روبين نيبليت

الفشل في أفغانستان لن يُضعِف التحالفات الأميركية

27 آب 2021

المصدر: Foreign Affairs

02 : 01

جنود أميركيون ومن الجيش الوطني الأفغاني يرفعون علم أفغانستان / معسكر أنتونيك، أيار 2021
حين قرر الرئيس الأميركي جو بايدن في شهر نيسان الماضي سحب القوات الأميركية من أفغانستان بحلول 11 أيلول 2021، أي في الذكرى العشرين لهجوم 11 أيلول الإرهابي، قوبل موقفه باستياء كاد يتحول إلى غضب عارم وسط المسؤولين الأوروبيين، فقد شعر هؤلاء بأن أحداً لم يستشرهم حول هذا القرار بالشكل المناسب. لكن لطالما كانت المواقف المتغطرسة تجاه الحلفاء الأوروبيين جزءاً متكرراً من أداء آخر إدارتَين أميركيتَين ديموقراطيتَين، ولا يقتصر هذا الأداء على الإدارات الجمهورية الأخيرة كما يظن البعض.

بعد فوز بايدن، استطاع صانعو السياسة الأوروبيون أن يواسوا أنفسهم بدرجة معينة على اعتبار أن فريقاً احترافياً من كبار المسؤولين وصل إلى البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأميركية والبنتاغون، وقد كانوا يعرفون معظمهم من أدوارهم في الحكومات الأميركية السابقة. كان هؤلاء المسؤولون الأميركيون ليضمنوا نهاية مقبولة للتدخل الذي أطلقته الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون معاً في أفغانستان منذ عشرين سنة.

ثم هزمت حركة "طالبان" الجيش الأفغاني بسرعة البرق، وانهارت الحكومة المحلية، وانتشرت مظاهر الفوضى في مطار كابول الدولي. أكدت هذه الأحداث على سوء حسابات واشنطن للوضع في أفغانستان، لكنها أضعفت أيضاً ثقة الأوروبيين بكفاءة إدارة بايدن. الأسوأ من ذلك هو أنها دفعت المسؤولين الأوروبيين الحاليين والسابقين وأبرز الصحافيين إلى التساؤل حول إمكانية أن تثق الحكومات الأوروبية وحلفاء واشنطن الآخرون بتمسّك أي إدارة أميركية بالتزاماتها الأمنية الخارجية مستقبلاً، سواء كانت إدارة بايدن أو أي إدارة جمهورية مستقبلية.

لحسن الحظ، لا ينذر رحيل واشنطن الشائب والسريع من أفغانستان بتوسّع الشرخ في العلاقات العابرة للأطلسي أو إضعاف التزام واشنطن بتحالفاتها الأساسية. في ظل تنامي التهديدات العالمية، ستتابع الولايات المتحدة وأوروبا تعميق تعاونهما المتجدّد عبر الأطلسي بقيادة إدارة بايدن.

في الاتحاد قوة

أوضح بايدن منذ البداية أنه يعطي الأولوية لما سمّاه مستشار الأمن القومي جايك سوليفان وزملاؤه في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي "السياسة الخارجية الأميركية الخاصة بالطبقة الوسطى"، أي السياسة التي تتماشى مع مصالح معظم الناخبين الأميركيين، بدل أن تقتصر على نزعات النُخَب الأميركية في مجال السياسة الخارجية. اتّضحت عناصر معينة من هذه المقاربة الأميركية الجديدة عبر إعادة الانضمام إلى اتفاق باريس للمناخ، تزامناً مع إبقاء الرسوم التجارية المفروضة على الصين، وبدرجة أقل أوروبا. كان إنهاء التدخل "الأبدي" في أفغانستان اختباراً حاسماً وإرثاً منطقياً من عهد الرئيس دونالد ترامب.

قد تبدو هذه المقاربة التي تُركّز على الشؤون الداخلية لتحديد السياسة الخارجية الأميركية منطقية في ظل المناخ السياسي الراهن. لكن ما الذي يدفع الحكومات الأوروبية وحلفاء واشنطن الآخرين إلى الاقتناع بأن الطبقة الوسطى الأميركية ستهتم بأمن لاتفيا أو ليتوانيا أو تايوان أكثر من اهتمامها بأمن أفغانستان؟ وإذا كان بايدن لا يتردد في لوم قادة أفغانستان على عجزهم عن الوقوف في وجه "طالبان"، فما الذي يمنعه من تجاهل مخاوف الحكومات الأوروبية التي تنفق حوالى 1% من ناتجها المحلي الإجمالي فقط للدفاع عن نفسها في وجه روسيا والتهديدات الأخرى في جوارها، فيما تتابع الاتكال على المظلة الأمنية الأميركية بدرجة مفرطة؟ طغت هذه الأسئلة على عناوين الأخبار منذ سقوط كابول العظيم، لكنها تُغفِل عن ثلاث نقاط أساسية:

