إيداي ماسيلكانوفا

التاريخ يكرّر نفسه في أفغانستان

28 تموز 2021

المصدر: The Diplomat

02 : 01

منذ ثماني سنوات، كتبتُ مقالة بعنوان "أفغانستان: سفينة غارقة؟ مخاوف من الانسحاب الأميركي 2014". طرحتُ حينها أفكاراً مستخلصة من الفترة التي عملتُ فيها كمسؤولة سياسية في بعثة الأمم المتحدة في أفغانستان. في تلك الفترة لاحظتُ الهلع السائد وسط السكان المحليين، لا سيما الأقليات العرقية مثل الهزارة والطاجيك والأوزبك. كانت هذه الأطراف تخشى أن يتم استهدافها مجدداً من حركة "طالبان" بعدما بدأت القوات الأميركية بالانسحاب في العام 2014. عبّر الجنرالات الأفغان الذين قابلتُهم عن تشاؤمهم بالوضع أيضاً. لقد توقعوا أن تستولي "طالبان" على البلد فور رحيل القوات الأجنبية. كانت النساء يخشين خسارة جميع المكاسب المحققة منذ العام 2001، وقد حمل الناشطون في مجال حقوق الإنسان المشاعر نفسها.

لم يحبذ الأفغان بالضرورة وجود قوات التحالف أو أي منظمات دولية في بلدهم، لكنهم اعترفوا بأنهم يفضلون العيش تحت "الاحتلال الأجنبي" على حُكم "طالبان". كانت الأعمال الوحشية التي ارتكبتها هذه الحركة لا تزال حية في ذاكرتهم. سعى الكثيرون إلى الهجرة من أفغانستان في أسرع وقت ممكن، ولطالما سألني زملائي عن قوانين الهجرة إلى بلدي قيرغيزستان.

هكذا كان الوضع منذ ثماني سنوات. لكن توحي التطورات الأخيرة في أفغانستان بأن احتمال تكرار الأحداث نفسها كبير. اليوم، أصبحت أفغانستان أشبه بسفينة غارقة فعلاً فيما تستعد القوات الأميركية للرحيل أخيراً، ومن المنتظر أن تنتهي هذه العملية بحلول 31 آب وفق مصادر إدارة بايدن. كما كان متوقعاً، بدأت حركة "طالبان" تطلق هجوماً استراتيجياً عبر الاستيلاء على البلدات والسيطرة على طرقات النقل الأساسية ومحاصرة كابول، ما أدى إلى انهيار معنويات الجيش والشرطة في أفغانستان بدرجة غير مسبوقة. سبق وأعلنت "طالبان" انتصارها على اعتبار أنها نجحت في طرد القوات الأجنبية من أفغانستان، وقد أطلقت حملة دعائية لتخويف المدنيين وإضعاف مصداقية الحكومة سياسياً. يُصِرّ أعضاء هذه الحركة على عدم الحاجة إلى بقاء أي قوات أميركية وتركية لضمان أمن المطار الدولي والموظفين الديبلوماسيين والمبانــي الحكومية في كابول.

في المقابل يناشد قادة الأمم المتحدة المجتمع الدولي لمتابعة دعم أفغانستان، فقد بدأت دول المنطقة تشهد منذ الآن موجة من تدفق اللاجئين (سبق وأعلنت طاجيكستان عن تدفق عدد من الجنود الأفغان إليها، فقد هرب أكثر من ألف عنصر إلى طاجيكستان في يوم 4 تموز وحده). عملياً، يسود إجماع دولي متزايد حول غرق البلد الحتمي في الفوضى خلال الأشهر المقبلة، ما يؤدي إلى نشوء أزمة إنسانية كبرى. كذلك، تكثر التداعيات الاستراتيجية المتوقعة على مستوى المنطقة التي اختلّ استقرارها أصلاً نتيجة التدخل الأميركي في العراق ومساعي إيران والصين وروسيا وباكستان وتركيا والهند (وأطراف أخرى) لفرض نفوذها. تُعتبر دول آسيا الوسطى من أبرز الجهات القلقـــة في هذه المرحلة.

