لا غنى عن اليابان مجدداً!

02 : 00

الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس الوزراء الياباني يوشيهيدي سوجا في البيت الأبيض / واشنطن، نيسان 2021

تحمل اليابان انطباعاً إيجابياً خلال الأشهر الأولى من عهد جو بايدن الرئاسي. على عكس دونالد ترامب الذي أزعج الكثيرين في طوكيو بسبب توجهاته الديبلوماسية المبنية على مصالحه الخاصة، يبذل بايدن قصارى جهده لإعادة إحياء التحالف الأميركي الياباني والتشديد على دور اليابان المستمر كركيزة للسياسة الأمنية الأميركية في آسيا. في شهر شباط الماضي، جدّد البلدان الاتفاق الذي يسمح لليابان باستضافة القوات الأميركية، ثم زار وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ووزير الدفاع لويد أوستن اليابان في شهر نيسان خلال أول زيارة لهما إلى الخارج. كذلك، استقبل بايدن رئيس الوزراء الياباني شوقا يوشيهيدي، وكان أول ضيف خارجي يستضيفه بعد توليه الرئاسة.

ليس مفاجئاً أن يصبّ التركيز خلال هذه الاجتماعات المبكرة على الصين لأن نموها الاقتصادي والعسكري زاد توتر واشنطن وطوكيو ووحّد صفوفهما في المنافسة القائمة ضد بكين. أكد المسؤولون في إدارة بايدن مراراً على استعدادهم للدفاع عن اليابان، بما في ذلك دعم مطالبتها بجزر سينكاكو المتنازع عليها (تُعرَف في الصين باسم جزر دياويو). لكن بالإضافة إلى المنافسة العسكرية والديبلوماسية مع الصين (لطالما كانت هذه المسألة أساسية في العلاقات الأميركية اليابانية)، شدّد البلدان مجدداً على أهمية الأمن الاقتصادي. ناقش بايدن وشوقا في أول لقاء لهما الطرق التي تسمح بحماية سلاسل الإمدادات الأساسية، وحقوق الملكية الفكرية، والتكنولوجيا الدقيقة التي يُفترض ألا تصل إلى يد بكين. خلال لقاء "الحوار الأمني الرباعي" (منتدى استراتيجي غير رسمي يشمل أستراليا، والهند، واليابان، والولايات المتحدة) في شهر نيسان، تبنى الزعيمان وجهة نظر شاملة حول التحديات الصينية، ما أدى إلى نشوء فِرَق عمل تُعنى بالسيطرة على التقنيات الناشئة والمحورية ومسائل أخرى مرتبطة بالأمن الاقتصادي.

كان احتدام المنافسة الاقتصادية مع الصين كفيلاً بإعادة إحياء تحالف اليابان والولايات المتحدة، ولم يكن هذا الحدث مجرّد صدفة. في السنوات القليلة الماضية، ابتكرت الحكومة اليابانية (في عهد رئيس الوزراء شينزو آبي أولاً، ثم في عهد شوقا) نوعاً جديداً من الكفاءة الاقتصادية التي تهدف إلى حماية مصالح البلد الاقتصادية، والحد من تسلل النفوذ الصيني في آسيا، وتعزيز القوة "الناعمة" اليابانية. نتيجة تطوير شكلٍ من الذكاء الاقتصادي، وتشديد القيود التجارية، وتحسين إدارة البيانات والتقنيات الناشئة، أصبحت اليابان قوة دافعة للأمن الاقتصادي في آسيا وقد رسّخت مكانتها كحليفة لا غنى عنها للولايات المتحدة.

مهارة آبي الاقتصادية

لم تحصر اليابان يوماً المسألة الأمنية بالقطاع العسكري. بسبب القيود العسكرية التي يفرضها الدستور الياباني السلمي، حاولت طوكيو تاريخياً أن تكسب ثقة قوى آسيوية أخرى عن طريق المساعدات والتجارة والديبلوماسية ونجحت في مساعيها عموماً: تكشف استطلاعات الرأي في جنوب شرق آسيا دوماً أن اليابان أبرز قوة جديرة بالثقة في المنطقة، وهي تتمتع بمستوى مرتفع من القوة "الناعمة".

