فصل ثالث من كتاب فايز قزي "حارس قبر الجمهورية"

قبرٌ لا قصر

02 : 00

عون الرئيس
في هذا الفصل يغوض فايز قزي في شخصية ميشال عون و"نرجسيته" و"طاووسيته" ويروي كيف أن عون الرئيس قتل عون الجنرال وكيف تحول إلى أداة بيد المشروع الإيراني بعد الإتفاق الذي تم معه قبل عودته إلى لبنان. ويروي أيضاً كيف انقلب عون على أقرب معاونيه وكيف حول القصر إلى مغارة وكيف سخر الرئاسة من أجل العائلة وتوريث صهره جبران باسيل. ويعتبر قزي أن القصر لا يصير قصراً إذا لم يكن من يسكنه بقامة رئيس يليق به القصر لذلك يعتبر أن القصر تحول مع عون إلى مغارة ليخلص كيف أن عون قتل الجمهورية التي طالما قال إنه يسعى لاستعادتها وتحول إلى حارس القبر لا رئيس القصر.




في 31/10/2016 وصل إلى قصر بعبدا زائرٌ ببدلةٍ مدنية يتمتّع بكلّ مواصفات الحارس لا الرئيس. فاستقبلته ثلّةٌ من حرّاس القصر باحتفال رسمي. ولكن الوافد إلى القصر لم يكن غريباً عنه بل سبق وسكنه ببذّةٍ عسكرية، ورغم ذلك لم يجد القصرَ الذي تركه للشعب، ولا القصرُ تعرّف إلى صوت ساكنه السابق الذي صدح بخطابات الحرّية والسيادة والاستقلال. وبدأ التفاعل السلبي بين المستأجر الجديد والقصر القديم.

القصر في العلوم السياسية هو مركز السلطة الأعلى في البلاد. وهذه السلطة تفسّخت وتقسّمت بعد الطائف، وخاصةً في عهد ميشال عون ورعاية المفوّض السوري وشريكه الفقيه، وباتت فعلاً منازل لسلطة موزّعة على ثلاثة رؤوس، في بعبدا وعين التينة والسراي الحكومي، واغتصبت ألقاب رئيس الجمهورية ورئيس المجلس ورئيس الوزراء.

لقد مرَّ على قصر بعبدا ثلاثة غير مستحقّين ولا شرعيين. تدرَّجوا بين دمشق وعنجر والدوحة. من رئيسٍ شبه شرعي وشبه منتخب إلى معيّنين بقناعٍ انتخابي صنعه وفرضه المحتلّ السوري. وجاء عون معيّناً من محتلٍّ إيراني مقنّع بالمقاومة.

...عاد عون إلى قصر بعبدا فكان مشهد جلوسه على الكرسي حافلاً بمظاهر النصر الطاووسية بين جدران وكراسٍ عاشت فراغ سنتَين ونصف ليبقى منها بيان بعبدا الذي أنجزه ساكن القصر الأخير قبله ميشال سليمان ليملأ غرف بعبدا بمكاتب لأفراد عائلته ويخصّص صهره جبران بغرفة خلفية يمسك منها بكلّ مفاصل الجمهورية...

نبؤاتٌ نرجسية وبدعة تشكيل الحكومة وعودة مفخّخة

جاءت تجربة تشكيل الحكومة الأولى التي لم تكن أقل هرطقة، وكانت تؤشّر إلى اتّجاهٍ سلطوي يطيح بالقوانين والأعراف التي اعتمدها مشرّعو الدستور، وآباء الوطن الأصليون فهي غير مطابقة لسلوك ومزاج "بيّ الكلّ" الذي تجاوز "الثمانين عاماً ولم يسأم".

... بعد أن اكتشف عون لاحقاً أن الزيارة التي قام بها إلى الولايات المتّحدة عام 2003 حيث استعان باللوبي الصهيوني الذي استغلّ شهادته أمام الكونغرس الأميركي لإصدار قرار بإدانة سوريا، ستحرمه من حلم العودة إلى لبنان، وافق على تكليفي بالتفاوض مع السوريين على شروط العودة. واستمرّ التفاوض حوالى ستة أشهر منذ بداية حزيران حتى نهاية كانون الأول 2004. وتمّ الاتّفاق على كامل التفاصيل. وتكلّلت المفاوضات بإرساله مندوباً إلى سوريا في أوائل كانون الثاني 2005 ليقترح توجيه دعوة إلى سوريا لحضور مؤتمر مصالحة في باريس. فاستقبل وزير خارجيتها في دمشق موفدَه الأميركي الجنسية غابي عيسى، الذي عيّنه عون لاحقاً سفيراً للبنان في الولايات المتّحدة.



