عصر "ديموقراطيات الزومبي"

02 : 00

خلال العقد الماضي، أتقن الحكام المستبدون حول العالم تقنية الديموقراطية "المدروسة" أو "الموجّهة". في بيلاروسيا، وروسيا، وأوغندا، وفنزويلا وأماكن أخرى، أجرى القادة المستبدون انتخابات دورية لتعزيز شرعيتهم، لكنهم احتكروا في الوقت نفسه وسائل الإعلام، وقمعوا المجتمع المدني، وتلاعبوا بمؤسسات الدولة ومواردها لضمان بقائهم في السلطة.

لكن لا تكون هذه الأساليب مثالية دوماً وقد تراجعت فعاليتها تزامناً مع زيادة حكمة المواطنين وتعلّمهم كيفية التعامل مع الأنظمة الفاسدة. نتيجةً لذلك، اضطر عدد متزايد من الحكام المستبدين للاتكال على أشكال أكثر حدة من القمع: هم يتابعون تنظيم انتخابات دورية لأن شعوبهم تتوقع منهم ذلك، لكنهم لا يأخذون عناء التظاهر بأن تلك الطقوس الفارغة حرّة أو عادلة. لهذا السبب، تكاثرت "ديموقراطيات الزومبي" التي تشير إلى أنظمة سياسية انتخابية حية وميتة يمكن التعرّف عليها ظاهرياً لكنها فارغة من أي مضمون.

تزامناً مع انتقال الحكام المستبدين من الديموقراطية المدروسة إلى ديموقراطية الزومبي، يجب أن يتطور مناصرو حقوق الإنسان أيضاً. تمكّن هؤلاء سابقاً من التصدي للديموقراطية المدروسة عبر مهاجمة تقنيات استبدادية معينة، مثل قمع المجتمع المدني أو اعتقال الصحافيين، لكنهم مضطرون اليوم لمحاربة ديموقراطية الزومبي عبر مقاربة ذات طابع صدامي لتجريد الحكام المستبدين من الشرعية التي يسعون إليها عبر التمثيليات الانتخابية.

ديموقراطيات الزومبي تتسلل إلى مختلف زوايا العالملا تزعم الأنظمة الدكتاتورية التقليدية أنها تحاول نشر الديموقراطية. حتى أن أوساط الحزب الشيوعي الصيني، والأنظمة المشابهة في كوبا وكوريا الشمالية وفيتنام، أو الحكومات الاستبدادية الواضحة في آسيا الوسطى بعد الحقبة السوفياتية (كازاخستان، تركمانستـــــــــان، أوزبكستان)، لا تأخذ عناء إجراء انتخابات وطنية مباشرة. كذلك، عمدت أنظمة استبدادية أخرى إلى إسقاط حكوماتها المُنتَخبة والاستغناء عن الديموقراطية بالكامل. أقدم المجلس العسكري في ميانمار مثلاً على قتل مئات المحتجين واعتقال الآلاف منذ استيلائه على السلطة في شهر شباط الماضي.

لكن في عدد متزايد من الدول، عمدت الحكومات إلى إخفاء حُكمها الاستبدادي تحت غطاء الديموقراطية قبل أن تكشف عن حقيقتها في السنوات الأخيرة. تُعتبر روسيا خير مثال على ذلك، فقد انتقلت إلى مصاف ديموقراطيات الزومبي بسبب محاولات زعيم المعارضة ألكسي نافالني الالتفاف على الديموقراطية المدروسة التي يطبّقها الكرملين. لطالما سيطر الكرملين على المعارضة عبر التلاعب بالرأي العام من خلال الهيمنة على التلفزيون الحكومي ووسائل إعلام أخرى. لكن نجح نافالني في التهرب من قيود موسكو عبر إنتاج أعمال وثائقية حذقة عن الصفقات الفاسدة التي عقدها الرئيس فلاديمير بوتين، فحصدت تلك الفيديوات عشرات ملايين المشاهدات على يوتيوب.

