أفضل طريقة للتحقيق في أصل "كوفيد - 19"

02 : 00

بعد مرور أكثر من سنة ونصف على انتشار وباء كورونا العالمي الذي أسفر عن وفاة أربعة ملايين شخص على الأقل، لا يزال العالم يتجادل حول نظريتَين متضاربتَين بشأن أصل فيروس كورونا الجديد الذي يُسبب مرض "كوفيد - 19". وفق الفرضية الأولى التي لا تزال الأكثر شيوعاً حتى الفترة الأخيرة، انتقل الفيروس من الحيوانات إلى البشر خلال عملية انتشار طبيعية.

تكررت حالات نقل العدوى من الحيوانات إلى البشر على مر التاريخ. ورغم عدم تحديد الحيوان المسؤول عن هذا الوباء، تبرز أدلة مفادها أن الفصيلة المذنبة كانت تُباع في أسواق لحوم الحيوانات في مدينة "ووهان" الصينية وقد التقطت فيروس كورونا الجديد من خفاش ثم نقلته إلى البشر.

أما الفرضية الثانية، فتتعلق بتسرّب فيروس كورونا من أحد المختبرات عن طريق الخطأ. اعتُبرت هذه الفكرة في المرحلة الأولى جزءاً من نظريات المؤامرة، لكنها عادت واكتسبت زخماً متزايداً بعد صدور عدد من التقارير الإخبارية الجديدة. سُجّلت أولى حالات "كوفيد-19" في مدينة "ووهان" التي تشمل "معهد ووهان لعلم الفيروسات"، وهو مختبر صيني معني بالمخاطر البيولوجية ويخضع لأكثر التدابير الأمنية تشدداً وتتمحور أبحاثه حول فيروس كورونا. كذلك، تُعتبر "ووهان" مدينة صاخبة يقيم فيها أكثر من عشرة ملايين نسمة، وليست موطناً طبيعياً لمستعمرات الخفافيش حيث يمكن رصد فيروسات كورونا.

تبدو هاتان الفرضيتان منطقيتَين لكن لا يمكن إثبات أي منهما لأن الصين رفضت حتى الآن إجراء تحقيق مكثف ومستقل من جانب منظمة الصحة العالمية على الأراضي الصينية. ساهمت التقارير الاستقصائية وتحليلات الباحثين والافتتاحيات الصحافية التي تحمل توقيع علماء بارزين في إعادة إحياء نظرية تسرّب الفيروس من المختبر، لكن من المستبعد أن تعطي جواباً حاسماً حول أصل الفيروس أو تقنع المعسكر الذي لا يبدي استعداده لتصديق هذه الاستنتاجات. في وقتٍ لاحق من هذا الشهر، ستصدر نتائج تقييم استخباري امتد على تسعين يوماً وكان قد طلبه الرئيس الأميركي جو بايدن في شهر أيار الماضي، ومن المتوقع أن يسلّط الضوء على جوانب أخرى من هذه المسألة. لكن من المستبعد أيضاً أن ينتهي الجدل حول سبب تفشي الوباء لأن الدول الأخرى والمؤسسات متعددة الأطراف ستتعامل مع هذا التحقيق انطلاقاً من المنافسة القائمة بين الولايات المتحدة والصين. لن يتقبل الكثيرون خارج الولايات المتحدة استنتاجات التحقـيـق إذا لم يتأكدوا من استقلاليته.

في ظل غياب أي جواب نهائي، تتابع التوقعات والاتهامات المتبادلة بشأن أصل الفيروس إعاقة التعاون الدولي لإنهاء هذا الوباء، وهي تمنع تكثيف الاستثمارات في مجال مراقبة الأمراض العالمية وتحسين قدرات الاستجابة الضرورية لتجنب الوباء المقبل ورصده ومحاربته. بدل متابعة الضغط لإجراء تحقيق مستبعد عبر منظمة الصحة العالمية، من الأفضل أن تدعو الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى إجراء تحقيق علمي مستقل بقيادة تحالف من الأكاديميات الوطنية للعلوم. يجب أن يشمل هذا التحالف الأكاديمية الصينية للعلوم، والأكاديمية الوطنية الأميركية للعلوم، وأكاديميات علمية من دول أخرى. قد لا تنهي هذه المبادرة المنافسة القائمة بين بكين وواشنطن، لكنها تشكّل منصة لتكثيف التعاون واكتشاف أصل الفيروس، ما يسمح لصانعي السياسة والعلماء الأميركيين والصينيين بإعادة بناء التعاون التقني المطلوب لمنع أي أوبئة مستقبلية من هذا النوع. يمكن تحقيق هذا الهدف مثلاً عبر بناء الزخم اللازم لتشديد قواعد سلامة المختبرات العالمية أو عبر زيادة القيود المفروضة على تجارة الحيوانات البرية وأسواق بيع اللحوم.