فايز قزي



تعمّقت ظاهرة انقلابه على الآخرين حتى استهلكت أكثر القيادات والروّاد في التيّار العوني. فكان شهداؤها العدد الأكبر من الذين عَبَروا التجربة العونية فسقطوا في الإنكار. ليخلفهم شُذَّاذ الاستغلال السياسي والمالي... هذه هي الطبقة الجديدة التي حطّت في بعبدا لتحوّله من قصر الماضي إلى قبر المستقبل.

معرفتي بالرجل ومواكبتي لكافة مراحل تقلّبه ومنهجه السلوكي العام والخاص تخوّلني وتفرض عليّ تسجيل ملاحظات ربما تساعد على قراءة هذا الفصل. إن الحالات النرجسية أو الطاووسية في سلوكه وطبعه، ولو أخفى ريشه في مواسم الريح الغاضبة التي تهدّده بحصاده مع أجنحته الطاووسية، فإنها تبقى كامنة وهو شديد التمسّك بها...

أما التشبّه عنده بالجنرال ديغول، فكان حلماً يعيشه نائماً أو صاحياً من دون أن يقرأ أن الجنرال ديغول عاد من المنفى مقاوماً ومنتصراً على الاحتلال. أما الجنرال عون ومن أجل عودته، فقد تقاطعت مصالحه مع المحتلّ السوري، وعقد اتّفاقاً ووقَّع تفاهماً مع الاحتلال الإيراني. ليجلس في رتبة حارس مكلّف، مرتزقاً كقائد فرقة المئة على قبر الجمهورية، التي قاتل تراجعياً وبشراسة للحصول فقط على لقب رئاستها بائعاً حتى لقميصها.

هذه الملاحظة اليوم، دليلي عندما أراقب انحراف وتطبّع "الرئيس" المتمرّد في اتّجاه استعادة دور القيادة الأقرب لطبعه. وهذا يزيد قناعتي بتحوّل القصر إلى قبرٍ للجمهورية اللبنانية كما بناها الأوائل والشهداء.

كانت صدمتي كبيرة عندما لم أفهم فوراً كيف قدّم أوراق تنازله بعد عودته من باريس في 7 أيار ومهاجمته في أول خطاب، الإقطاع المالي (الحريري) بعد زيارةٍ قصيرة للضريح في مسجد الأمين، والإقطاع السياسي (جنبلاط) الذي وصفه بالتسونامي. لم تكن الإشارتان كافيتَين لتكشفا عن ارتباط الجنرال في نيسان وأيار 2005، بمفاوضات سرّية أجراها كريم بقرادوني وإميل إميل لحّود مع السوريين و"حزب الله"، التي عاد بنتيجتها الجنرال إلى بيروت داعماً ومؤيّداً عهد إميل لحّود حتى اكتماله، وفاتحاً خطّاً سرّياً مع "حزب الله"، بواسطة أنطوان نصر الله والدكتور كمال يازجي، وأنطون الخوري حرب وزياد عبس، والتي وضعت وأنضجت كلّ التحضيرات اللازمة لإتمام حلف سياسي بشكل مذكّرة "التفاهم" في 6 شباط 2006، ليصل إلى قصر بعبدا برتبة رئيس ولو مجرّداً من التزامه بقسمه العسكري والدستوري.

كانت هذه خطوة العونية المدنية والسياسية المفاجئة والعجيبة وغير المتوقّعة ولا المنسجمة مع أدبيات ومنهج الجنرال العسكري ميشال عون "مدّعي التحرير وعدو الميليشيات"، مناسبة لكشف القطيعة السياسية بيننا وتظهير مدى التباعد في العقيدة والقناعة الوطنية، ونقلتني إلى اتّهامه بقتل الجنرال ليستحق زوراً عمامة الرئيس.

مناورات بعبدا 

بيّ الكلّ يدعو ويتراجع

صدر عن قصر بعبدا يوم الخميس 1/12/2016 بيان: يؤكّد فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون حرصه على هواجس الجميع، وتصميمه على معالجتها. وهو لذلك يتوجّه بدعوةٍ أبوية إلى أي مسؤول أو سياسي للاجتماع به في القصر الجمهوري، كي يودع هواجسه لدى فخامته، المؤتمن على الدستور، وعلى تحقيق عدالة التمثيل في السلطات الدستورية، كما على حسن عملها وفقاً لاحكام جوهر الدستور ونصّه... طالما الغاية هي المصلحة الوطنية العليا.

