لماذا تقبّل دكتاتور تركي سابق خسارته للانتخابات؟

02 : 01

عصمت إينونو في مؤتمر حزب الشعب الجمهوري في أواخر الثلاثينيات
هل سيسمح الرئيس رجب طيب أردوغان لنفسه بخسارة أي استحقاق انتخابي؟ وهل تضمن الضغوط التي يمارسها حلفاء تركيا الغربيون هذه الخطوة؟ يُعتبر هذان السؤالان من الأسئلة الأكثر إلحاحاً بالنسبة إلى المحللين السياسيين الأتراك خلال السنوات التي تسبق الانتخابات الرئاسية التركية في العام 2023، وهما يعكسان أيضاً أسئلة عالقة أخرى حول أصل الديمقراطية التركية منذ 71 سنة. رغم مراجعة هذا التاريخ، لا يمكن إطلاق توقعات محددة، لكن قد يصبح تحديد التحديات الكبرى التي تواجهها تركيا اليوم ممكناً.

في العام 1950، أجبر الرئيس التركي عصمت إينونو المعارضة داخل حكومته على الانسحاب لإجراء انتخابات حرّة ومتعددة الأحزاب، بعد عشر سنوات تقريباً على استلامه حُكماً استبدادياً مطلقاً من مصطفى كمال أتاتورك. كان يتوقع تحقيق الفوز. لكن حين خسر في ذلك الاستحقاق، رفض عروضاً من أجهزته الأمنية بتغيير النتائج وفضّل التنحي بكل بساطة. غداة الحرب العالمية الثانية، حين كانت الأنظمة الدكتاتورية الفاشية تحكم شبه الجزيرة الإيبيرية والأنظمة الدكتاتورية الشيوعية تحكم شرق أوروبا، بدا هذا النوع من الحنكة السياسية الليبرالية لافتاً بمعنى الكلمة. تزداد أهمية ذلك الحدث أيضاً بالنسبة إلى من اختبروا وحشية سياسات إينونو، منهم سكان القرى الأكراد الذين واجهوا مجزرة "ديرسم" في العام 1938، أو مسيحيو اسطنبول الذين تعرضوا للنفي بعد امتناعهم عن دفع ضريبة الثروة في العام 1942.

لم يتردد أردوغان يوماً في انتقاد إينونو، فاعتبره فاشياً ثملاً وكان يتكلم دوماً عن شاربه الذي أطلقه منذ سنوات ويشبه بكل وضوح شارب هتلر. من وجهة نظر أردوغان، يُعتبر إينونو أسوأ مثال في نظام أتاتورك لأنه كان يلوّح بالاستبداد والعلمانية لكن من دون أن يتمتع بالهالة البطولية والوطنية التي عُرِف بها مصطفى كمال أتاتورك. كذلك، يبدو التناقض الشخصي بين الرجلَين صادماً. أردوغان رجل طويل القامة وكاريزماتي ويفتخر بأصوله الريفية. أما إينونو، فكان رجلاً قصيراً وسَمَعه ضعيف وقد وضعه عدد كبير من نظرائه الأوروبيين في مصاف رجال الدولة الأذكياء ورفيعي المستوى.

وصل إينونو إلى السلطة بصفته دكتاتوراً ورحل منها كديموقراطي. أما أردوغان، فقد وصل إلى السلطة كديموقراطي لكنه يتخذ الآن مساراً معاكساً. ستُحدد السنوات القليلة المقبلة إلى أي حد يبدي أردوغان استعداده لتبني أفضل أو أسوأ مزايا الرجل الذي يكرهه.

زعيم من النوع المناسب

في العام 1947، دعا الرئيس هاري ترومان الكونغرس إلى إعانة تركيا واليونان لمساعدة البلدين على مقاومة تهديدات التوسع السوفياتي. وصف الرئيس في خطابه الذي أصبح ركيزة لعقيدة ترومان الشهيرة اليونان باعتبارها ديموقراطية غير مثالية وعبّر عن تحفظات عدة بشأنها. في المقابل، كانت تركيا "دولة مستقلة وقوية اقتصادياً" واعتُبِر مستقبلها "مهماً بالنسبة إلى شعوب العالم التي تحب الحرية".