عوائق أمام التحقيق

وصلت الجهود الدولية الرامية إلى التحقيق في أصل الوباء إلى طريق مسدود. دعا بايدن وقادة مجموعة الدول السبع الآخرون إلى إجراء تحقيق "مناسب وشفاف وعلمي بقيادة الخبراء" عبر منظمة التجارة العالمية، وقد التزم مديرها العام تيدروس أدهانوم غيبريسوس بإطلاق تحقيق مماثل.

لكن اعترضت الصين على جميع الدعوات إلى إجراء تحقيق فيها بشكلٍ قاطع. في الشهر الماضي، رفضت بكين خطة منظمة الصحة العالمية لمراقبة المختبرات في الصين وأعلنت أن المحققين يجب أن يبحثوا عن أصل الفيروس في الولايات المتحدة. قال تشاو ليجيان، المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية: "إذا كانت الولايات المتحدة شفافة ومسؤولة، فيجب أن تكون منفتحة بقدر الصين وتدعو الخبراء الدوليين فوراً إلى مختبر "فورت ديتريك" وأماكن أخرى في الولايات المتحدة لإجراء تحقيق مفصّل". في الأسابيع الأخيرة، ضاعفت وسائل الإعلام الصينية الحكومية مزاعمها واتهاماتها مُعتبرةً الولايات المتحدة مصدر الوباء.

ما لم تسمح الصين بإجراء تحقيق كامل، قد لا يتّفق العلماء (والحكومات) حول العالم على أصل الفيروس يوماً. يستطيع الصحافيون والخبراء تسليط الضوء على فرضية تسرّب الفيروس من أحد المختبرات. لكن ستعتبر بكين هذه السجلات مزيفة في مطلق الأحوال وترفض أي تحقيق إضافي داخل الصين على اعتبار أن منظمة الصحة العالمية سبق ونفت هذا الاحتمال في كانون الثاني 2021. قد يستنتج بعض العلماء والحكومات أن السجلات المرتبطة بتسرّب الفيروس حقيقية، لكن ستُصِرّ أطراف أخرى على عدم وجود طريقة مثبتة للتأكد من تلك النظرية، ما يعني أن تبقى هذه المسألة عالقة.

لن يكون أي تقرير إخباري أو تقييم استخباري صاخب كافياً لتبديد مواقف الصين الرافضة والسماح بإجراء تحقيق عبر منظمة الصحة العالمية، ولا يضمن دستور هذه المنظمة وقواعدها الصلاحيات اللازمة لإجبار الصين على الرضوخ لتحقيق مماثل. تبيّن أصلاً أن امتثال الصين لبنود "اللوائح الصحية الدولية" (أي المعاهدة الدولية التي تتحكم بتقاسم المعلومات في زمن الأوبئة) يبقى "شائباً في أفضل الأحوال" برأي فريق عمل مستقل يحظى بدعم مجلس العلاقات الخارجية. وحتى لو نجح تقرير إعلامي معيّن أو تقييم صادر عن الاستخبارات الأميركية في إقناع الدول الأخرى بتسرّب الفيروس من مختبر، ستبقى وسائل معاقبة الصين محدودة.

لن يكون أي حادث يحصل في المختبر انتهاكاً للقانون الدولي، ولن تفرض معاهدة "اللوائح الصحية الدولية" أو القانون العالمي المتعارف عليه دفع تعويضات للدول التي تأثرت سلباً بذلك الحادث أو بإخفاء المعلومات المرتبطة به في المرحلة اللاحقة. كذلك، تعجز الولايات المتحدة عن فرض العقوبات لأن الصين عضو دائم في مجلس الأمن ويمكنها أن تعيق أي قرارات تهدف إلى معاقبتها. يستطيع الكونغرس الأميركي من جهته أن يتخلى عن حماية الصين بموجب "قانون حصانات الدول الأجنبية ذات السيادة" من العام 1976، علماً أن هذا القانون يمنع رفع دعاوى قضائية محلية بسبب إخفاء المعلومات عن حادث معيّن. لكن يجب أن تجيب هذه الدعاوى في المقابل على أسئلة صعبة حول أسباب القضية. واجهت دول كثيرة تحديات مماثلة خلال هذا الوباء مع أنها لم تتحمل العواقب الصحية التي واجهتها الولايات المتحدة.

إذا ظهرت أدلة موثوق بها حول تستّر الصين على حادثة مختبر كانت مسؤولة عن انتشار الوباء في نهاية المطاف، ستواجه بكين عواقب دبلوماسية وسياسية وتتضرر سمعتها، حتى أن هذا الوضع قد يفيد المصالح الأميركية الجيوسياسية. لكن إذا اشتقت هذه الأدلة من نوايا عدائية، لن يصبح الأميركيون أكثر أماناً في وجه أي أوبئة مستقبلية. تتوقف قوانين سلامة المختبرات والنظام العالمي لرصد الأوبئة على تكثيف التعاون بين الولايات المتحدة والصين بدل إضعافه، تمهيداً لمنع أي أوبئة حتمية أو التعامل معها بالشكل المناسب في حال تفشّيها.


