الصين لا تحاول السيطرة على الشرق الأوسط

02 : 01

شهدت السنوات القليلة الماضية تحولاً في معايير السياسة الخارجية الأميركية. لم يعد الشرق الأوسط على رأس أولويات واشنطن. خفّضت الولايات المتحدة عدد القوات الأميركية في العراق، وتعهد الرئيس الأميركي جو بايدن بالتركيز على عدد صغير من الأهداف في المنطقة. في ظل تنفيذ هذه الخطة، حذّر المحللون والصحافيون والقادة المُنتخَبون من حرص الصين على أخذ مكانة الولايات المتحدة في منطقة سيطرت عليها واشنطن لفترة طويلة. وفق هذا المنطق، يجب أن تتصدى الولايات المتحدة لقوة الصين العسكرية ونفوذها الاقتصادي وفكرها الإيديولوجي في الشرق الأوسط وأي أماكن أخرى، كي لا تصبح بكين بديلة عن واشنطن كقوة عظمى عالمية بارزة.

رغم انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، يظن بعض خبراء السياسة الخارجية الأميركية أن هذه المنطقة ستصبح جزءاً من ساحات المنافسة بين واشنطن وبكين. يذكر هؤلاء المحللون استثمارات الصين في المنطقة، واتفاقياتها التجارية الثنائية مع القوى الإقليمية، وقاعدتها العسكرية في جيبوتي، وعلاقاتها المتوسعة مع إيران، كدليل على التهديدات الجديدة والخطيرة التي يواجهها الأمن الأميركي. تماشياً مع هذا الرأي، اعتبر المحللان مايكل دوران وبيتر رو أن نزعة الصين "الوحشية" إلى التوغل في المنطقة تُعرّض الولايات المتحدة لفقدان السيطرة على النظام الدولي ككل.

لكن ترتكز هذه الادعاءات على أدلة هشة. لا تتأثر آراء الأميركيين حول الدور الصيني في الشرق الأوسط بسلوك الصين بحد ذاته بقدر ما تتأثر بتجربة واشنطن الخاصة هناك، وهي تجربة مبنية على التحالفات العسكرية والتدخل المسلّح. على أرض الواقع، لا توسّع بكين وجودها في هذه المنطقة لأنها ترغب في فرض هيمنتها بل تُحرّكها مخاوفها الاقتصادية وسياساتها المحلية. تشتق هذه السياسة التوسعية في معظمها من اتكال الصين على الوقود الأحفوري ورغبة البلد في حماية نفسه من الانتقادات الإقليمية المرتبطة بطريقة تعامله مع مسلمي الإيغور.

لا تُعتــــــبر استراتيجية الصين ثابتة بأي شكل، وقد تدفع أي كارثة اقتصادية عالمية أو انهيار جيوسياسي بالحزب الشيوعي الصيني إلى إعادة النظر بمقاربته الراهنة. لكن حافظت بكين على علاقاتها مع دول غارقة في صراعات داخلية وخارجية في آخر عشرين سنة، بما في ذلك أفغانستان وميانمار والسودان، ومن المتوقع أن تتابع الإغفال عن أعمال العنف والتقلبات السائدة في الشرق الأوسط. قد تصبح الصين القوة الطاغية في المنطقة فعلاً. لكن إذا تحقق هذا الأمر، فلن تدين بذلك إلى استراتيجية صينية كبرى بل إلى ابتعاد واشنطن البطيء لكن الثابت عن الشرق الأوسط.في آخر عشرين سنة، خصصت بكين نسبة كبيرة من وقتها ومواردها لبناء علاقات دبلوماسية وتجارية مع كبار اللاعبين في الشرق الأوسط. تَقِلّ الدول الأخرى التي تستطيع التفاخر بعلاقاتها الحسنة مع إيران، وإسرائيل، والمملكة العربية السعودية، ودول الخليج، ولا يزال هذا التوازن عنصراً أساسياً من استراتيجية بكين الإقليمية. حين قام شي جين بينغ بأول رحلة له إلى المنطقة كرئيس للجمهورية الشعبية في كانون الثاني 2016، وصل في البداية إلى السعودية حيث وقّع على شراكة استراتيجية شاملة بين بكين والرياض. ثم توجّه إلى طهران مباشرةً وأبرم اتفاقية مماثلة مع إيران. أما زيارة وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، إلى المنطقة في شهر آذار، حيث كرر أفكاراً مألوفة في خطابات السياسة الخارجية الصينية حول المشاريع المربحة لجميع الأطراف والاحترام المتبادل والحوار في الشرق الأوسط، فهي تشير إلى استمرار مقاربة "مصادقة الجميع" التي استفادت منها بكين.