اتخذت المجر مساراً مختلفاً نحو تبنّي ديموقراطية الزومبي. سيطر رئيس الوزراء فيكتور أوربان على معظم وسائل الإعلام المحلية، بعد وصوله إلى السلطة للمرة الثانية في العام 2010، واستبدل القضاة المستقلين بأسماء من اختياره، وفرض قيوداً على جماعات المجتمع المدني، وتلاعب بالدوائر الانتخابية، واستعمل الأموال العامة للحفاظ على أغلبية واسعة في البرلمان. لكن بدأت استراتيجية أوربان تفشل في العام 2019، حين خسر حزبه الانتخابات المحلية في عدد من المدن الكبرى. اليوم، يواجه أوربان احتمال خسارة حزبه خلال الانتخابات البرلمانية في السنة المقبلة أمام المعارضة الموحّدة، لذا يحاول الآن فرض سيطرة حزبه على الدولة بغض النظر عن هوية أعضاء الحكومة. استولى حزبه بهدوء على المجالس التي تدير عدداً كبيراً من مؤسسات الدولة، وبدأ ينشئ مؤسسات خاضعة لأعوانه للسيطرة على جزء كبير من موارد الدولة والعمل تحت إشراف السلطة التشريعية.

ترسخت ظاهرة ديموقراطية الزومبي أيضاً في أميركا اللاتينية، لا سيما فنزويلا ونيكاراغوا. بعد خسارة الحزب الحاكم بقيادة الزعيم الفنزويلي نيكولاس مادورو في الانتخابات البرلمانية في العام 2015، استعمل هذا الأخير نفوذه في الهيئات الانتخابية والقضائية لمنع إجراء أي انتخابات حرة أو نزيهة مستقبلاً. سمحت المحكمة العليا لمناصري الحكومة بمهاجمة أحزاب المعارضة، واعتقلت قوى الأمن قادة المعارضة واعتدت على مناصريهم منعاً لانتصار هذا المعسكر. ورداً على الضغوط الدولية، عيّنت حكومة مادورو حديثاً مسؤولَين على صلة بالمعارضة في المجلس الانتخابي الوطني، لكن لم يتضح بعد إلى أي حد سيُحسّن هذا التنازل الظروف الانتخابية.

لم تَنْجُ منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا من آفة ديموقراطيات الزومبي أيضاً. بعد خسارة حكومة الائتلاف التابعة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الانتخابات البلدية في العام 2019 أمام مرشحين من تحالف المعارضة، صعّد أردوغان هجومه ضد الحزب الموالي للأكراد الذي دعم مرشّحي ذلك التحالف، فأقال رؤساء البلدية التابعين له واعتقلهم، وسمح برفع قضية لحل الحزب، وضاعف جهوده لمنع رئيسه الكاريزماتي السابق، صلاح الدين دميرتاش، من مغادرة السجن حيث أمضى آخر أربع سنوات ونصف. وفي ظل تراجع الدعم الشعبي، حاول أردوغان إضعاف وسائل الإعلام المستقلة وفرض سيطرته على المحاكم. كذلك، يبدو أن كتلته تستعد لتعديل التشريعات المرتبطة بالانتخابات والأحزاب السياسية من دون استشارة الأطراف الأخرى، ما يزيد الشكوك بنزاهة الانتخابات في العام 2023.

نقطة ضعف الحاكم المستبد

أصبحت مشكلة ديموقراطيات الزومبي حادة لدرجة أن تحتاج الحكومات الملتزمة بنشر الديموقراطية الحقيقية إلى استراتيجية لمعالجتها. طوال عقود، كان الرد النموذجي على الديموقراطيات المدروسة يقضي بمهاجمة أدوات التلاعب الانتخابي، واحدة تلو الأخرى، من خلال رفض الرقابة، أو معارضة تقييد المجتمع المدني، أو الدفاع عن حقوق مرشّحي المعارضة، لحث تلك الحكومات مجدداً على السماح بتوسيع المشاركة المدنية، وتحرير وسائل الإعلام من القيود، وترسيخ استقلالية القضاء، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة.

لكن يتطلب التصدي لديموقراطيات الزومبي مقاربة شاملة من نوع آخر. لم يعد قادتها يحاولون التحكم بالرأي العام بل إنهم يفضلون سحقه. لكن حتى أسوأ ديموقراطيات الزومبي تتكل على درجة معينة من الإجماع الشعبي، بما في ذلك الإجماع التي ينشأ بالإكراه. هذا الجانب يعطي كل من يحاول نشر الديموقراطية بصدق ورقة ضغط فعالة.