في نهاية الحرب العالمية الثانية، ذكر كلام أتاتورك في دليل معاصر للجنود الأميركيين أفضل تعريف للموقف الأميركي الطاغي تجاه إينونو: "اتهمه الكثيرون بالدكتاتورية. ومع ذلك، كان زعيماً قوياً من النوع المناسب". حين بدأت العلاقة الأميركية التركية، افترض المسؤولون الأميركيون أن هذا الوضع سيستمر إلى ما لانهاية ولم يعبّر أحد عن انزعاجه منه. وعندما أصبحت البرتغال، في عهد سالازار الدكتاتوري، عضواً مؤسساً لحلف الناتو في العام 1948، كان إينونو يملك جميع الأسباب التي تدفعه إلى اعتبار حكومته ديموقراطية بما يكفي للمشاركة في التحالف الغربي.

لكن حتى لو افترضنا أن إينونو تأثّر بالضغوط الأميركية، لم تمنحه واشنطن يوماً فرصة الشعور بتلك الضغوط. يصعب إيجاد أدلة على غياب ضغوط مماثلة، لكن لم تكشف سجلات وزارة الخارجية الأميركية بين العامين 1945 و1950 أي أمثلة على محاولة المسؤولين الأميركيين إقناع نظرائهم الأتراك بأهمية إجراء انتخابات حرة أو نزيهة لضمان حصولهم على الدعم الأميركي. بل إن المسؤولين في "حزب الشعب الجمهوري" بدوا واثقين من مواقفهم في المناسبات القليلة التي تطرقوا فيها إلى هذا الموضوع.

في كانون الأول 1948، تناقش عضو في البعثة العسكرية الأميركية مع ناجي بيركل، رئيس جهاز الأمن الوطني التركي، حول الشائعات التي تقول إن الولايات المتحدة تخلت عن الزعيم شيانغ كاي شيك بسبب تصرفاته غير الديموقراطية. لكن لَفَت الكولونيل الأميركي انتباه بيركل إلى ملاحظات يبديها بعض أعضاء المعارضة التركية ومفادها أن الولايات المتحدة ستدرك أن تركيا ليست ديموقراطية أيضاً وتتخذ خطوات مشابهة لسحب المساعدات الأميركية.

أجاب الكولونيل: "كان جواب ناجي مضحكاً. بما أن المساعدات مستمرة، يعني ذلك أن الولايات المتحدة مقتنعة بأن تركيا دولة ديموقراطية". ثم بدأ بيركل يفسر أن تركيا لا يمكن اعتبارها ديموقراطية قبل رفع مستوى التعليم فيها ولا يمكن تحقيق هذا الهدف قبل مرور سنوات عدة.

حين تقررت الانتخابات البرلمانية التركية في أيار 1950، توقع المسؤولون في وزارة الخارجية الأميركية والمحللون في وكالة الاستخبارات المركزية أن يلجأ إينونو مجدداً إلى تزوير الانتخابات وأسلوب الترهيب لتحقيق النصر. وفي المحادثات الخاصة مع إينونو حول التعاون التركي الأميركي خلال الأشهر التي سبقت الانتخابات، أوضح المشاركون الأميركيون أنهم يتوقعون استمرار تطور العلاقات الثنائية بلا رادع.

لا أجوبة واضحة

إذا لم تُجبِر الولايات المتحدة إينونو على الرضوخ لها إذاً، فما الذي دفعه إلى اتخاذ الخطوة التي يتعهد بها عدد كبير من الحكام الدكتاتوريين لكن لا يُطبّقها إلا قلة منهم؟ وهل يكشف هذا التوجه أي معلومة عن فرص التغيّر الديموقراطي في تركيا اليوم؟

اعتُبِر إينونو رجلاً "بتسعة ثعالب في رأسه"! لفهم دوافعه الحقيقية، من الضروري على الأرجح أن نسأل تلك "الثعالب" عن سبب ما حصل. لكن تَقِلّ التحليلات البارزة في هذا المجال.

اكتسب إينونو سمعته نتيجة تأييده لمشروع أتاتورك بصدقٍ يفوق معظم زملائه الثوريين. وفق إحدى القصص المتداولة، يقال إنه كان يسمع الموسيقى الكلاسيكية في خيمته خلال حملاته كي يتمكن من الاستمتاع بها. كذلك، تابع رفاق أتاتورك استعمال النصوص العثمانية في أوساطهم الخاصة بعد تعديل الأبجدية في العام 1928، لكنهم كانوا يخفون الملاحظات التي يكتبونها بخط اليد حين يعرفون أن إينونو قادم باتجاههم. على مستوى شخصي، ربما تعامل هذا الأخير مع خطاب أنصار أتاتورك حول الديموقراطية بجدية مفرطة وكان أكثر استعداداً لتقديم تضحيات حقيقية خدمةً لذلك الخطاب.


