الهند كسبت كشمير لكنها خسرت نفسها!

11 : 31

في خطوة مفاجئة ومثيرة للجدل في 5 آب، غيّرت الهند طبيعة علاقتها مع إقليم كشمير المتنازع عليه. فقررت حكومة الرئيس ناريندرا مودي إلغاء المادة 370 من الدستور الهندي: إنها المادة التي تمنح كشمير مكانة خاصة داخل الهند منذ سبعة عقود. قضى ذلك القرار على آمال كشمير المتبقية بتقرير مصيرها بنفسها وزاد تبعيتها للهند وحوّلها من ولاية إلى "منطقة اتحادية" تديرها نيودلهي مباشرةً. استباقاً لحملات الغضب والاحتجاج، حاصرت الحكومة الهندية وادي كشمير، حيث يقيم معظم السكان ذات الأغلبية المسلمة، واعتقلت السياسيين المحليين، وقطعت وسائل الاتصالات، وحصرت حركة الناس، ونشرت الجنود في أنحاء كشمير.


فاجأ القرار الكثيرين لكنه لم يصدر بلا مقدمات. لطالما عبّر "حزب بهاراتيا جاناتا" الحاكم، بقيادة مودي، عن رغبته في إلغاء الحكم الذاتي الظاهري في كشمير وإعادة المنطقة إلى وضعها الطبيعي كجزءٍ من الهند. بنظر القوميين الهنود، أصبحت المادة 370 والأحكام المرتبطة بها رمزاً لـ"عدم اكتمال" اندماج كشمير مع بقية مناطق البلد. أطلق إلغاء تلك المادة حملات إدانة واسعة حول العالم، لكنه كسب دعماً كبيراً وفورياً داخل الهند، حتى في أوساط أحزاب المعارضة.

من وجهة نظر سكان كشمير، كانت الأجواء الاحتفالية في بقية المناطق بمثابة ضربة قاضية بعد سلسلة طويلة من الخيانات والإهانات من جانب الدولة الهندية التي استنزفت هوية كشمير الدستورية والسياسية. في الهند، تمحور معظم الجدل غداة حرمان الإقليم من مكانته الخاصة حول تاريخ الدستور الهندي ومبادئه. لكن يبدو التكلم باللغة الدستورية في كشمير بعيداً كل البعد عن قوة الصدمة السائدة على أرض الواقع. تخضع كشمير للحصار منذ ثلاثة عقود. أدت الحملة القمعية المتقطعة التي أطلقتها الحكومة الهندية ضد المسلحين والمعارضين على حد سواء، إلى انتشار ادعاءات حول انتهاك حقوق الإنسان على نطاق واسع، بما في ذلك ارتكاب أعمال تعذيب واغتصاب. في الوقت نفسه، تأججت مظاهر العنف في الوادي نتيجة التسلل عبر الحدود من باكستان. يحتفل عدد متزايد من السكان المحليين بتوسّع النزعة القتالية داخلياً بشغف هوسي غريب. ولم يتم الاعتراف بعد بالتطهير العرقي خلال التسعينات، حين أقدم المسلحون والسكان على طرد هندوس كشمير جماعياً، ولا باختفاء مئات الرجال على يد قوى الأمن والمتمردين.

يجب أن تعترف جميع الأطراف بأعمال العنف هذه لأنها السبب في إقامة الحواجز بين مختلف الجماعات. لكن لا تستحق كشمير بنظر الهند أي شكل من التعاطف، بل أصبح الإقليم بحد ذاته أهم من مصائب شعبه. نتيجةً لذلك، لم تستوعب الحكومة تداعيات حملات العنف والظلم التي أطلقتها في كشمير. يسمح غياب التعاطف هذا لنظام ديمقراطي بدعم الاعتقالات الجماعية، وانتهاكات حقوق الإنسان، وانتشار بنادق "بيليه" والأسلاك الشائكة، وتعليق الحريات والحقوق. تعكس تحركات الهند في كشمير إذاً تصدّع الديموقراطية الهندية.

معارضة في مهب الريح...

يترافق إلغاء المادة 370 مع عواقب مقلقة تتجاوز حدود كشمير، فقد كشفت هذه الخطوة عن عدم محاسبة رئيس الحكومة على قراراته. تزعم الحكومة بقيادة "حزب بهاراتيا جاناتا" أن القرار الأخير يعبّر عن إرادة البرلمان، بعدما حصد الدعم اللازم في الغرفتَين العليا والسفلى من المجلس التشريعي. لكنّ هذه الشكليات لا تستطيع إخفاء نزعتَين خطيرتَين: ضعف جميع المؤسسات المستقلة في الهند، وتهميش المسلمين الهنود.