حاولت أن أصدق هذه الدعوة، ورغم انقطاع العلاقات بيننا منذ شباط 2006، طلبت من بي الكلّ موعداً للاشتراك في الدعوة الأبوية لتذكيره بفتح ورشة بناء الجمهورية، التي كانت الهدف الذي تظاهر بحمله دائماً، وأن تكون حكومته الأولى (وبسبب الانتخابات) مستقلّة عن الأحزاب أو الأفراد المرشّحين المحتملين للانتخابات، لأن ذلك ينبئ بخطر استغلال السلطة والمرافق العامة ويبدّد الآمال باعتماد سلوك جديد لاستعادة الجمهورية الضائعة.

ولكن صمت القصر وامتناعه عن الجواب، أكّد لي أن هذه الدعوة لا تختلف عن سابقاتها... فندمتُ وتراجعتُ. وأسفت لأنني خُدِعْتُ ولُدِغتُ من جُحرهِ كثيراً وليس مرّتَين فقط. وعدت إلى عزلتي مع "المصلحة الوطنية العليا".

تأمين الخلافة والقصر مكتب انتخابي

في إطلالته الأولى بعد انتخابه أو تعيينه رئيساً للجمهورية قال عون لمحطّة LCI الفرنسية إنه "لا يفكّر بولاية ثانية ولكنه ملزم بتأمين خلافة جيّدة... وإنه يعدّ العدّة لذلك". إنه حلم الخلافة والأسوأ من التمديد الذي مارسه سواه ممن اتّهمهم بالخروج على الدستور.

يكاد ميشال عون يكشف منذ بدء ولايته أنه في صدد إمّا أن يؤمّن خليفاً جيّداً لوراثته أو يحتفظ بحقه في تمديد ولايته وفقاً لبدع خيالية يغطّيها مستشاروه بفذلكات قانونية تعتمد التذاكي المستند إلى القوّة الفائضة لحلفائه. وقد نفّذ عون نظريته هذه بتحويل القصر إلى منزلٍ عائلي: تعيين ميراي مستشارة في القصر، وكلودين مستشارة ورئيسة لجنة المرأة، وزوج ابنته الثالثة مشرفاً فعلياً على أعمال القصر والجمهورية، بتجربة الانتخابات النيابية الأخيرة بفرض القانون النسبي الأفضلي، وبالإشراف من مكتبه في بعبدا على إدارة الانتخابات والتدخّل المباشر باستدعاء الأشخاص والبلديات والمخاتير والكهنة وأصحاب المصالح وتركيزه خاصة على المتقاعدين من العسكريين والأمنيين حتى بلغ في استدعاء قضاة طامحين بدعمه، ومن كلّ المناطق الانتخابية لدعم مرشّحين معيّنين أو مرشّحي التيّار الوطني الحر، مغتصباً قسَمه الدستوري بحسن إدارة البلاد والمؤسّسات وفقاً للدستور والقانون.

متلازمة حلم الفراغ ومشروع

"حزب الله"في المقابلة نفسها مع المحطة الفرنسية قال: "إنه يفضّل حصول الفراغ في المجلس على إجراء الانتخابات وفق قانون الستّين". ولعل هذا الفراغ الذي مارسه فعلاً الجنرال عون وتمنّاه منذ بدأ حملته السياسية لقطف رأس الجمهورية. فتقاطع هذا مع مشروع الفراغ الذي اعتمده "حزب الله"، حليفه لتفريغ الجمهورية ومؤسّساتها فتقع لتصبح ولاية وهو مكلّفٌ بحراسة قصرها.

وكان عون قد صرّح إلى قناة "سي.بي.سي" المصرية قائلاً: "طالما أن هناك أرضاً تحتلّها إسرائيل، وطالما أن الجيش اللبناني لا يتمتّع بقوّة كافية لمواجهة إسرائيل، فنحن نشعر بضرورة وجود سلاح "حزب الله"، الذي لا يتناقض مع مشروع الدولة وأن وجود "حزب الله" في سوريا هو فقط ضد المنظّمات الإرهابية، ولا يدخل في الصراع الإقليمي".

حارس قبر الجمهورية




متلازمة الاستراتيجية الدفاعية لتغطية الاحتلال


بعد أن استقرّ ميشال عون في بعبدا سارع إلى سحب وعده بوضع الاستراتيجية الدفاعية لحلّ مشكلة علاقة سلاحه مع الجيش وأفتى: "إن سلاح "حزب الله" يخضع للاستراتيجية الدفاعية التي كنا نحاول أن نضعها وقد سبقتنا الأحداث"، وأضاف: "إن لبنان غير قادر على بناء قوّة عسكرية قادرة على المواجهة مع العدو، لذلك عليه أن يستعمل طرقاً للقتال تشترك فيها القوى النظامية والشعبية".

وكانت هذه مؤشّرات واضحة بأن ساكن بعبدا الجديد، الحارس المدني أقدم على اغتيال الجنرال القديم العسكري ومزَّق بذلة الشرف والتضحية والوفاء خاصةً ليخدم أهواء ومصالح وليٍّ عيّنه بانتخابات شكلية لا أساس وطنياً أو شرعياً لها.

