لعبة اللوم في ملفّ أفغانستان

02 : 01

مقاتل من "طالبان" في مدينة غزنة، أفغانستان / 14 آب 2021
تزامناً مع كتابة هذه السطور أدت حملة "طالبان" الخاطفة إلى الاستيلاء على الأراضي الأفغانية والسيطرة على فيلق الجيش الأفغاني الخامس وما يملكه من معدات عسكرية تبرّع بها دافعو الضرائب الأميركيون بقيمة مليارات الدولارات. وبعدما كانت مدينة مزار شريف معقلاً معادياً لحركة "طالبان" وأول مدينة تسيطر عليها قوات الحلف الشمالي والولايات المتحدة في العام 2001، سقطت مجدداً بيد "طالبان" تزامناً مع هرب أمير الحرب المحلي والمعادي للسوفيات، عبد الرشيد دوستم. إنها نهاية مؤلمة لأزمة مدتها عشرون سنة.

بدأت لعبة اللوم تتوسع الآن لتطاول الأميركيين، لا سيما إدارتي دونالد ترامب وجو بايدن، على فشلهم في حماية حقوق المرأة في أفغانستان. قال الصحافي كيرت ميلز إن البريطانيين يجب ألا يلقوا المحاضرات على مسامع الأميركيين في المسائل العسكرية، وهو محق في موقفه. يرتبط كلامه بمقالة نشرتها صحيفة "إيكونوميست" التي يستحيل تصحيح مسارها بناءً على أدائها في آخر عشرين سنة. تلوم تلك المقالة الولايات المتحدة على عدم بذل جهود كافية: "في الحالة المثلى، ما كانت الولايات المتحدة لتسحب قواتها العسكرية مطلقاً. طوال سنوات نجح البلد، عبر بضعة آلاف جنود لم يتكبدوا خسائر بشرية كثيرة، في الحفاظ على وضع ثابت بين الحكومة الأفغانية و"طالبان" بفضل القوة الجوية بشكلٍ أساسي". يتحمل الرئيسان الأميركيان اللوم لأنهما أصغيا إلى رغبات معظم الشعب الأميركي: "أراد السيد ترامب بلوغ نهاية سريعة للانتشار العسكري القائم منذ عشرين سنة، وتمسّك الرئيس جو بايدن بهذا القرار الوحشي".

لكن لا أساس لهذا الادعاء طبعاً. لقد انهار الجيش الأفغاني فعلياً لأن أي جيش يحتاج إلى رؤية معينة للقتال. ما الذي قاتل الجيش الأفغاني في سبيله؟ تُعتبر قيم الديمقراطية والليبرالية غريبة في ذلك المكان، ويشعر معظم جنود المشاة على الأرجح بأنهم أقرب إلى "طالبان" وشرعيتها القاسية. لذا تبدو الدعوات إلى إبقاء خمسة آلاف جندي أميركي مضحكة بكل صراحة. لم يتكبد الجنود أي خسائر بشرية هناك بسبب استمرار المفاوضات وكان السلام موقتاً ويتوقف على انسحاب القوات الغربية. لو برز أي مؤشر الى إلغاء هذا الاتفاق، لكان الخيار الوحيد يقضي بتصعيد المواجهة ضد حملة "طالبان" الخاطفة والحتمية. لم يكن الوضع ليستقر يوماً في ظل بقاء خمسة آلاف جندي.