يُعتبر النمو الاقتصادي المتسارع الدافع الحقيقي وراء توسّع الوجود الصيني في الشرق الأوسط. بين العامين 1990 و2009، زادت واردات الصين من نفط الشرق الأوسط بمعدل عشر مرات. وبين العامين 2019 و2020، أمّنت دول الخليج حوالى 40% من واردات الصين النفطية، منها 16% من المملكة العربية السعودية وحدها، ما يجعلها أكبر مورد للنفط الخام إلى الصين. كذلك، يُعتبر العراق الذي أنفقت فيه الولايات المتحدة تريليونات الدولارات لتغيير النظام من بين أكبر خمسة موردين للنفط إلى الصين، وتحتل إيران المرتبة الثامنة. من الواضح أن بكين تعتبر موارد الطاقة في هذه المنطقة أساسية لاستمرار نمو الصين وتوسيع نفوذها العالمي.

شأن داخلي

لكن لا تتمحور سياسات الصين حول النفط وحده. في النهاية، نجحت بكين في استعمال خليط من الدبلوماسية والاستثمارات الجديدة وتنويع السوق لتلبية الطلب المحلي المتزايد على الوقود الأحفوري. يدعم النفط الخام من الولايات المتحدة، والغاز الطبيعي من أستراليا، واستخراج الفحم المحلي، واردات الصين المتزايدة من الشرق الأوسط. كذلك، ستعوّض الاستثمارات في مجال الطاقة المتجددة عن جزءٍ من اتكال البلد على الهيدروكربونات.

بدل اعتبار الشرق الأوسط مجرّد مصدر للطاقة إذاً، تعتبر الصين علاقاتها في هذه المنطقة ضمانة ضد تهديد داخلي مختلف يتمثّل بنشوء حركة انفصالية وسط مسلمي الإيغور في إقليم شينجيانغ المستقل. بدأت بكين حملة القمع الوحشية ضد الإيغوريين في الصين غداة الاعتداءات الإرهابية التي استهدفت الولايات المتحدة في أيلول 2001، ثم صعّدت حملتها بعد موجة من الاعتداءات التي نفذها انفصاليون إيغوريون في الصين والدول المجاورة في العامين 2014 و2015. أعلن شي جين بينغ في العام 2019 أن "كل من يحاول تقسيم أي منطقة من الصين سيُسحَق بالكامل". استنتجت إدارتا ترامب وبايدن أن قمع بكين الوحشي للإيغوريين، بما في ذلك ممارسات الاعتقال التعسفي، والإخصاء القسري، والاغتصاب، والتعذيب، والسخرة، وفرض قيود صارمة على حرية الأديان، يدخل في خانة الجرائم ضد الإنسانية والإبادات الجماعية.

