غسان حاصباني

جريمة لا تُغتفر ضد الإنسانية

4 آب 2021

02 : 00

مرفأ بيروت (رمزي حاج)

حدث لاإنساني، على مستوى الإنسانية، يُبرز حجم الضرر الذي يمكن أن تحدثه التجارة العالمية غير الشرعية عندما تلتقي مع الفساد، وسوء الإدارة والإرهاب والأعمال العسكرية خارج نطاق الشرعية، في دولة فاشلة.

نترك للتحقيقات أن تكشف الحقيقة من دون أن نتكهن، لأنها جريمة بشعة في أحسن الاحتمالات وأسوأها على حد سواء. إنها جريمة ضد الإنسانية، إن كان عن قصد أو إهمال، برهنت على أن العالم ما زال غير قادر على منع حدوث كوارث كبيرة من صنع الانسان مثل كارثة تشيرنوبيل التي حدثت جراء قلة الصيانة الحاصلة على مفاعل الطاقة النووية قبيل تفكك الاتحاد السوفياتي، أو الفلتان الرقابي والإداري والأمني الحاصل خلال انهيار الدولة اللبنانية.

فما حصل في مرفأ بيروت هو تراكمات من الإهمال والفساد والتفلّت الأمني استفادت منه التجارة غير الشرعية والأيدي المخرّبة، وألقت بحمولة في مرفأ بيروت لا تستقبلها دولة تحترم نفسها، بينما كان لبنان يتخبط بالنزاعات الداخلية والفراغ الرئاسي وحكومة وزراء ملوك أداروا الفراغ لمدة طويلة، والفوضى تعمّ الإدارة المحسوبة على جهة من هنا وجهة من هناك. فسلسلة الذين كان لهم دور ليمنع حصول أمر مثل هذا طويلة، من إدارة المرفأ من ناحية السلامة العامة الى القضاء من ناحية قرارات التعويم والتخزين، الى الجمارك والقوى الأمنية والعسكرية الى الإدارات ووزارات الوصاية، ومن كان لديه علم بهذا الموضوع.

فشل الدولة ليس تعبيراً تقنياً بل هو واقع كلفته حياة الناس وأرزاقهم. لا شك أن الخسائر المادية المباشرة أحصيت بمئات الملايين والكلفة الاقتصادية غير المباشرة وصلت الى المليارات من الدولارات، لكن الكلفة الأهم هي الإنسانية التي لا تعوض الا بتحقيق العدالة كاملة من خلال كشف الحقيقة ومحاكمة المسؤولين والمقصرين والمتواطئين. هناك شهداء وشهداء أحياء مصابون لمدى الحياة، لا يمكن ان يعوض عليهم الا بتحقيق العدالة.

إضافة الى الضرر الذي لحق بالمنازل وهجّر الناس من أحيائها، هناك ضرر كبير حصل بالمؤسسات التربوية والصحية والتجارية والكنسية. هذه المؤسسات التي تشكل جزءاً أساسياً في الحياة اليومية في الرقعة الأكثر تأثراً بالانفجار، تحديداً الرميل والمدور ومار مخايل والصيفي والأشرفية والجعيتاوي والكرنتينا. مؤسسات وجدت منذ القرن الثامن عشر أو قبل، منها كاتدرائيات وكنائس ومساجد ومستشفيات. فالمستشفيات الأكثر تضرراً مثل مستشفى القديس جاورجيوس (الروم)، والوردية والجعيتاوي، والكرنتينا التي تشكل مجموع ما يقارب 850 سريراً استشفائياً عدا أسرّة العناية الفائقة والطوارئ وغرف العمليات، إضافة الى مستشفيات أخرى، ومدارس القلب الأقدس (الفرير)، والثلاثة أقمار، والبشارة، والحكمة وزهرة الإحسان وغيرها من المدارس التي بدت شبه مدمرة وهي كانت تستقبل أكثر من 5000 طالب وطالبة إضافة الى آلاف المؤسسات التجارية الصغيرة والمتوسطة الحجم ما عدا الكبيرة. لم تكن الخسارة مقتصرة على الأضرار المادية بل على استمرارية الحياة في هذه المنطقة من بيروت وعلى البيئة الاجتماعية التي عاشت حروباً ومجاعات كثيرة منذ نشأتها في القرن السابع عشر، لكنها لم تر دماراً شاملاً مثل هذا الدمار الذي طاول مقومات المجتمع المحلي في هذه البقعة من بيروت.

بغض النظر عما إذا كان الهدف تخريبياً أم تهريبياً لبضائع، فدور المنظومة الإدارية والأمنية والقضائية أن تعمل بتنسيق واستقلالية عن بعضها البعض للحفاظ على التدقيق والمحاسبة وفصل المسؤوليات، لتمنع حدثاً، مثل هذا، من الحصول. وعلى الرغم من وجود كل هذه المؤسسات، حصل ما حصل، فهل كل هذا سببه تراكمات من الصدف وسوء الإدارة وتفكك المؤسسات؟ أم هناك تواطؤ وتدبير أثّر في مكان ما حتى وصلنا إلى ما وصلنا اليه؟ هذه هي الأجوبة التي يطمح اللبنانيون للحصول عليها كخطوة أولى نحو تحقيق العدالة. فهذا الموضوع ليس اغتيالا لشخصية أو عملاً حربياً بل جريمة لا تغتفر، ضد الإنسانية.


MISS 3