لكن لا تقتصر مواقف اللوم على صحيفة "إيكونوميست"، فقد لامت افتتاحية "وول ستريت جورنال" ترامب وبايدن على انهيار البلد، لا الجيش الأفغاني القوي والمؤلف من 300 ألف عنصر، فكتبت: "كان الرجلان مُصمّمَين على حصد إشادة سياسية واسعة لأنهما أرجعا القوات الأميركية إلى ديارها لدرجة أن يفشلا في مواجهة العواقب". اشتكى فريد كاغان من معهد "أميركان إنتربرايز" من الوضع على صفحات "نيويورك تايمز"، فكتب أن الولايات المتحدة اختارت عدم الدفاع عن أفغانستان، كما يفعل بيل كريستول على تويتر. الأغرب من ذلك هو أن يكتب رئيس "مؤسسة المجتمع المفتوح" افتتاحية حول الأسباب التي تدفعنا إلى متابعة الصراع ضد حركة "طالبان" الكارهة للنساء. لكن كيف يمكن تحقيق ذلك الهدف؟ كتب هذا الأخير: "يجب أن تدعم الحكومات المانحة والممولون من القطاع الخاص الجماعات الأفغانية المحلية والأفراد الذين يرفعون الصوت بكل شجاعة دعماً للحُكم الرشيد والقانون وحقوق الإنسان. تشمل هذه الأطراف جماعات نسائية، وصحافيين مستقلين، وعدداً من الأصوات التي تمثّل أقليات دينية وعرقية، ويجب أن تُطرَح آراؤهم جميعاً في أي مفاوضات بين الحكومة و"طالبان"". يصعب ألا يضحك كل من يسمع هذا الكلام عن "تمكين المرأة والمجتمع المدني" في ظل القوة الحقيقية المنتشرة على أرض الواقع.

لكن ماذا عن القادة الاستخباريين والعسكريين الأميركيين الذين كذبوا على الشعب الأميركي طوال عشرين سنة حين أعلنوا أن التغيير بات وشيكاً وأن سنة واحدة إضافية ستُحوّل أفغانستان إلى نسخة من الدنمارك؟ يسهل أن نتفهم الامتناع عن التكلم حول المصالح الاستراتيجية في القرن الواحد والعشرين وفي عصرنا الديمقراطي المتطور. لهذا السبب، لا يمكن اللجوء إلى الواقعية (أي الرؤية العالمية المحافِظة الضيقة التي تُحددها المصلحة الوطنية) ووضعها تحت مظلة الجهود الإنسانية، حتى أن السياسيين يتأثرون أحياناً بدوافع سياسية قهرية. اليوم تتعرّض أي سياسة واقعية منفصلة وغير أخلاقية وغير معنية بالمآسي الإنسانية (أي تخفيض الخسائر والانسحاب من أفغانستان في هذه الحالة) لضغوط شديدة نتيجة الاضطرار لاستعمال خطابات الليبرالية، ويبدو الفرق بين الموقفَين مضحكاً. لكن لطالما كانت مهمة الجيش والاستخبارات تقضي بإجراء تقييم مباشر والتكلم بصدق مع قادتهم وتنفيذ السياسات التي يحددها القادة المدنيون المُنتخَبون ديمقراطياً. لقد فشل قادة الجيش والاستخبارات الأميركية في هذه المجالات كلها.


جنود أميركيون يحرسون المطار الدولي في كابول / أفغانستان، 16 آب 2021


لكن كان يمكن تجنّب هذا الوضع. لا نتكلم هنا عن سيطرة "طالبان" على أفغانستان في نهاية المطاف، بل خسارة المعدات أو تريليونات الدولارات على وجه التحديد. كان الانسحاب من أفغانستان مُخططاً له منذ العام 2019، ثم تَحدّد التاريخ النهائي بحلول أيار 2021. حصل البنتاغون على عام ونصف للاستعداد لهذه المرحلة، لكنه عاد وأجّلها لأنه ظنّ أن الرئيس بايدن سيغيّر قرار ترامب. في أي بلد عادي، كان هذا الفشل غير المسبوق وقلة الكفاءة العسكرية ليترافقا مع عواقب حتمية. لا يمكن تصديق الفكرة التي تتوقع ترسيخ حقوق ليبرالية في أفغانستان، حيث يتبادل الحكّام الأفغان وآلاف الجنود الأماكن بكل بساطة. من المرعب إذاً أن يكون كل من يؤيد هذه الفكرة مقرّباً من أوساط السلطة في بريطانيا أو الولايات المتحدة.