يُفترض أن تتابع الولايات المتحدة والديموقراطيات الأخرى التي تحمل العقلية نفسها رفض الرقابة وتكتيكات مسيئة أخرى تستعملها ديموقراطيات الزومبي لإسكات منتقديها، وحتى المكائد السياسية والقانونية التي تلجأ إليها لإفراغ الديموقراطية من معناها. كذلك، يجب أن تتوقف تلك الأطراف عن دعم قادة ديموقراطيات الزومبي عبر المساعدات العسكرية الأميركية، أو بيع الأسلحة إلى عبد الفتاح السيسي، أو عبر تقديم إعانات الاتحاد الأوروبي إلى فيكتور أوربان.

لكن يُفترض أن تتخذ الدول التي تسعى إلى نشر الديموقراطية بصدق خطوة أخرى وتستهدف الجوانب التي تؤلم قادة ديموقراطيات الزومبي، أي فضح مظاهر الفساد والتعامل الذاتي التي تضمن صمود أنظمتهم. وبما أن ديموقراطيات الزومبي لم تعد تثق بدعم الرأي العام الذي تتلاعب به، باتت أكثر اتكالاً على المحسوبيات في الجيش والقطاع الخاص لترسيخ حُكمها. لكن نادراً ما يؤمن الجنرالات والأوليغارشيون بديموقراطية الزومبي، إذ يجب شراء الولاء دوماً عبر استغلال الأموال العامة التي تشكّل نقطة ضعف الحاكم المستبد.

على صعيد آخر، يجب أن تُسلّط الحكومات الديموقراطية الضوء على الطرق التي تسمح لقادة ديموقراطيات الزومبي بتحقيق مصالحهم الخاصة على حساب الرأي العام. سمح السيسي وأوربان بتصدّع المستشفيات الحكومية مقابل دفع المال لأعوانهم. وسمح الكرملين لأصدقائه الأوليغارشيين الأثرياء بالازدهار تزامناً مع تخفيض معاشات التقاعد وتجميد الرواتب. ودفع نيكولاس مادورو رواتب الجيش فيما يواجه شعب فنزويلا أزمة إنسانية كبرى. يمكن توجيه انتقادات مماثلة إلى معظم قادة ديموقراطيات الزومبي.

للأسف، فوّت الرئيس الأميركي جو بايدن فرصة مهاجمة بوتين على خلفية ممارساته الفاسدة خلال القمة التي جمعت الزعيمَين في جنيف في شهر حزيران الماضي. أعلن بايدن لاحقاً أنه تكلم مع بوتين عن "انتهاك حقوق الإنسان". لكن باستثناء التكلم عن ألكسي نافالني بطريقة عابرة، لم تُطرَح أي تسجيلات علنية لما قاله. بعبارة أخرى، لم يستطع الشعب الروسي أن يسمع بايدن وهو ينتقد بوتين وأصدقاءه الأوليغارشيين لأنهم اغتنوا عبر الاستيلاء على موارد الدولة ثم أفرغوا الديموقراطية من مضمونها كي لا يتعرضوا للمحاسبة على أفعالهم.

كان بايدن أكثر براعة في تسليط الضوء على فساد الحكومة الكوبية بعد اندلاع احتجاجات منادية بالديموقراطية في أنحاء البلد في وقتٍ سابق من هذا الشهر. فاتهم حكام كوبا المستبدين علناً بجمع الثروات بدل حماية الشعب من الوباء ومن مظاهر القمع والمعاناة الاقتصادية القائمة منذ عقود. يؤثر هذا النوع من الانتقادات اللاذعة على المواطنين في الدول الاستبدادية أكثر من ملاحظة عابرة عن "حقوق الإنسان" في المجالس الخاصة.

لإضعاف ديموقراطيات الزومبي، تقضي أفضل طريقة بإثبات لامبالاة القادة بالشعب. يستطيع الحكام المستبدون اللجوء إلى الأساليب الوحشية للتمسك بالسلطة طبعاً، لكن تبقى هذه اللعبة محفوفة بالمخاطر. وحتى أقوى الحكام الدكتاتوريين يجدون صعوبة في الصمود حين ينقلب الشعب بالكامل ضدهم. لتسريع هذه العملية، يجب أن يشدد بايدن وقادة ديموقراطيون آخرون على نزعة قادة ديموقراطيات الزومبي إلى التخلي عن شعوبهم في خضم سعيهم إلى التمسك بالسلطة.


MISS 3