أولاً، لن يبعد أي حدث شهدته أفغانستان حتى الآن تركيز إدارة بايدن عن معالجة أبرز تحديات السياسة الخارجية، أي السيطرة على تنامي نفوذ الصين. عملياً، يُعتبر الانسحاب من أفغانستان جهداً واعياً ووحشياً لإبعاد الأولويات الاستراتيجية الأميركية مجدداً عن الشرق الأوسط وتوجيهها نحو منطقة المحيط الهادئ. بالنسبة إلى الأوروبيين، تعترف إدارة بايدن بعدم إمكانية السيطرة على التحديات الصينية من دون التعاون مع الحلفاء، وهو أمر لم تعترف به إدارة ترامب يوماً. يُعتبر حلفاء واشنطن الأوروبيون أساسيين لتنفيذ هذه الاستراتيجية. لا يتعلق السبب طبعاً بموقعهم الجغرافي بل بارتباط الصين بالاقتصادات الأوروبية وارتفاع الأصوات الأوروبية القوية في مؤسسات متعددة الأطراف حيث تحاول الصين إعادة صياغة قواعد التجارة والاستثمار وحوكمة التكنولوجيا حول العالم. سيُضعِف أي انقسام عابر للأطلسي سياسة واشنطن تجاه الصين. أما الالتزام الأميركي بالعلاقات العابرة للأطلسي، فيسهم في كسب تأييد أوروبا.

تتلقى أوروبا ثمناً غير معلن مقابل مساعدة الولايات المتحدة على التحكم بالصين، فتستفيد من استمرار الالتزام الأميركي تجاه أوروبا للسيطرة على روسيا التي تطرح تهديداً قريباً ومستمراً على مصالح حكومات أوروبية عدة. لم يشكك بايدن يوماً بهذه الصفقة، بل إنه استغل القمة التي شارك فيها مع قادة حلف الناتو الآخرين في 14 حزيران الماضي، بما في ذلك اجتماع منفصل مع قادة دول البلطيق، للتشديد على التزام واشنطن بأمن أوروبا وبالمادة الخامسة من ميثاق حلف الناتو. تُلزِم هذه المادة الدول الأعضاء باعتبار أي هجوم ضد حليف واحد هجوماً على جميع الدول الأخرى، وقد وافق القادة الأوروبيون للمرة الأولى على ذكر الصين في بيانات الناتو والمراسلات المتبادلة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

ثانياً، لن تنذر طبيعة الأزمة العلنية في كابول (ونقاط التشابه مع الانسحاب الأميركي من فيتنام في العام 1975) بانهيار التزامات الولايات المتحدة تجاه حلفائها وانسحابها إلى ما وراء حدودها، بل من المتوقع أن يُجبر هذا الوضع بايدن على إثبات عودة الولايات المتحدة إلى الساحة العالمية في أكثر القضايا أهمية. سيتحقق هذا الهدف إلى جانب القادة الأوروبيين، حين تنفّذ إدارة بايدن الوعود التي أطلقتها خلال اجتماعات القمة التي شاركت فيها في شهر حزيران في أوروبا، كتلك المتعلقة بإنشاء مجلس للتجارة والتكنولوجيا بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وفريق عمل معني بسلسلة توريد وتصنيع معدات مكافحة "كوفيد" بين الطرفَين أيضاً، والمشاركة في مشروع الاتحاد الأوروبي لتسريع تنقّل القوات العسكرية في أنحاء أوروبا. كذلك، من المتوقع أن تزيد إدارة بايدن تركيزها على العمليات الأميركية لتحرير الملاحة في بحر الصين الجنوبي، وتتابع التعاون الصناعي والدفاعي مع الهند، وتُكثّف جهودها لإعطاء طابع مؤسسي للتحالف الرباعي نظراً إلى أهمية أستراليا والهند واليابان في الخطط الأميركية الرامية إلى الحد من تنامي النفوذ الصيني في جنوب آسيا وجنوب شرق آسيا.