لكن مع زيادة عدائية السياسة الخارجية الصينية، لا سيما في عهد الرئيس شي جين بينغ، اضطرت اليابان لابتكار طرق جديدة للحفاظ على استقلاليتها ونفوذها الإقليمي. بدءاً من العام 2013، عمدت حكومة آبي تدريجاً إلى تجديد بنية الأمن القومي البالية، وتقوية قدرات البلد الدفاعية، والاضطلاع بدور استباقي للحفاظ على الأمن القومي. كذلك، أطلق آبي سلسلة من مبادرات ضمنية في مجال الأمن الاقتصادي لكنها لم تجذب الانتباه مع أنها كانت مهمة بالقدر نفسه.

كانت أهم مبادرة تتعلق بإعادة تنظيم الإجراءات البيروقراطية لتحسين التعاون بين مختلف الوكالات وزيادة قدرة الحكومة على التعامل مع مخاطر الأمن الاقتصادي الجديدة. أعاد آبي، مع اقتراب نهاية عهده، هيكلة إدارة الأمن القومي في اليابان، فأضاف فرعاً اقتصادياً بدأ العمل رسمياً في نيسان 2020. سبق وتوسّع هذا الفرع الجديد وتحوّل إلى أكبر وحدة من فروع إدارة الأمن القومي السبعة، ما دفع وزارات أخرى إلى اتخاذ تدابير مشابهة لإعادة تنظيم نفسها. أنشأت وزارة الشؤون الخارجية، ووزارة الاقتصاد والتجارة والصناعة، ووزارة الدفاع، فروعاً أو مناصب جديدة تُركّز على التكنولوجيا والأمن الاقتصادي.

كذلك، نجحت حكومة آبي في تقوية جهود جمع المعلومات الاستخبارية المرتبطة بالأمن الاقتصادي في اليابان وتقييمها، فمنحت وكالات الاستخبارات المحلية التمويل والتوجيهات للتركيز على التهديدات التي تتعرض لها التقنيات اليابانية الحساسة، فضلاً عن مخاطر أخرى يواجهها الأمن الاقتصادي. أنشأت وكالة استخبارات الأمن العام في اليابان مثلاً فريقاً يُعنى بالتركيز على الأمن الاقتصادي، وقد أطلقت برامج واسعة لرفع مستوى الوعي العام حول المخاطر والتهديدات التي تطرحها عمليات نقل التكنولوجيا والبيانات بطريقة غير شرعية. عمدت وكالات أمنية أخرى أيضاً إلى إعادة هيكلة نفسها، فأنشأت فِرَقاً جديدة تتكل على موارد متطورة للتركيز على ملف الصين.

ابتكرت اليابان أدوات إضافية لتحسين مهاراتها الاقتصادية عبر تشريعات وسياسات جديدة. في السنة الماضية، راجع البرلمان المحلي قانون الصرف الأجنبي والتجارة الخارجية لتوسيع صلاحيات الحكومة المرتبطة بالاستثمارات المقلقة، فخفّض عتبة المصادقة التنظيمية على الاستثمارات الخارجية من أكثر من 10% من حصص الشركة إلى أكثر من 1%. كذلك، منعت اليابان الحكومة من شراء معدات تكنولوجيا المعلومات من جهات تابعة للدولة الصينية، مثل "هواوي" و"زي تي إي"، وقدمت الإعانات والإعفاءات الضريبية لصالح الشركات اليابانية التي تطور شبكات الجيل الخامس الآمنة. وعلى غرار أستراليا والهند، أطلقت اليابان أيضاً "مبادرة مرونة سلاسل الإمدادات" التي تُشجّع الشركات اليابانية وفروعها على تنويع عملياتها وإعادتها إلى بلد المنشأ وإخراجها من الصين إلى جنوب شرق آسيا.

