ركائزه.

هذه المجموعة التي تضمّ كوكبة من عشرات الشخصيّات المتخصّصة والعامة من خيرة النساء والرجال ومن مختلف المجالات، ومن أصحاب الخبرات العالية المتعدّدة، السياسيّة والديبلوماسيّة والفكريّة والاقتصاديّة والتكنولوجيّة والعمرانيّة والطاقات العلميّة، تداعت ومن على امتداد مساحة الوطن وتنوّعه، ليلتقوا على أساس منظّم، شامل، وهادف، يدعو إلى بناء جمهوريّة الإنسان في لبنان، في وطن الإنسان.

وهؤلاء كانوا أعلنوا عن مشروعهم أمام الرأي العام، وسبق لهم أن بدأوا العمل في ورشة وطنيّة بنيويّة شاملة لوضع الخطط والمشاريع والحلول في مواضيع السياسة والدولة المدنيّة والأمن القومي واللامركزية الإداريّة والبنى التحتيّة والاقتصاد والاجتماع والفنون والبيئة...، من أجل تأمين دخول لائق للبنانيين في القرن الواحد والعشرين وما بعده. وقد صمّموا لمشروعهم أن يحمل عودة عميقة روحيّة وفلسفيّة وكيانيّة ووجوديّة إلى نسب كلّ فعل وهدف كلّ عمل: إنّه الإنسان أوّلاً ثم الإنسان فالإنسان، في جمهورية الإنسان ووطن الإنسان.

تفرِض قيم هذه الجمهوريّة سعادة الإنسان كهدف أساسيّ، سعادة روحيّةً وماديّةً وفلسفيّةً، ضمن دولة سيّدة مدنيّة وحديثة، أركانُها الاستقامة وتكريس المواطنة حقوقاً وواجبات. وتتطلّع إلى عيش مشترك يتخطّى مستوى التساكن بين المجموعات اللبنانيّة، ليصبِح نمط عيش منتجاً ومنسّقاً، يقوم على خلقِ القيمة المضافة، وتحقيقِ ملء الذات، واحترام الغنى في التنوّع. ويؤَهّل الوطن من خلال سيادة غيرِ منتقصة، ليكونَ نموذجاً حضاريّاً في صونِ كرامة الفرد والجماعات، وتثبيت الانسجامِ بين الحريّة التي هي في أساس فكرة لبنان، وبين العدالة القائمة على المعادلة ما بين الحقوقِ والواجبات وحماية الضعيف والفقير.

لقد آن الوقت لنعود ونبني لبنان وطناً للإنسان، فنستعيد كرامته، ونؤمّن سعادته، ونصون حقوقه، ونحمي حرّيته، بعيداً عن حيلة العاجز، واستسلام القاعد، وأسلوب المستنكف، وطريق الخامل، وسبيل المستكين، حيث يقترن الفعل والعمل والخطط والبرامج بالروح التي تؤيّدها حركة التاريخ.


MISS 3