بين 27 حزيران و4 تموز، زار وزير الخارجية الأوزبكي، عبد العزيز كاملوف، العاصمة واشنطن وكانت أفغانستان من أهم بنود النقاش. تفيد التقارير بأن الرئيس جو بايدن تساءل عن قدرة أوزبكستان وطاجيكستان وكازاخستان على استضافة 9 آلاف أفغاني موقتاً. كان هؤلاء يعملون لصالح القوات العسكرية الأميركية وقد يتعرضون للاضطهاد على يد "طالبان"، وهم ينشغلون راهناً بتقديم طلبات لنيل تأشيرات خاصة للهجرة. يبدو أن أوزبكستان بدأت تستعد منذ الآن لتدفق تلك الأعداد، فقد نصبت 80 خيمة في مدينة "ترمذ" تحسباً لوصول اللاجئين من أفغانستان. قد يكون ذلك المخيم نتيجة للمحادثات الأخيرة في واشنطن.

تستضيف هذه الدول الخمس في آسيا الوسطى أصلاً مئات آلاف اللاجئين الأفغان الذين هربوا من الحرب منذ التسعينات. نال بعضهم الجنسية وحصل البعض الآخر على صفة اللاجئين، لكن يفتقر الكثيرون حتى الآن إلى وثائق رسمية. هرب ملايين آخرون إلى إيران وباكستان. وتستقبل دول الاتحاد الأوروبي وكندا والولايات المتحدة أعداداً كبيرة من اللاجئين الأفغان أيضاً. وفي الفترة الأخيرة أصبحت تركيا، التي تُعتبر نقطة دخول نحو أوروبا، وجهة شائعة أخرى لهم. كذلك، تكون عملية نيل الإقامة الدائمة أو الجنسية عبر الاستثمار سهلة نسبياً هناك، وقد أصبحت من العوامل التي تدفع الأفغان إلى اختيار تركيا كوجهة للهجرة، فضلاً عن الجوانب الثقافية المشتركة.

منذ أن غادرتُ أفغانستان في العام 2013، هاجر عدد كبير من زملائي الأفغان إلى دول أخرى بعدما كانوا يعملون كموظفين محليين مع الأمم المتحدة. وبدأ المتبقون يوضبون حقائبهم الآن بعدما سيطرت عليهم مشاعر القلق. أخبرني أحد زملائي السابقين بأنه قطع عشر ساعات براً إلى كابول في الأسبوع الماضي استعداداً لنقل عائلته إلى تركيا. هاجر عشرات من أصدقائه حديثاً إلى تركيا أيضاً. بحسب رأيه، أصبح معدل الهجرة مرتفعاً لدرجة أن تتطلب معاملات التأشيرات مدة طويلة قد تصل إلى ثلاثة أشهر. تنشغل سفارات أخرى أيضاً بعدد هائل من طلبات نيل التأشيرة.

من المنطقي أن تمعن هجرة الأدمغة المستمرة من أفغانستان في إضعاف البلد. قررت فئة كبيرة من الطبقة المتعلمة والاحترافية مغادرة أفغانستان. ستتضح هذه الخسارة على مستوى الأجيال، إذ يدرك معظم الأفغان، الذين تلقوا تحصيلهم العلمي خلال إقامتهم السابقة في دول أخرى بصفتهم لاجئين، أن نقل عائلاتهم هو أفضل خيار لضمان سلامتهم وتعليم أولادهم.

ذكرت طالبة أفغانية شابة في الجامعة الأميركية في آسيا الوسطى أن عائلتها في أفغانستان تشعر بالقلق من غرق البلد في الفوضى. تتعدد التقارير الإخبارية اليومية التي تذكر أن حركة "طالبان" بدأت تستولي على مناطق جديدة. تقول تلك الطالبة: "إذا سألنا من يريد أن يغادر أفغانستان الآن، سيتوق البلد كله تقريباً إلى الرحيل باستثناء مناصري "طالبان". وحدها "طالبان" تظن أن الأفغان سيتمكنون من إعادة بناء بلدهم الآن بعد انتهاء الاحتلال الأجنبي".

عبّر جميع الأشخاص الذين أجريتُ معهم مقابلات قبل كتابة هذه المقالة عن اقتناعهم بحصول صراع على السلطة بين قوى الحكومة و"طالبان" قبل البدء بجهود إعادة البناء، إذا انطلقت تلك الجهود أصلاً. تتطلب إعادة البناء عوامل مثل السلام والقدرات الفائقة وأشخاص ماهرين، لكن بدأت هذه الفئة من الناس تغادر البلد الآن. يقول أحد المشاركين في المقابلات: "ستحاول الحكومة التمسك بالسلطة لكنها لن تصمد لفترة طويلة نظراً إلى ارتفاع أعداد مناصري "طالبان" داخل الإدارة والجيش. كذلك، تُعتبر "طالبان" أكثر جهوزية منها وتحظى بدعم جيش بلد مجــاور، ما يعنـــي أن الحكومة الراهنـة لن تتمكن من مقاومتها طويلاً".

