ما مصير الأفغان المتروكين؟

02 : 01

ضحايا هجوم يوم الخميس في مطار كابول
يوم الخميس الماضي، علّق الجيش الألماني رحلاته من كابول، فبقي آلاف الأشخاص الذين عملوا لصالح الألمان وحدهم لمواجهة مصيرهم. تأمل برلين في أن تُمهّد المفاوضات مع "طالبان" لإيجاد مخرج لهذه الأزمة.

في الأيام القليلة الماضية، انشغلت ألمانيا بسباق ضد الزمن وضد حركة "طالبان"، لكنها خاضت أيضاً معركتها الخاصة ضد إخفاقاتها وشعورها بالذنب. أصبحت حياة الناس في أفغانستان على المحك، واعتُبِر كل نجاح في مغادرة البلد انتصاراً صغيراً. لكن خسرت ألمانيا ذلك السباق في نهاية المطاف نظراً إلى استحالة إنقاذ عدد كبير من الناس.

يوم الخميس الماضي، انتهت عملية إجلاء الجنود الألمان. وفق مصادر مطّلعة في برلين، تمكنت ألمانيا من إجلاء 5300 شخص من 45 منطقة مختلفة بحلول يوم الخميس، لكن بقيت أعداد أكبر بكثير هناك. تذكر مصادر حكومية أخرى أن 7 آلاف شخص كانوا قد عملوا في مشاريع المساعدات التي موّلتها الحكومة الألمانية منذ العام 2013 حتى موعد الانسحاب هذه السنة، ولكل واحد منهم عائلة مؤلفة من خمسة أفراد تقريباً، أي ما مجموعه 35 ألف شخص. يقتصر هذا العدد على عمال الإغاثة، وهو جزء بسيط من الرقم الإجمالي.

قبل يوم من إنهاء مهمة الإجلاء أصرّ رئيس البرلمان الألماني، فولفغانغ شويبله، على استحالة ترك المجموعات التي ساعدت ألمانيا في أفغانستان لمواجهة مصيرها. لكن هذا ما حصل على أرض الواقع.

أولاً، لم يتوقع البلد عودة "طالبان". ثانياً، لم يرغب أحد في تقبّل استسلام أفغانستان من دون خوض أي معركة. أخيراً، لم تتحرك برلين بعد مع أنها أدركت عجزها عن إنقاذ الكثيرين. لقد أصبحت حياة العاملين السابقين لصالح ألمانيا في خطر، وقد يخسرون في الحد الأدنى حريتهم وحياتهم الخالية من المخاوف.

بدأت مهمة ألمانيا في أفغانستان منذ أن استلمت أنجيلا ميركل منصب المستشارة الألمانية، وها قد انتهت تلك المهمة الآن مع نهاية ولايتها، وتبدو ميركل أشبه بمراقِبة خارجية تعجز عن التحرك. أعلنت المستشارة الألمانية يوم الأربعاء خلال خطاب أمام البوندستاغ: "الأحداث التي شهدتها الأيام القليلة الماضية مريعة ومريرة بمعنى الكلمة. إنها مأساة حقيقية بالنسبة إلى الكثيرين في أفغانستان".

ستترافق الأحداث الراهنة مع عواقب كبرى على سمعة ألمانيا الدولية ومدى استعداد الناس حول العالم للتعاون مع القوات الألمانية والديبلوماسيين وعمال الإغاثة الألمان. لقد باتت الرسالة واضحة: لا يمكن الاتكال على ألمانيا.



عدد الأشخاص الذين تم إجلاؤهم من كابول بواسطة الجيش الألماني


بدأت المفاوضات مع حركة "طالبان" تُحدد الآن مسار المرحلة المقبلة وتنذر بقدرة البلد على إخراج المزيد من الناس من أفغانستان بعد إنهاء الإجلاء الجوي الأخير. هل يمكن إطلاق عمليات مماثلة براً؟ تُركّز جهود مكثفة راهناً على هذه الفكرة، لكن ثمة أمر واضح واحد حتى الآن: حتى لو استمرت عمليات الإجلاء بطريقة ما، لا يمكن إنقاذ جميع الأشخاص الذين تتحمل ألمانيا مسؤوليتهم. إنه وضع مشين فعلاً!