ويكبر السؤال هل هناك قصرٌ في لبنان تعمل مؤسّساته على ضخّ الحياة في شريان الديموقراطية والمواطنية والعدالة والمساواة أم هذا الذي كان قصراً خلال حقبات الاستقلال بقي يتراجع إلى أن حوّله وصول ميشال عون إلى مغارةٍ أو قبرٍ لشعبه العظيم وجمهوريته الناهضة؟

إن القصور في الدول الديموقراطية هي الأبنية التي تبنيها الشعوب وتؤجّرها بملء إرادتها ورضاها مجاناً لرؤساء الجمهورية المنتخبين وفقاً للوائحها الانتخابية لولاية شرعية كاملة، ليصبح القصر مسكناً ومكتباً للرمز الأول للسلطة ليدير شؤون الوطن ومؤسّساته الدستورية ونظامه الديموقراطي. ومن هنا تستعمل الدول العريقة في الديموقراطية لرؤسائها لقب مستأجر القصر "Le Locataire".

أما في الدول الديكتاتورية فهو المكان الذي يحتلّه الديكتاتور ويغتصب حق سكنه مجاناً بعد أن يُخضع الشعب ويحتلّ المكان الأعلى في السلطة. وفي الحالَين تبدأ حياة ساكنه بلقب المستأجر وتنتهي في حال الديموقراطية بحلول أجلها ونهاية العقد السياسي للرئاسة. وفي الديكتاتورية، تبدأ بالاغتصاب ولا تنتهي إلّا بالانقلاب المعاكس والنفي أو القبر.

لكن في لبنان، القصر يأخذ شخصية صاحبه بولائها وأوصافها الأدبية والمعنوية والمادية.

عندما يشغله شخص متعامل مع المحتلّ، الذي يزرع فيه وزراء أوصياء على ساكن القصر، وعندما يتناوب على مكاتبه انتهازيون جشعون يصطادون مغانم وأرباحاً في مراسيم العفو الخاص، ومنح الجنسية، وتوزيع المخصّصات والسفر إلى الخارج على حساب الجمهورية. وعندما لا يسكنه رئيس ينفّذ قسَمه بإخلاص ووفاءً لشؤون الدولة وتطبيق الدستور ورعاية الشعب وحفظ الكيان والسيادة، فلا يكون قصراً بل قبراً يسكنه حارس معيّن.

لا يستحقّ هذا البناء بذاته اسم القصر إن لم يكتمل هيكله كقصر بوجود رئيس. يفقد ساكن البناء في بعبدا صفة الرئيس ويكتفي بقناع الرئاسة وبذّتها ليفتح لعائلته وثلّةٍ من الذين ولدتهم أمّهاتهم بوجوه وعقول مستعارة، يبرعون في سمسرة الصفقات المالية والسياسية من دون حدودٍ رادعة حتى حدود السيادة والاستقلال ويفقد صفته كقصر، خاصةً إذا أريد له أن يكون قصراً للجمهورية، بينما الجمهورية غير موجودة ومحجوزة في قمقم الولاية. ولا يغيّر الحارس مهما اجتهد وانتحل من أعذار وحيل في استعادة وصف البناء بالقصر.

أما اليوم، وبعد أن وصل الحارس المعيّن، بعنوان رئيس، انعكس هذا التعيين على شخص الحارس وراح يتصرّف باندفاع لإرضاء ولي أمر تعيينه بهذا المنصب.

وقد تحقّق رفيقا دربه سمير جعجع وسعد الحريري، بعد مرور ثلاثة أعوام، من أن ما كان يُسمّى في بعبدا قصراً للجمهورية وساكنه رئيساً، بات لا يزعجهما من منطلقَي اللا رئيس واللا قصر. تحوّل الرئيس إلى حارسٍ والقصر إلى مغارة.

...وعندما يسعى ساكن بعبدا للتدخّل في انتخابات ويتحوّل إلى مكتب انتخابي للتيّار لانتخابات 6 أيار 2018، فيساهم بجرم وتفخيخ السلطة الشرعية. ويستدعي المفاتيح الانتخابية القابلة للتأثير، وما أكثرها في لبنان، في الإدارات الرسمية والعسكر المتقاعد والمخاتير والبلديات التي تخضع أو تتمنّى تلبية دعوات القصر "للتشاور والتودّد والتمنّي وإلّا".

فهل هكذا تكون قصور الجمهورية؟ لا إنه قبر. لتنام فيه الجمهورية التي قتلها حارسها.

* الكتاب صادر عن "دار سائر المشرق" ويوزّع قريبا في المكتبات


MISS 3