من المتوقع أيضاً أن تنشأ مبادرات أخرى في مجال الأمن الاقتصادي. تُخطط الحكومة لإنشاء منظمة جديدة للتركيز على استعمال التكنولوجيا الناشئة مثل الكم والذكاء الاصطناعي لأغراض أمنية. حتى أنها تفكر بابتكار نظام جديد للتخليص الأمني في القطاع الخاص بهدف تسهيل تقاسم المعلومات المرتبطة بالتهديدات المطروحة بين الحكومة والشركات، فضلاً عن نظام لإخفاء براءات الاختراع العامة التي ترتبط بالتكنولوجيا والسماح بتعديلها لأغراض عسكرية. قد يعتبر هذا النظام الأمن الاقتصادي واحداً من الركائز الثلاث الأساسية في استراتيجية الأمن القومي الجديدة، وسيتابع أداء دور رائد في تحديد معايير التجارة العادية والرقمية، تزامناً مع تطبيق "اتفاق الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ"، علماً أن اليابان أعادت إحياء هذا الاتفاق التجاري وغيّرت اسمه بعد انسحاب الولايات المتحدة.

شريكة لا تُقدَّر بثمن

قد تبدو هذه المبادرات في معظمها مألوفة للأميركيين، وهو أمر مقصود. تحاول طوكيو تحقيق أهداف متعددة، منها تقريب سياسات الأمن الاقتصادي الياباني من سياسات واشنطن قدر الإمكان وضمان تعاون الحكومتَين في سياسات التكنولوجيا المحورية والناشئة. حتى الآن، تعطي مقاربة اليابان المفعول المنشود على ما يبدو. بعد وقتٍ قصير على إطلاق فرع الأمن الاقتصادي الجديد في إدارة الأمن القومي، أعلنت الحكومتان أنهما ستطلقان حواراً حول مسائل الأمن الاقتصادي. لقد أصبحت اليابان شريكة لا تُقدَّر بثمن للولايات المتحدة في مجال الأمن الاقتصادي بفضل براعتها في التعامل مع التكنولوجيا الجديدة، وشبكاتها وروابطها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وامتيازاتها وقوتها الناعمة في المنطقة.

لكن تستطيع اليابان والولايات المتحدة أن تبذلا جهوداً إضافية لمعالجة تحديات الأمن الاقتصادي التي تطرحها الصين. لتسهيل النقاشات المنتظمة حول الأمن الاقتصادي، يجب أن يبتكر الطرفان لجنة استشارية أميركية يابانية مشتركة للتطرق إلى هذه المسائل وابتكار نسخة من "حوار شانغريلا" (قمة الدفاع السنوي في آسيا) لكن في مجال الأمن القومي هذه المرة. كذلك، يستطيع البلدان أن يكثّفا دعمهما لشبكة النقطة الزرقاء، وهي مبادرة خاصة بالبنية التحتية والتنمية أطلقتها أستراليا واليابان والولايات المتحدة ويقارنها البعض أحياناً بمبادرة الحزام والطريق الصينية.

أخيراً، يجب أن تزيد اليابان والولايات المتحدة تعاونهما مع دول ديموقراطية أخرى في مجال الأمن الاقتصادي، أو حتى في منتديات متعددة الأطراف إذا أمكن، كما حصل خلال آخر اجتماع لمجموعة الدول الصناعية السبع في المملكة المتحدة ولقاء مجموعة العشرين في إيطاليا. يُفترض أن تجد هذه الأطراف الطرق المناسبة لتخفيف اتكالها الاقتصادي على الصين لإضعاف الكفاءة الاقتصادية الصينية، تزامناً مع تحديد مجالات الاقتصاد التي تجعل الصين تتكل على الدول الديموقراطية لردع أسلوب الإكراه الاقتصادي الذي تعتمده الصين والتصدي له. ثمة حاجة إلى اتخاذ خطوات كثيرة أخرى إذاً، لكن تُعتبر الإصلاحات اليابانية الأخيرة تمهيداً للتعامل مع تحديات الأمن الاقتصادي المرتقبة، وهي تضمن تعزيز التقارب بين اليابان والولايات المتحدة في المرحلة المقبلة.