الرئيس مصطفى كمال أتاتورك ورئيس الوزراء عصمت إينونو / 16 حزيران 1936


الأهم من ذلك هو أن التغيير الديموقراطي في تركيا زاد سهولة بعد دحض الأفكار السياسية والإيديولوجية السابقة. كان جلال بايار الذي أصبح رئيس البلاد بدل إينونو، رئيس وزراء في عهد أتاتورك مثل إينونو. (سارعت صحف الحزب الديموقراطي إلى تذكير القراء بهذه المعلومة عبر طباعة صور أتاتورك وبايار في مناسبات كثيرة). وعلى غرار مؤسسي الحزب الديموقراطي الآخرين، كان عدنان مندريس نائباً في عهد إينونو خلال الأربعينات.

قبل إعطاء الإذن لبايار ومندريس لإنشاء حزب جديد، طلب إينونو ضمانات معينة للتأكد من استمرار دعمهما لسياسته الخارجية المعادية للسوفيات والدفاع عن مبدأ العلمانية. كذلك، أثبتت الحكومة الجديدة حرصها على التمسك بعدد من الجوانب الشائكة في النزعة القومية التي يتبناها أنصار أتاتورك.

كان من الأسهل على إينونو طبعاً أن يسلّم السلطة إلى حكومة مؤلفة من رجال يشاركونه الرؤية نفسها وكانوا قد خدموا البلد إلى جانبه في زمن الحرب والسلم. لكن نادراً ما تكون هذه العوامل كافية لإقناع الحكام الدكتاتوريين الآخرين بأنهم يستطيعون التخلي عن سلطتهم بلا مشاكل.

بعد مرور سنوات، سأل باحث اجتماعي أميركي إينونو عن ميله إلى إجراء الانتخابات رداً على الضغوط الأميركية. فقال إن ذلك القرار صائب بغض النظر عن السبب. عند النظر إلى تلك المعطيات اليوم، يمكن اعتبار هذا الجواب أفضل حُكْم ممكن على ما حصل.

إلـــــى أيـــــن؟

هل يمكن أن تتكرر الأحداث نفسها اليوم؟ تبدو الظروف القائمة في تركيا في العام 2021 مختلفة لدرجة أن تصبح المقارنة بين الحقبتَين صعبة. من الناحية الإيجابية، لا يتمتع أردوغان بسلطة استبدادية راسخة بقدر إينونو مع أنه بذل جهوداً فائقة لتحقيق هذا الهدف. كذلك، أنتجت الانتخابات التنافسية على مر سبعة عقود توقعات كبرى في أوساط الرأي العام وقد اضطرت المجالس العسكرية السابقة للرضوخ لها في نهاية المطاف. نتيجةً لذلك، قد لا يكون قرار احترام نتائج الانتخابات حكراً على أردوغان وحده، كما حصل مع إينونو.

لكن حتى لو كان الوضع مشابهاً، لا تبدو القواسم المشتركة ولا الاختلافات مع أحداث العام 1950 واعدة بشكلٍ خاص. لا تزال الولايات المتحدة ملتزمة بالديموقراطية في خطاباتها. لكن كانت حدود هذا الخطاب واضحة منذ الخمسينات أصلاً. وبعد عقود من الدعم الأميركي للأنظمة الدكتاتورية في الشرق الأوسط، من الأصعب اليوم أن يصدّق أي زعيم أن الانتخابات الحرة هي المطلب الأساسي لإقامة علاقات حسنة مع واشنطن. على غرار إينونو، يتقاسم أردوغان بكل وضوح رؤية عالمية قومية واسعة مع عدد كبير من خصومه السياسيين. لكنّ جهوده المتواصلة لشيطنتهم ووضعهم في مصاف الخونة وأعداء الأمة تعني أن هذا الوضع لن يكون إيجابياً بقدر ما كان عليه في حقبة الحرب الباردة.

في العام 1950، أبدى رجل ذو غريزة استبدادية راسخة التزاماً استثنائياً وتاريخياً وغير متوقع بالديموقراطية. ورغم الظروف المحلية والدولية المؤاتية نسبياً في تلك الحقبة، كان توقّع ما حصل مستحيلاً ولا يزال تفسير ذلك الحدث صعباً حتى اليوم. رغم غياب الأسباب التاريخية التي تدعو إلى التفاؤل، نأمل في أن يتصرف الرجل الذي يحكم تركيا اليوم بطريقة غير متوقعة أيضاً.


MISS 3