لطالما بدت الديمقراطية الهندية فوضوية، لكنّ تقسيم السلطة بين مختلف الأحزاب والمؤسسات السياسية كان يضمن نوعاً من التوازن في وجه النفوذ اللامحدود للسلطة التنفيذية. لكن شهدت السنوات الأخيرة توحيد مصدر السلطة بطريقة مضطربة. على المستوى السياسي، تبدو المعارضة ضعيفة ومنقسمة. لا يواجه مودي وأعضاء "حزب بهاراتيا جاناتا" الهندوسي القومي أي تحديات قوية من خصومهم السياسيين. ينشغل حزب "المؤتمر" المتخبط (حزب علماني يساري وسطي حَكَم الهند في معظم مراحلها التاريخية) بخوض معركة على قيادته الداخلية، وتنقسم آراؤه حول المادة 370، ويعجز عن إطلاق مقاومة إيديولوجية فاعلة ضد مودي. كذلك، انهارت أحزاب محلية كثيرة في الانتخابات الأخيرة، منها "ساماجوادي" و"بهوجان ساماج" في ولاية "أوتار براديش". واجه حزب "ترينامول كونغرس" الذي يسيطر على البنغال الغربية هزائم مفاجئة أيضاً أمام "بهاراتيا جاناتا". لا تستطيع الأحزاب المحلية الضعيفة والمحاصرة إذاً أن تحاسب السلطة المركزية بالدرجة المطلوبة.على صعيد آخر، لا تتمتع المعارضة بالقوة الفكرية اللازمة لمجابهة الموجة القومية المتنامية التي أطلقها "حزب بهاراتيا جاناتا"، مع أن هذه الإيديولوجيا تُهدد جوهر القيم الدستورية. لا شيء يُجسّد هذا الفشل أكثر من نفاق حزب "آم آدمي" الذي يحكم العاصمة دلهي ويجلس في صفوف المعارضة داخل البرلمان. لم يتردد هذا الحزب في الموافقة على خطة مودي بتخفيض مكانة كشمير من ولاية إلى منطقة اتحادية، مع أن حزبه بنى حملته على فكرة تحويل دلهي من منطقة اتحادية إلى ولاية بحد ذاتها. كانت النزعة القومية التي تبناها مودي كفيلة بإدخال المعارضة كلها في سبات فكري، حيث تعجز عن الدفاع عن القيم الديموقراطية.

لا تقتصر مشاكل المعارضة على التردد والضعف، بل إنها تفتقر إلى المصداقية أيضاً. يواجه عدد من المعارضين البارزين اتهامات بالفساد، على رأسهم وزير المالية السابق وزعيم حزب "المؤتمر" بالانيابان تشيدامبارام الذي اعتُقِل في شهر آب بتهمة الاختلاس وتبييض الأموال. كذلك، لم تكن الأجهزة الأمنية، على غرار "مديرية إنفاذ القانون" و"المكتب المركزي للتحقيق"، حيادية يوماً في عهد الحكومات السابقة، لكن تستغلها حكومة مودي اليوم لاستهداف خصومها السياسيين بدرجة غير مسبوقة. مع ذلك، لا يعتبر الرأي العام هذه الملاحقات القضائية استغلالاً خبيثاً لسلطة الدولة، بل جزءاً من خطة رئيس الحكومة لإنشاء نسخة جديدة من الهند، عبر اقتلاع النظام الفاسد القديم، وتتماشى هذه المقاربة مع قراراته في كشمير. من خلال اتهام المعارضة بالفساد، نجح مودي في إسكاتها. نتيجةً لذلك، يشعر عدد كبير من قادة المعارضة بأنه مضطر لتبرير نفسه عبر اتخاذ مواقف قومية متشددة.

موجة مستجدّة من الرضوخ

ترافق انهيار المعارضة السياسية مع تصدّع المؤسسات المستقلة. يعتبر عدد كبير من الهنود المحكمة العليا المحلية "أقوى محكمة في العالم" بسبب استقلاليتها ونفوذها القوي. أشاد المدعي العام كوتايان كاتانكوت فينوغوبال بعلاقة المحكمة بالدولة في العام 2017، وأصرّ على "احترام الحكومة الدائم لهذه المؤسسة". لكن يبدو أن المحكمة العليا ومحاكم أخرى تزداد رضوخاً للسلطة التنفيذية اليوم، وقد تخلت بذلك عن مسؤولياتها الأساسية بالدفاع عن القيم الدستورية الجوهرية. أجّلت المحاكم جلسات الاستماع في قضايا تتطلب المثول أمام القضاء في كشمير ورفضت التدقيق بعمليات الاعتقال الجماعية التي نفذتها الحكومة في الإقليم المتنازع عليه. كذلك، حرمت المحاكم قادة المعارضة من إجراءات الكفالة التي تُمنَح للمواطنين العاديين.

ينجم تراجع استقلالية القضاء عن محاولة الحكومة إدراج جميع المؤسسات المستقلة في مشروع القومية الهندوسية. بالإضافة إلى المحاكم، سعت الحكومة إلى توسيع سيطرتها المباشرة على الجامعات العامة التي اعتادت على عدم استضافة منتقدي "حزب بهاراتيا جاناتا". حتى أنها أخّرت في بعض الحالات نشر البيانات الاقتصادية منعاً لمناقشة التباطؤ الحاصل. كذلك، يخشى أصحاب المؤسسات الإعلامية ورؤساء التحرير الذين ينتقدون الحكومة أن تستهدفهم الدولة. باختصار، يحصل "اندماج كشمير" تزامناً مع توسّع حملة مودي القومية الرامية إلى إخضاع الجميع وإنشاء بلد أحادي التوجه والأهداف. لكن وراء مظاهر الوحدة الرمزية، يكمن خوف حقيقي من نشوء جمهورية مبنية على تهديد المنشقين، وإسكات المعارضة ووسائل الإعلام، وتدمير المعايير الطبيعية لحماية المؤسسات. كان تحويل كشمير إلى منطقة اتحادية مؤشراً على طغيان الأغلبية الهمجية وإثباتاً على رغبة الهند في تخفيض مكانة ولايتها الوحيدة ذات الأغلبية المسلمة. أمام هذا الوضع، يمكن اعتبار إلغاء المادة 370 جزءاً من مشروع مودي القومي الهندوسي الكبير الذي يهدف إلى تجديد مركزية السلطة وقمع مطالبات الأقليات الوطنية. لطالما فشلت الهند في إقناع سكان كشمير بوعود الديموقراطية. لكن من الأصعب أن تتقبل كشمير حكم نيودلهي في ظل تحركات هذه الحكومة وخنوع المؤسسات الديموقراطية والأحزاب السياسية. ربما تظن الهند أنها فازت بكشمير، لكنها تخسر فعلياً جوهر نظامها الديموقراطي!


MISS 3