الولايات المتحدة تعثّرت في طريقها نحو مكافحة الإرهاب

02 : 01

جندي أميركي في دورية عسكرية / غزنة، أفغانستان، آب 2018
برأي رئيس الوزراء الفرنسي الراحل جورج كليمنصو، "تُعتبر الحرب سلسلة من الكوارث التي تؤدي إلى تحقيق النصر". إنها طريقة إيجابية لتقييم رحلة الولايات المتحدة في "حربها على الإرهاب". طوال عشرين سنة، وجدت واشنطن صعوبة في تخفيض مستوى الإرهاب العالمي وفشلت معظم مساعيها لتحسين المناخ السياسي في العالم الإسلامي. حتى أنها تحمّلت مستنقعات بطيئة وطاحنة وانتكاسات مهينة. ومع ذلك، حققت الولايات المتحدة هدفها الاستراتيجي على أبسط المستويات، فمنعت وقوع اعتداءات كارثية ضد الأراضي الأميركية عبر زيادة براعتها في تدمير معاقل الإرهابيين وتفكيك شبكاتهم.

دفعت الولايات المتحدة ثمناً باهظاً جداً مقابل هذا النجاح. لكن تراجع ذلك الثمن بطريقة جذرية مع مرور الوقت لأن واشنطن حسّنت مقاربة مكافحة الإرهاب التي تعتمدها. بعد القيام بمجموعة من الالتزامات العسكرية المكلفة وغير القابلة للاستمرار في أفغانستان والعراق، عدّلت الولايات المتحدة نهجها عبر الانسحاب من الشرق الأوسط ككل بوتيرة أسرع من اللزوم، فسمحت بتجدّد التهديدات القديمة. لكن منذ العام 2014 تقريباً، تمسّكت واشنطن بنموذج "البصمة المتوسطة" الذي يرتكز على استثمارات متواضعة، لا سيما في قوات العمليات الخاصة والقوة الجوية، لدعم القوات المحلية التي تتولى معظم عمليات القتال وتتكبّد الخسائر البشرية بنفسها. تضمن هذه المقاربة مستوىً جيداً من الحماية مقابل ثمن منطقي حين تجتمع مع أدوات غير عسكرية مثل تعاون الأوساط الاستخبارية، وجهود وكالات إنفاذ القانون، والمساعدات الاقتصادية.

لكن لن تكون استراتيجية "البصمة المتوسطة" حلاً شاملاً، بل إنها تقدّم حلولاً تدريجية وغير مكتملة للمشاكل السياسية الكامنة وراء العنف المتطرف، كما أنها تستلزم مقايضة الأولويات الأخرى، مثل التنافس مع الصين، ويمكن اعتبارها هشة سياسياً بسبب ارتباطها بالحروب الطويلة والمُحبِطة. لكن تكشف تجارب العقدَين الأخيرَين أن استراتيجية "البصمة المتوسطة" تبقى أفضل الخيارات السيئة أمام الولايات المتحدة.

من الواضح أن الحرب على الإرهاب لم تحصل بالطريقة التي أرادها صانعو السياسة الأميركية. غداة هجوم 11 أيلول مباشرةً، لم يتوقع الكثيرون أن تمضي الولايات المتحدة عشرين سنة وهي تقاتل في أفغانستان ثم تغادر البلد فيما تتابع "طالبان" توسّعها هناك، ولا أن تغزو العراق في العام 2003 ثم تنسحب منه في العام 2011، ثم ترسل القوات العسكرية إلى هناك مجدداً بعد بضع سنوات لتدمير دولة الخلافة التي ساهمت إخفاقات واشنطن السابقة في إنتاجها، ولا أن تنفق تريليونات الدولارات وتضحي بحياة آلاف الأشخاص في خضم معركة عالمية لامتناهية ضد الإرهاب.

استراتيجية "جز العشب"


نشأت الاستراتيجية الأميركية نتيجة سلسلة من التجارب والأخطاء. خلال العقد الذي تلى هجوم 11 أيلول، استنتجت الولايات المتحدة أن التدخلات المبنية على نموذج "البصمة المتوسطة"، كتلك التي حصلت في العراق وأفغانستان، تُمهّد للاستنزاف العسكري والاستراتيجي. لكنّ البصمة العسكرية المحدودة لمكافحة الإرهاب قد تُسبب انتكاسات كارثية. حين انسحبت الولايات المتحدة بالكامل من العراق في العام 2011 تزامناً مع تخفيض عمليات مكافحة الإرهاب في أماكن أخرى، نشأ فراغ أمني خطير. أدى الانسحاب من العراق تحديداً، إلى جانب الفوضى التي خلّفتها الحرب الأهلية في سوريا، إلى توسّع نفوذ تنظيم "داعش" الذي غزا الأراضي في العراق وسوريا وزعزع استقرار مساحات شاسعة من الشرق الأوسط.

