دانيال بايمان

هل تصبح أفغانستان ملاذاً للإرهابيين مجدداً؟

24 آب 2021

المصدر: Foreign Affairs

02 : 01

مقاتلو طالبان أمام وزارة الداخلية في كابول / أفغانستان، 16 آب 2021
يشكّل الانسحاب الأميركي من أفغانستان وعودة حركة "طالبان" إلى السلطة انتصاراً لتنظيم "القاعدة". لكن إلى أي حد يُعتبر هذا الانتصار كبيراً؟ أصبح هذا السؤال جزءاً محورياً من قرار إدارة بايدن بالانسحاب من أفغانستان. دافع الرئيس جو بايدن عن خياره رغم الفوضى والمظاهر المرعبة التي شهدتها أفغانستان بعد انهيار الحكومة وأعلن يوم الإثنين الماضي: "تبقى مصلحتنا الوطنية الوحيدة في أفغانستان اليوم مشابهة لما كانت عليه دوماً: منع أي هجوم إرهابي ضد الأراضي الأميركية".

قد يبدو احتمال عودة "القاعدة" إلى الواجهة حقيقياً، لكن يبقى استرجاع أفغانستان لدورها كملاذ آمن للإرهاب الجهادي، بما يشبه مكانتها قبل هجوم 11 أيلول، مستبعداً. لا شك في أن انتصار "طالبان" سيُصعّب تنفيذ سياسة مكافحة الإرهاب الأميركية، لكن لا مفر من تراجع هذه المخاطر بسبب ضعف "القاعدة"، ودوافع "طالبان" الحقيقية، وتحسّن جهود التنسيق بين الأوساط الاستخبارية الأميركية بعد هجوم 11 أيلول، وتشديد التدابير الأمنية المحلية، والعمليات العسكرية البعيدة.

انتصار آخر؟

بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان وانتصار "طالبان"، حقق عالم الجهاد انتصاراً دعائياً يشبه ما حققه منذ أكثر من ثلاثين سنة. وفق خرافة أساسية تتمسك بها حركة الجهاد المعاصرة، يقال إن المقاتلين الأجانب الذين حاربوا لطرد الاتحاد السوفياتي من أفغانستان لعبوا دوراً محورياً لهزم موسكو في العام 1989، حتى أنهم سرّعوا انهيار الاتحاد السوفياتي والشيوعية بشكل عام. استمرت هذه الخرافة لوقتٍ طويل مع أن المتطوعين الأجانب ما كانوا مؤثرين عسكرياً في الصراع العام ضد السوفيات.

اليوم، تعتبــــر "القاعدة" انسحاب القوات الأجنبية انتصاراً لها حتماً، مع أن عمليات "طالبان" القتالية هي التي أخرجت الولايات المتحدة، لا عمليات "القاعدة" أو جماعات جهادية أخرى. لكن سيكون هذا الادعاء أكثر صدقاً هذه المرة لأن واشنطن نفسها اعتبرت الحرب القائمة منذ عشرين سنة صراعاً ضد الإرهاب الدولي، ما يعني أن هزيمة الولايات المتحدة تدخل في خانة إنجازات "القاعدة". بدأ مناصرو التنظيم يحتفلون بما حصل أصلاً.

قد يعطي انهيار الحكومة الأفغانية شحنة من الطاقة إلى عناصر "القاعدة" في البلد. ولا شيء ينذر بأن "طالبان" ستقطع علاقاتها مع هذا التنظيم بعد تحقيق انتصار شامل. لقد صمدت العلاقات بين الطرفين لأكثر من عشرين سنة رغم الضغوط والحوافز الأميركية. تعترف "طالبان" بمهارات عناصر "القاعدة" في القتال وتفانيهم وتشعر بأنها ملزمة بدعمهم نظراً إلى تضحياتهم منذ أكثر من عشرين سنة. يذكر المسؤولون في الأمم المتحدة أن "القاعدة" جزء راسخ من "طالبان"، إذ ينفذ الطرفان عمليات وتدريبات مشتركة. وتزعم "القاعدة" من جهتها أنها لا تزال موالية لقيادة "طالبان".

لكن لن يستفيد جميع الجهاديين بقدر "القاعدة". يتمتع تنظيم "داعش"، خصم "القاعدة"، بحضور ناشط أيضاً في أفغانستان. يعارض "داعش" نهج "القاعدة" و"طالبان" بقوة، ويزعم أن هذه الأخيرة تخلّت عن الإسلام لصالح القومية الأفغانية. لكن بعيداً عن الاختلافات الإيديولوجية، يحتدم الصراع على النفوذ والسلطة داخل الحركة الجهادية ككل. من المتوقع أن تحاول "طالبان" استمالة قادة "داعش" وسحق كل من يرفض الرضوخ لها. ستشكّل هذه التطورات ضربة موجعة أخرى ضد اسم "داعش" الذي تكبّد خسائر كثيرة منذ أن فَقَد آخر جزء من دولة الخلافة التي أعلنها في العراق وسوريــــــا في العام 2019.