أفــــضــــل مــــقــــاربــــة


لتجاوز المحنة الراهنة، يجب أن تحاول الولايات المتحدة حشد الدول التي تحمل العقلية نفسها لإيجاد مقاربة جديرة بالثقة ومبنية على التعاون واكتشاف أصل الفيروس الحقيقي. بدل إجراء تحقيق بقيادة منظمة الصحة العالمية والمجازفة بحصول مماطلة دائمة، من الأفضل أن تدعو إدارة بايدن إلى إجراء تحقيق مستقل على يد تحالف من المؤسسات العلمية، على أن تتولى منظمة الصحة العالمية دور الإشراف على عملها.

كانت الصين قد أعاقت تحقيق منظمة الصحة العالمية، لكنها تجاوبت بطريقة إيجابية مع الضغوط الدولية المتصاعدة، فلم تعترض مثلاً على القرار المرتبط بالتحقيق في أصل الفيروس في جمعية الصحة العالمية في أيار 2020. لكن لتحسين فرصة تعاون الصين مع أي تحقيق مستقل، يجب أن تفكر إدارة بايدن بالرد مباشرةً على اتهامات بكين السخيفة التي تُحمّل مختبراً عسكرياً أميركياً مسؤولية ما حصل. حتى الآن، لم تردّ الولايات المتحدة على هذه الادعاءات لأنها تضعها على الأرجح في خانة التضليل المقصود. لكن اعتبرت بكين صمت واشنطن دليلاً على ذنبها، وهذا ما يبرر رفضها لأي تحقيق دولي شامل.

يستطيع بايدن أن يثبت خداع الصين ويسمح للمفتشين الدوليين بدخول الولايات المتحدة، بما في ذلك علماء من الصين. كان الرئيس جورج بوش الأب قد أبرم صفقة مماثلة حين عرض على المفتشين الروس الدخول إلى المنشآت البيولوجية الأميركية في العام 1990 مقابل إجراء تفتيش أميركي بريطاني مشترك في منشآت جمعية الإنتاج العلمي التابعة للاتحاد السوفياتي. واجه الوفد المشترك محاولات إنكار وتهرّب وعوائق كثيرة، لكنه تأكد رغم ذلك من عدائية برنامج الأسلحة البيولوجية السوفياتي، بما يتعارض مع التطمينات السوفياتية السابقة. حتى أن واشنطن استفادت من التفتيش الروسي في منشآتها البيولوجية: أكد كين أليبيك، وهو عضو بارز في برنامج الأسلحة البيولوجية السوفياتي، على عدم امتلاك الولايات المتحدة لأي برنامج عدائي للأسلحة البيولوجية، ما يتعارض مع مزاعم الحملة الدعائية التي أطلقها الكرملين. ثم ساعد تنحّي أليبيك بعد مرور سنة واشنطن على معرفة تفاصيل برنامج الأسلحة البيولوجية السوفياتي السابق.

تستطيع إدارة بايدن أن تتفاوض على اتفاق مع بكين للقيام بزيارات متبادلة من النوع نفسه. إذا وافقت الصين على هذه الخطة، ستصبح الولايات المتحدة أكثر اطلاعاً على نشاطات "معهد ووهان لعلم الفيروسات"، حتى أنها قد تحصل على فرصة التواصل مع مختبر صيني جدير بالثقة لتسليط الضوء على أصل الفيروس الحقيقي. لكن إذا رفضت الصين، ستكون هذه المحاولة على الأقل كفيلة بكشف أكاذيب الحملة الدعائية الصينية محلياً وخارجياً.

لن تنتهي المنافسة بين بكين وواشنطن إذا بدأ تحقيق مستقل يقوده تحالف من المؤسسات العلمية تزامناً مع حصول عمليات تفتيش متبادلة في الولايات المتحدة والصين، لكن قد يسهم هذا النوع من التحقيقات في كسر الجمود الراهن في ملف اكتشاف أصل الوباء، ما يسمح لصانعي السياسة والعلماء الأميركيين والصينيين بالاستفادة من الجواب بأفضل الطرق. يجب أن تتعاون بكين وواشنطن لإنهاء هذا الوباء ومحاربة أي أوبئة مقبلة من خلال تشديد القواعد العالمية المرتبطة بسلامة المختبرات وزيادة القيود على تجارة الحيوانات البرية وأسواق اللحوم. إنها الطريقة الوحيدة لجعل الأميركيين والعالم أكثر أماناً.