نتيجةً لذلك، تبيّن أن استراتيجية "البصمة المتوسطة" يجب أن تكون عدائية ومحدودة في آن. شملت هذه الاستراتيجية الاستعمال المباشر للقوة العسكرية الأميركية ضد "داعش" وجماعات إرهابية بارزة أخرى، لا سيما قوات العمليات الخاصة، والطائرات بلا طيار، والقوة الجوية المأهولة. لكن استُعمِلت هذه الأدوات وسواها (مثل التدريبات والمهام الاستشارية، والاستخبارات، والخدمات اللوجستية) لتقوية القوات المحلية التي تستطيع تمشيط الأراضي والسيطرة عليها.

في خضم الصراع ضد "داعش" مثلاً، دعمت قوات الأمن العراقية، وجهاز مكافحة الإرهاب في بغداد، وفريق متنقل من الحلفاء الأكراد والعرب في سوريا، معظم القوات الميدانية التي كانت تحارب إلى جانب الأميركيين. في الوقت نفسه، تبنّى البنتاغون مقاربة مماثلة في أفغانستان عبر استعمال خليط من التحركات العسكرية المباشرة ودعم القوات النظامية لاستهداف تنظيم "القاعـــدة" (ثم "داعش")، تزامناً مع متابعة مراقبة حركة "طالبان".

سمحت هذه المقاربة للولايات المتحدة بالحفاظ على المعاقل العسكرية التي تحتاج إليها في المنطقة لمتابعة الضغط على الجماعات المتطرفة ونقل أكبر التكاليف البشرية والعسكرية إلى الشركاء والحلفاء. حتى أنها استعملت المجالات التي تتفوق فيها الولايات المتحدة بدرجة استثنائية، مثل الطائرات بلا طيار وقوات العمليات الخاصة، لتوسيع الحملات العسكرية، وتخلّت عن التوقعات السياسية غير الواقعية في الدول المضيفة، فتعهدت بإحراز تقدّم هامشي عبر تقوية القادة الأقل طائفية في العراق تمهيداً لتعميق الإصلاحات بعد استقرار الأوضاع. بشكل عام، كانت استراتيجية "البصمة المتوسطة" أكثر استدامة وفاعلية من أي مقاربة أخرى جرّبتها واشنطن في السابق.

واجهت هذه الاستراتيجية مشاكل كثيرة طبعاً، فقد عجزت عن كسر وضع المراوحة مع حركة "طالبان" في أفغانستان: في أفضل الأحوال، استمرّ الضغط على "القاعدة" وداعش" وعجزت "طالبان" عن هزم الحكومة. وفي سوريا، لم تنجح المقاربة الأميركية في حل المشاكل الكامنة التي تطرحها الحرب الأهلية الوحشية، حتى أنها لم تتمكن من إحداث تحسّن جذري على مستوى الاستقرار السياسي والحوكمة الفاعلة للسماح للولايات المتحدة بفك ارتباطها عن المناطق المتنازع عليها بطريقة آمنة. تشبه مقاربة "البصمة المتوسطة" ما يسمّيه القادة الإسرائيليون "جز العشب"، ما يعني أنها لا تعطي أي نتيجة إلا إذا تكررت إلى ما لا نهاية.

مع مرور الوقت، تبيّن أن هذه الحاجة إلى استراتيجية متواصلة تترافق مع أعباء إضافية، وهذا ما أكده قرار الرئيس الأميركي جو بايدن بالانسحاب من أفغانستان. زادت النزعة إلى التوجه نحو منطقة المحيطَين الهندي والهادئ تزامناً مع احتدام المنافسة الأميركية الصينية. وبما أن التكاليف الأولية للحرب على الإرهاب كانت مرتفعة جداً، زادت صعوبة الحفاظ على التزامات عسكرية متناقصة من دون مواجهة تُهَم بخوض "حروب أبدية" وغير مجدية. يبدو أن تجربة زيادة أعداد القوات العسكرية بلا جدوى في أفغانستان في العام 2009 أثّرت على قرار بايدن بإلغاء مهمة عسكرية أقل تعقيداً هناك اليوم، مثلما أثّرت السنوات المأسوية الأولى في العراق على قرار الرئيس باراك أوباما بسحب جميع القوات الأميركية العسكرية من ذلك البلد في العام 2011.