لكن لا تتعلق أهم مسألة في مجال مكافحة الإرهاب بميل "طالبان" إلى الحفاظ على علاقاتها مع "القاعدة" وجماعات جهادية خارجية أخرى، بل بمدى استعدادها للسماح للقاعدة باستعمال أفغانستان مجدداً لشنّ اعتداءات إرهابية دولية. تمكّن أسامة بن لادن وقادة آخرون في "القاعدة" من توجيه نشاطات جماعتهم من دون التعرض للمحاسبة انطلاقاً من أفغانستان في عهد "طالبان". وقبل هجوم 11 أيلول، كانت "القاعدة" وجماعات جهادية خارجية أخرى تدير مجموعة من المعسكرات في البلد. تدرّب الإرهابيون في تلك المواقع، كما فعل جهاديون طموحون شاركوا في صراعات الجزائر وأندونيسيا وليبيا والصومال ودول أخرى. وبالإضافة إلى تسهيل التدريبات، استطاعت "القاعدة" أيضاً أن تقوي علاقاتها مع كبار أعضاء الجماعات الجهادية وتُعلّم عقائدها للمتطوعين المتدفقين نحو أفغانستان لتلقي التدريب. مرّ بين 10 و20 ألف مجنّد بتلك المعسكرات بين العامين 1996 و2001، وفق معلومات الاستخبارات الأميركية. ثم بدأ هؤلاء المتطوعون يتقاسمون رؤية "القاعدة" العالمية والمعادية للأميركيين ونفذوا اعتداءات إرهابية عدة.

ملاذ غير آمن بمعنى الكلمة


لا شك في أن خسارة أفغانستان ستعيق الجهود الأميركية في مجال مكافحة الإرهاب وتزيد احتمال أن تستعمل "القاعدة" البلد مجدداً كمنصة لإطلاق الاعتداءات. من دون وجود أي قوات عسكرية في المنطقة وفي ظل غياب التواصل مع السكان المحليين، ستتراجع المعلومات الاستخبارية التي تجمعها الولايات المتحدة حول النشاطات الإرهابية. لم تعد القوات الأميركية والأفغانية منتشرة ميدانياً لمنع "القاعدة" من إنشاء معسكرات تدريب أو مقرات لها.

لكن رغم هذه المصاعب، من المستبعد أن ينشأ ملاذ آمن بما يشبه فترة ما قبل هجوم 11 أيلول. تبقى دوافع "طالبان" لدعم الإرهاب الدولي ضد الغرب محدودة، بغض النظر عن الروابط التي تجمع قادة الحركة مع "القاعدة". لم يستشر أحد "طالبان" قبل تنفيذ اعتداءات 11 أيلول ولم تحبذ الحركة الاعتداءات الإرهابية التي نفذها التنظيم سابقاً، على غرار تفجير السفارات في شرق أفريقيا في العام 1998. كذلك، دفعت "طالبان" ثمناً باهظاً بسبب هجوم 11 أيلول، فخسرت السلطة طوال عشرين سنة وقُتِل معظم قادتها خلال المعركة ضد الولايات المتحدة.

على صعيد آخر، تملك باكستان الداعمة لحركة "طالبان" سبباً وجيهاً لمعارضة الاعتداءات الإرهابية التي تطلقها "القاعدة" ضد الغرب. اعتبر بروس ريدل، ضابط استخبارات أميركي مرموق سابق، أن أحدث حملة هجومية نفذتها "طالبان" اتكلت على الدعم الباكستاني، ولطالما استعملت "طالبان" باكستان كملاذ آمن لها في معركتها ضد الولايات المتحدة والحكومة الأفغانية. وبما أن حليفة باكستان انتصرت، لن يميل البلد الآن إلى المجازفة بعودة القوات الأميركية، وهي خطوة محتملة غداة أي هجوم كبير تنفّذه "القاعدة" ضد الغرب. لن يخدم هذا العنف أياً من أهـــــداف باكستان الاستراتيجية.

مع ذلك، لا تستطيع الولايات المتحدة أن تتكل على باكستان كشريكة لها لمكافحة الإرهاب في أفغانستان. قد تفضّل باكستان اللجوء إلى الجهاديين الأجانب لتنفيذ اعتداءات إرهابية في الهند وشن الحرب في كشمير، كما فعلت في الماضي. لذا قد لا تمانع أن تسمح "طالبان" للمقاتلين الأجانب بالتدرّب وتحسين مهاراتهم في أفغانستان، فتلعب بالنار على أمل أن تُوجّه باكستان تلك النيران باتجاه نيودلهي. لهذا السبب، سيكون الضغط على باكستان عاملاً محورياً. لكن فشلت معظم الجهود الأميركية لإجبار إسلام أباد على كبح تقدّم "طالبان" في العقود الأخيرة. قد تُحقق الولايات المتحدة نجاحاً أكبر اليوم بما أنها لم تعد تتكل على حُسن نوايا باكستان لدعم العمليات في أفغانستان. لكن يجب أن يُخفّض صانعو السياسة توقعاتهم، وتحديداً بعدما تجاهلت إدارة بايدن رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان بدل التقرب منه والتعامل معه كحليف. يجب أن تُركّز واشنطن على إقناع إسلام أباد بأنها ستدفع الثمن أيضاً إذا دعم حلفاؤها في "طالبان" الإرهاب الدولي.