لطالما تمنى القادة الصينيون أن يمنعوا أي دعم خارجي للانفصاليين الإيغوريين ويكبحوا الشبكات الإسلامية العابرة للحدود من خلال توثيق علاقاتهم مع أنظمة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. رغم انتقادات واشنطن اللاذعة، يبدو أن توسّع بكين في الشرق الأوسط بدأ ينجح. بفضل الجهود الدبلوماسية المتواصلة وعمليات شراء الهيدروكربـــون والاستثمـــارات الكبرى، نجحـت بكين في منع الحكومـــات والمنظمات الدينية في الدول ذات الأغلبية المسلمة من تقديم أي دعم مادي وشفهي لشعب الإيغور، أو حتى انتقاد الخطوات المتطرفة التي اتخذتها بكين ضده. اعتبر عدد كبير من تلك الحكومات والمنظمات حملات القمع شأناً داخلياً. حتى أن البعض الآخر تعاون مع الصين ضد الناشطين الإيغوريين. ويقال إن المسؤولين في المملكة العربية السعودية وتركيا والإمارات العربية المتحدة استهدفوا الإيغوريين ورحّلوهم بطلبٍ من بكين.

الحـــــــــذر واجـــــــــب

يُفترض ألا تتلاشى مخاوف واشنطن من تحركات الصين في الشرق الأوسط لمجرّد أن سياساتها في هذه المنطقة تشتق في معظمها من اعتبارات محلية وسياسية. لا تزال القيادة الصينية ملتزمة بعصرنة الجيش وإنشاء منصات إسقاط القوة التي تستطيع التأثير على الشرق الأوسط. يمكن اعتبار المشاركة الصينية في فريق عمل مكافحة القرصنة في خليج عدن مثلاً بمثابة التزام بالتعاون الدولي. لكنّ الخبرة المكتسبة من هذه التجربة قد تساعد القوات الصينية البحرية على الاستعداد لأي مهام مستقبلية بعيداً عن الساحل الصيني.

كذلك، من الواضح أن بكين لا تعارض التحرك العسكري. خاضت الجمهورية الشعبية منذ تأسيسها في العام 1949 صراعات مسلحة مع جميع جيرانها تقريباً، بدءاً من الحرب الكورية في العام 1950 وصولاً إلى الاشتباكات الحدودية مع الهند. ولا يزال انتشار المعدات العسكرية الصينية في بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي ومضيق تايوان عاملاً مقلقاً بقدر محاولات بكين إضعاف المعايير والمؤسسات العالمية. مع ذلك، تَقِلّ الأسباب التي تنذر باتجاه القادة الصينيين إلى تطبيق المقاربة نفسها في الشرق الأوسط. لا تحبذ بكين البصمة الأمنية متعددة الأجيال التي تركتها واشنطن في أنحاء المنطقة. قد تؤدي هذه المقاربة المباشرة إلى إضعاف الإنجازات الاقتصادية والدبلوماسية التي حققتها الصين بحذر.

من الواضح أن الولايات المتحدة والصين تحملان مصالح مختلفة في الشرق الأوسط، لكن لا تثبت أي أدلة متاحة أن بكين تريد أخذ مكانة واشنطن في المنطقة. ستحاول القيادة الصينية تحقيق أهدافها بغض النظر عن رغبات واشنطن. وفي ظل هذه الظروف، من المستبعد أن يسعى الصينيون إلى خوض الصراعات، بل إنهم يفضّلون بناء علاقاتهم مع مجموعة من دول المنطقة لضمان وصولهم إلى النفط والأسواق. نتيجةً لذلك، سيتوسع هامش المناورة مع واشنطن سعياً لاكتساب النفوذ، فيما تتنقل القوى الإقليمية بين واشنطن وبكين على أمل ألا تضطر للاختيار بينهما. طالما يميل قادة الشرق الأوسط إلى تفضيل واشنطن، ستحافظ الولايات المتحدة على تفوّقها في هذه المنافسة. لكن إذا أصبح التخفيض العسكري الأميركي مرادفاً لانسحاب الولايات المتحدة من المنطقة، قد يبدأ هؤلاء القادة بالابتعاد عن هذا المحور. في هذه الحالة، قد تصبح الصين القوة الطاغية في الشرق الأوسط حتى لو لم تكن تحمل نية واضحة بتحقيق هذا الهدف.


MISS 3