تُعتبر هذه الأولويات المتضاربة وتكاليف الاستمرار بالنهج نفسه حقيقية، لكنها لا تبرر أن تتخلى واشنطن عن سياسة مكافحة الإرهاب الراهنة. في المقام الأول، لا ترتكز المقايضة بين مكافحة الإرهاب والمنافسة بين القوى العظمى على مبدأ "لا غالب ولا مغلوب" بل يمكن السيطرة عليها. تبقى الالتزامات العسكرية المطلوبة للحفاظ على التقدم الحاصل في معركة مكافحة الإرهاب متواضعة نسبياً. هي تشمل في العادة نشر بضعة آلاف الجنود في بلد معيّن، ولا يشارك معظمهم في المعارك الميدانية بشكلٍ منتظم، وهم يتلقون الدعم من قوات جوية قادرة على إطلاق آلاف الضربات سنوياً في بعض الظروف. لا تنتقص هذه الالتزامات المرتبطة بالقوات العسكرية والموارد من قدرة الولايات المتحدة على فرض قوتها في آسيا، بل إن الوجود العسكري الأميركي الواسع في الشرق الأوسط يزيد الضغط على الصين ويمنح واشنطن القدرة على خنق إمدادات الطاقة الصينية في حال اندلاع الحرب، ما يؤدي إلى تعزيز نظام الردع.

كذلك، تحتاج الولايات المتحدة إلى حد أدنى من الاستقرار في الشرق الأوسط عموماً (وحد أدنى من الأمان في وجه تهديدات الإرهابيين) للتركيز بالشكل المناسب على التحديات التي تطرحها الصين وروسيا. من دون هذه العوامل، يجازف البلد بمواجهة تقلبات مخيفة حيث يؤدي الانسحاب إلى تنامي التهديدات التي تتطلب لاحقاً تجديد التدخل لكن مقابل ثمنٍ أعلى بكثير. تضمن هذه المعادلة الفشل في مجال مكافحة الإرهاب والمنافسة بين القوى العظمى على حد سواء.

يثبت التاريخ في آخر عشرين سنة أن الولايات المتحدة يجب أن تُحسّن إيقاعها. يؤدي التوسع المفرط إلى نتائج مخيبة للآمال وتبديد الموارد المحدودة أصلاً. لكن قد يُهدد الانسحاب الفوري خطة مكافحة الإرهاب ومصالح الأمن الإقليمي التي لا تزال مهمة بالنسبة إلى الناخبين الأميركيين والاستراتيجية العالمية الأميركية. طالما يستمر التهديد الجهادي بشكله الراهن، تحتاج الولايات المتحدة إلى مكافحة الإرهاب عبر مقاربة تمنع استنزاف عمليات التدخّل وتضرر قرارات الانسحاب.

أخيراً، تبدو الولايات المتحدة مضطرة لخوض لعبة طويلة جداً على مستوى الإصلاح السياسي. من دون توسيع التحالفات السياسية وترسيخ الاستقرار في العالم الإسلامي، لا يمكن التهرب من جولة التهديدات والردود التي وقع آخر ثلاثة رؤساء أميركيين في فخها. لكن استنتجت الولايات المتحدة من تجاربها في أفغانستان والعراق أن محاولة تسريع إيقاع التغيير الجذري تترافق مع مخاطر وتكاليف ضخمة. تقضي المقاربة المنطقية الوحيدة بإحداث تحسّن بنّاء على الهوامش، تزامناً مع الاعتراف بضرورة أن يشتق زخم الإصلاحات الأولية من داخل المجتمعات المسلمة بحد ذاتها. تتطلب هذه الاستراتيجية التحلي بالصبر. لكن سبق وأثبت تاريخ الحرب الباردة أن الولايات المتحدة تتمتع بالصبر الاستراتيجي أكثر مما يفترض المحللون أحياناً.

في النهاية لا يمكن اعتبار استراتيجية "البصمة المتوسطة" حلاً مثالياً لمشكلة الإرهاب الجهادي المستمرة. لكن لا وجود لأي حل مثالي أصلاً. ربما يتعلق أهم درسَين يمكن استخلاصهما من آخر عشرين سنة بعدم مثالية جميع خيارات الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب، وبالفكرة القائلة إن الوضع في الشرق الأوسط سيئ دوماً لكنه قد يزداد سوءاً في أي لحظة. فيما تتجه الولايات المتحدة اليوم إلى مرحلة مفصلية من حربها على الإرهاب، يجب أن تعترف بالأخطاء المرتكبة وتحافظ في الوقت نفسه على الاستراتيجية التي سمحت لها بتحقيق عدد منطقي من الإنجازات.