كانت عذرا جعفري رئيسة بلدية ولاية "دايكندي" في إقليم المرتفعات الوسطى، وهي واحدة من الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة في مرحلة مبكرة. لا تزال جعفري ناشطة في السياسة الأفغانية ولطالما رفعت الصوت بشأن قضية الهزارة، فوجّهت رسالة إلى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لتسليط الضوء على مجازر الهزارة.

تشعر جعفري بالتشاؤم من الوضع الراهن وتتوقع أن تنشئ "طالبان" حكومة مؤلفة من البشتون حصراً. لا مكان للأقليات الوطنية الأخرى فيها، علماً أن الإدارة الراهنة أغفلت عن هذه الجماعات بدورها. هي تظن أن المجتمع الدولي يجب أن يبقى ويدعم الإصلاحات في أفغانستان، لا سيما اللامركزية وحقوق المرأة والأقليات. يشعر عدد كبير من الأفغان بأن المجتمع الدولي تخلى عنهم. برأيهم، سيكون الانسحاب الأميركي من البلد خاطئاً من دون عقد صفقة كبرى لتقاسم السلطة بين الحكومة الأفغانية وحركة "طالبان".

يخشى الخبراء أن تكون الحرب الأهلية السيناريو الأقرب إلى الواقع في أفغانستان: سيحارب أمراء الحرب "طالبان" مباشرةً، ما يعني الإمعان في تقسيم البلد وتعميق مظاهر الفوضى. إذا تحقق هذا السيناريو المريع، قد تواجه دول آسيا الوسطى تهديدات خطيرة على أمنها، إلى جانب أزمة اللاجئين. قد تجد "طالبان" مؤيدين لها وسط سكان آسيا الوسطى الذين سافروا إلى سوريا للانضمام إلى تنظيم "داعش"، وقد تصبح "طالبان" مصدر إلهام للشباب المُحبَط، لا سيما الفئة التي تلقت تعليماً إسلامياً.

يجب أن تتمنى المنطقة والمجتمع الدولي الأفضل لهذا البلد طبعاً، لكن يُفترض أن يستعد الجميع للأسوأ أيضاً. سبق وبدأت الجهود المرتبطة بتحقيق هذه الغاية منذ الآن. أطلق "مركز الأمم المتحدة الإقليمي للديبلوماسية الوقائية لمنطقة آسيا الوسطى" اجتماعات بين وزراء خارجية دول المنطقة، ويُفترض أن تستمر هذه اللقاءات لتسهيل تنسيق الجهود وتوجيه تحذير مبكر من وقوع أزمة محتملة. أصبح الأمن في آسيا الوسطى جزءاً من مهام "منظمة الأمن الجماعي" و"منظمة شنغهاي للتعاون" و"منظمة الأمن والتعاون في أوروبا"، ويجب أن تؤدي هذه الأطراف دوراً بنّاءً في هذا المجال. كذلك، يجب أن يفرض المجتمع الدولي ضغوطاً قوية لتطبيق إصلاحات شاملة وإعادة بناء أفغانستان لتجنب نشوء أزمة كبرى قد تتجاوز الحدود الأفغانية.

رغم جميع الاضطرابات والاتهامات المتبادلة في كابول ورغم الأزمات التي تلوح في الأفق، حصل القادة الأفغان على وقت كافٍ وموارد كافية لتغيير بلدهم وإضعاف شعبية "طالبان" وفكرها الإيديولوجي. لقد اتضحت حقيقة الوضع هناك منذ فترة. بالنسبة إلى بلدٍ صغير حصل على أكثر من تريليون دولار كدعمٍ عسكري واقتصادي، لم يثبت القادة المحليون إلا قدرتهم على ترسيخ مظاهر الفساد. في النهاية، من الواضح أن أفغانستان أهدرت فرصة تغيير نفسها. فيما يتجه البلد للعودة إلى النزعة القبلية التي استغلتها الدول المجاورة لوقتٍ طويل، يبدو مستقبله قاتماً بمعنى الكلمة.


MISS 3