قد تكون مساعدة باكستان محدودة في أفضل الأحوال، لكن تغيّرت "القاعدة" بحد ذاتها بطرقٍ تجعلها أقل قدرة على الاستفادة من أفغانستان. خسرت هذه الجماعة عدداً كبيراً من قادتها ومعظم تمويلها وتكبدت خسائر كثيرة منذ هجوم 11 أيلول، وربما قُتِل خَلَف بن لادن، أيمن الظواهري، فعلاً. رداً على هذا التراجع، وسّعت "القاعدة" الصراعات داخل العالم الإسلامي، فتعاونت مع فروعها المحلية التي تتبنى جزءاً من أجندتها، لكنها ركّزت عملياً على مخاوفها المحدودة. بذل قادة "القاعدة" معظم جهودهم لمحاولة السيطرة على تلك الفروع والتأثير عليها. تطرح هذه الجماعات في المقام الأول تهديداً على البلدان والمناطق التي تتواجد فيها، مع أن بعضها حاول أو نجح في إطلاق اعتداءات إرهابية ضد الغرب، لا سيما الفرع اليمني من تنظيم "القاعدة". شمل أحدث هجوم جهادي ضد الولايات المتحدة إطلاق نار على ثلاثة بحّارة في قاعدة بحرية في "بينساكولا"، فلوريدا، في العام 2019 على يد متدرب سعودي متأثر بالفرع اليمني من تنظيم "القاعدة".

كذلك، كانت وكالات الاستخبارات الأميركية تستعد منذ فترة للانسحاب العسكري عبر الحفاظ على شكلٍ من القدرات الجماعية، ما يسمح لها بإعاقة مسار المتدربين المستقبليين في "القاعدة" ورصد المؤامرات المحتملة ضد الغرب واستهداف الإرهابيين. استكشف الجيش الأميركي طرقاً عدة لاستعمال القوة الجوية انطلاقاً من قواعد تقع خارج أفغانستان لضرب معسكرات "القاعدة" وتنفيذ العمليات في البلد عند الحاجة. الآن وقد عادت "طالبان" إلى السلطة مجدداً، أصبحت هذه الجهود أهم من أي وقت مضى. تنفّذ الولايات المتحدة أصلاً عمليات من مسافة بعيدة في الصومال واليمن ودول أخرى تنشط فيها الجماعات الجهادية. وبسبب هذا النوع من الضربات في أفغانستان، ستجد "القاعدة" والجماعات الأخرى صعوبة متزايدة في إدارة معسكرات التدريب الواسعة، كما كانت تفعل قبل هجوم 11 أيلول، وسيصبح قادتها أكثر عرضة للمخاطر.

أخيراً، تحسنت التدابير الأمنية في الأراضي الأميركية بطريقة جذرية منذ اعتداءات 11 أيلول، وقد انطلقت جهود استخبارية عالمية ضد "القاعدة" وداعش" وحركات جهادية أخرى. نتيجةً لذلك، سيجد المجندون المستقبليون صعوبة متزايدة في الوصول إلى أفغانستان، وسيجازفون بكشف أمرهم إذا وصلوا إليها وباعتقالهم عند عودتهم.

على المدى القصير، ستكثر انشغالات "طالبان" والولايات المتحدة. يجب أن تُرسّخ "طالبان" سلطتها في أنحاء أفغانستان التي تشهد في معظمها فوضى عارمة، وستحتاج "القاعدة" إلى الوقت قبل أن تعيد تشكيل نفسها. ويجب أن تُركّز الولايات المتحدة من جهتها على الأزمة الإنسانية المتفاقمة في البلد، وتحرص على مساعدة عشرات آلاف الأفغان الذين جازفوا بحياتهم عبر العمل مع الجيش الأميركي والمشاركة في جهود مكافحة الإرهاب عموماً.

لكن يُفترض ألا تنشغل واشنطن بهذا الهدف على المدى القصير وتغفل عن أهمية تقوية حملة مكافحة الإرهاب، بل يجب أن تتابع الضغط على الحكومات الإقليمية لمنع أفغانستان من التحوّل مجدداً إلى مركز لحركة الجهاد العالمية. قد لا تعكس هذه المقاربة الانتصار الكبير الذي أراد الأميركيون تحقيقه ضد الإرهاب بعد هجوم 11 أيلول، لكنها تبقى استراتيجية مرنة ومستدامة على الأقل.


MISS 3