ثالثاً، تهتم الحكومات الأوروبية في الوقت الراهن بنجاح إدارة بايدن بغض النظر عما يحصل في أفغانستان. تدرك معظم هذه الحكومات، بما ذلك الأكبر حجماً بينها (فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، المملكة المتحدة)، أنها تحتاج إلى تجديد الشراكة العابرة للأطلسي للوقوف في وجه الصين وروسيا اللتين تزدادان قوة وعدائية. كذلك، تُعتبر الولايات المتحدة شريكة أساسية لمواجهة أكثر المسائل العالمية إلحاحاً بالنسبة إلى الحكومات والمواطنين في أوروبا، وعلى رأسها وقف ارتفاع درجات الحرارة العالمية. لن يسمح الأوروبيون لأفغانستان أو فشل كابول بإلهائهم لفترة طويلة ومنعهم من التعاون مع الولايات المتحدة للاستعداد لمؤتمر التغير المناخي المقبل من تنظيم الأمم المتحدة في غلاسكو في شهر تشرين الثاني.

كانت أزمة أفغانستان كفيلة بتذكير الجميع بأهمية توسيع "استقلالية أوروبا الاستراتيجية"، لكن يجب ألا تتحقق هذه الاستقلالية على حساب تنسيق الجهود العابرة للأطلسي. في بعض المجالات، مثل تنظيم الأسواق الرقمية والمالية، يجب أن يُعمّق الأوروبيون تعاونهم لتفعيل التفاوض مع الولايات المتحدة. وفي مجالات أخرى، يجب أن يتحملوا مسؤوليات جماعية متزايدة لتحقيق مصالحهم الخاصة في أماكن مثل شمال أفريقيا والساحل الأفريقي وشرق البحر الأبيض المتوسط. ينطبق الأمر نفسه على مستقبل أفغانستان كونها ستشكّل مصدراً متوسعاً للاجئين والمهاجرين نحو أوروبا وقد تتحول مجدداً إلى بيئة حاضنة للإرهاب الدولي ما لم يستقر الوضع هناك سريعاً. حين يحاول المعنيون معالجة هذه المخاطر، ستصبح جهود توسيع الاستقلالية الأوروبية الاستراتيجية استكمالاً لجهود تقوية العلاقات العابرة للأطلسي.

الولايات المتحدة لا تزال متفوّقة...

أمام هذه التطورات كلها، هل سيستفيد خصوم الولايات المتحدة من هذه اللحظة المهينة لواشنطن بأفضل الطرق؟ لا شك في أنهم سيحاولون فعل ذلك. سبق واعتبر رئيس تحرير صحيفة "غلوبال تايمز" الصينية عملية نقل السلطة في أفغانستان "أكثر سلاسة" من العملية الانتقالية بين عهدَي ترامب وبايدن. في المقابل، كانت الحكومة الروسية أكثر تحفظاً في موقفها، فعبّرت عن قلقها من تحوّل أفغانستان في عهد "طالبان"، عن قصد أو عن غير قصد، إلى ملاذ آمن مجدداً للجماعات الإرهابية التي تطرح تهديدات ومخاطر أخرى على موسكو بقدر واشنطن.

لكن مثلما عجز الانسحاب الأميركي من فيتنام عن تخريب مسار الولايات المتحدة المتواصل نحو الهيمنة الاقتصادية والجيوسياسية في القرن العشرين، لا داعي كي تنذر الهجرة الفوضوية من أفغانستان بالتراجع الأميركي العالمي في القرن الواحد والعشرين. يبقى النفوذ في العلاقات الدولية نسبياً دوماً. وبالأرقام النسبية، من الواضح أن الولايات المتحدة تتفوق على أبرز خصمَين جيوسياسيَين لها بنيوياً واجتماعياً، وسيترسخ هذا التفوق حتماً إذا تعاونت عن قرب مع حلفائها لتحقيق أهدافهم المشتركة.

أخيراً، يُفترض ألا تنشغل إدارة بايدن بنهاية الحرب الأفغانية بطريقة فوضوية وتمتنع عن تنفيذ أولوياتها المشتركة مع حلفائها الأوروبيين، بل يجب أن تُشجّع الطرفَين على إثبات التزامهما المستمر بأمن بعضهما البعض. يبدو أن المبادرات الجديدة التي أطلقتها إدارة بايدن مع حلفائها الأوروبيين والآسيويين في آخر ستة أشهر ستؤثر على أمن المنطقة العابرة للأطلسي ومنطقة المحيطَين الهندي والهادئ مستقبلاً أكثر من الإخفاقات الموروثة في أفغانستان.