تنطبق هذه الفكرة على "الحلفاء" أيضاً. يسهل أن نقول إن كل من يريد محاربة "طالبان" يستطيع بكل بساطة أن يشتري الأسلحة والذخائر ويذهب للمشاركة في الحرب الأهلية الأفغانية. لكن إذا كان أي بلد (الصين أو الهند أو بريطانيا والاتحاد الأوروبي) منزعجاً لهذه الدرجة من الانسحاب الأميركي، يستطيع الجميع التوجه إلى تلك الأرض وتجربة حظهم لبناء وطن أفغاني هناك. كان النظام العالمي الليبرالي المبني على دماء وأموال القوة الأميركية المُهيمِنة طوال عشرين سنة مسؤولاً عن ترسيخ نزعة القوى الأصغر حجماً إلى الاستخفاف بالتحالف مع الولايات المتحدة. إذا كان أي حليف يعتبر حراسة أفغانستان الدائمة بطريقة إمبريالية اختباراً لمصداقية البلد، فيمكن اعتبار ذلك الحليف غير منطقي ويجب أن يشكك الأميركيون في هذه الحالة بقيمة هذا الالتزام. لا يستطيع الحلفاء أن يحددوا الاستراتيجية الكبرى لأي قوة عظمى، مثلما لا يتسنى للمقاطعات أن تُحدد السياسة الخارجية للسلطة المركزية.

لكنّ الأسئلة الحقيقية التي تستحق أن نطرحها هي التالية: لماذا يهرب مئات آلاف الرجال الأفغان إلى أوروبا بدل حمل الأسلحة؟ ولماذا تتحمّل الولايات المتحدة أو الغرب أعباء ترسيخ الحُكم الرشيد أو "تمكين المرأة" في أفغانستان؟ تتعدد الأسباب التي تدفعنا إلى انتقاد ترامب أو بايدن، بحسب التوجهات السياسية التي يؤيدها كل طرف، لكنّ ضمان حقوق النساء في منطقة شبه إقطاعية يجب ألا يتحول إلى عبء على دافعي الضرائب الأميركيين، على حساب أموال الولايات المتحدة ودماء شعبها. نشر الرئيس بايدن بياناً طويلاً، لكن يتمحور فحوى موقفه حول عدم اعتبار هذه الأهداف من مسؤولية الغرب أو جزءاً من الأعباء التي يجب أن يتحملها.

قال بايدن: "على مر حربنا في أفغانستان طوال عشرين سنة، أرسلت الولايات المتحدة أفضل شبّانها وشاباتها، واستثمرت حوالى تريليون دولار، ودرّبت أكثر من 300 ألف جندي وشرطي أفغاني، ومنحتهم معدات عسكرية متطورة، وأبقت قوتها الجوية هناك كجزءٍ من أطول حرب في تاريخ الولايات المتحدة. ما كان إبقاء الجيش الأميركي لسنة إضافية أو خمس سنوات أخرى ليُحدِث أي فرق إذا كان الجيش الأفغاني يعجز عن الحفاظ على تماسك بلده أو لا يبدي استعداده لفعل ذلك". هو مُحِق في كلامه. لا يمكن ترسيخ المشاعر الليبرالية وروح القتال القومي في مناطق تقتصر على الولاء للقبائل. لن تصبح بعض الأماكن ليبرالية أو ديمقراطية يوماً من دون قرون من الاستعمار. ها قد اتّضحت إذاً عواقب الأوهام القائمة منذ ثلاثين سنة حول طبيعة البشر والجغرافيا والتاريخ والثقافة في جبال أفغانستان المُغبِرة.

* الدكتور سومانترا مايترا خبير في مجال الأمن القومي في "مركز المصلحة الوطنية"، ومسؤول غير مقيم في مركز "جيمس ج. مارتن"، ومؤرخ مُنتخَب في "الجمعية التاريخية الملكية".


MISS 3