في فترة بعد الظهر من يوم الأربعاء، أوحت الظروف في مطار كابول بأن الوضع يتجه إلى التفاقم وفق مكالمات هاتفية مع عدد من الأشخاص المنتشرين ميدانياً. كانت الأيام السابقة فوضوية بما يكفي أصلاً، فقد تجمّع الناس حول البوابات في محاولةٍ يائسة منهم لإيجاد مخرج معيّن. لكن بدأت الأخبار تنتشر يوم الأربعاء حول انتهاء الإجلاء الجوي قريباً ووقف الرحلات وسحق الآمال المتبقية. وفق بعض المصادر، زادت مشاعر اليأس والسخط وسط الناس.

طوال أيام، تجمّع آلاف الأفغان في محيط البوابات والجدران المحيطة بالمطار وراحوا يلوّحون بالأوراق التي تثبت أنهم كانوا يعملون سابقاً مع مختلف جيوش حلف الناتو. اضطر الجيش الألماني الذي شمل حوالى 150 جندياً فقط في المطار لنشر جنود المظلات على البوابات والبدء بسحب أفراد معيّنين من الحشود.

في إطار جماعات صغيرة من المنسّقين الألمان، عمل العدد القليل المتبقي من الديبلوماسيين والجنود على مدار الساعة لإصدار لوائح جديدة تعطي الأولوية لأسماء محددة من الألمان المتبقين في كابول. كان يُفترض أن تُضاف أسماء الموظفين المحليين إلى تلك اللائحة لاحقاً وفق الخطة الأصلية. لكن لم تكف هواتف الديبلوماسيين في السفارة عن الرنين، فراحت شخصيات أفغانية، بما في ذلك وزراء سابقون، يتوسلونهم لمساعدتهم على الرحيل.

خلال تلك الساعات المشحونة، أنتجت التعليمات الصادرة من برلين ارتباكاً متزايداً بدل توضيح المواقف. اقتصرت الرسالة الواضحة الوحيدة على ما يلي: الأولوية للمواطنين الألمان دوماً، كما ينص عليه القانون القنصلي. لكن استمر تصاعد أعداد هؤلاء المواطنين يوماً بعد يوم. شعر الديبلوماسيون والجنود بالإرهاق وما كانوا ينامون لأكثر من ثلاث ساعات في كل مرة فوق فراش على الأرض.



البلدان التي قامت بإجلاء أكبر عدد منذ 14 آب 2021


ماذا سيحصل إذاً بعد انتهاء مهمة الإجلاء الجوي؟ هل من أمل حتى الآن؟

تُركّز المفاوضات المستمرة راهناً عبر قنوات مختلفة على هذا السؤال تحديداً، لا سيما تلك الحاصلة في الدوحة. تملك "طالبان" مكتباً لها في العاصمة القطرية، وقد تحوّل إلى ما يشبه وزارة الخارجية للإسلاميين بعد وصول الحركة إلى السلطة في أفغانستان.

تسعى الدول الغربية التي أنهت مهامها الديبلوماسية في كابول إلى التواصل مع أصحاب السلطة الجدد، إذ يصطف الديبلوماسيون لأخذ المواعيد في الدوحة. لقد أصبح انتزاع أي تنازلات مهمة من "طالبان" على المحك، لكن يرتفع احتمال إهدار أموال طائلة أيضاً.

على الجانب الألماني، ينشط بشكلٍ أساسي ماركوس بوتزيل، السفير الألماني السابق في أفغانستان، فهو يجيد اللغة الدرية وكان قد ركّز على هذه المنطقة من العالم طوال عقود. نظيره في قطر هو شير محمد عباس ستانيكزاي، نائب زعيم "طالبان"، المُلا عبد الغني بردار. تتعلق واحدة من المسائل الخاضعة للنقاش بكيفية ضمان استمرار عمليات الإجلاء.

بعد انتهاء الإجلاء الجوي، تحوّلت الأنظار إلى الطرق البرية. يقال إن حركة "طالبان" في الدوحة تعهدت بالسماح للناس بمغادرة البلد شرط أن يحملوا جواز سفر وتأشيرة. لكن يطرح هذا الشرط مشكلة بالنسبة إلى ألمانيا لأنها أوقفت إصدار التأشيرات في أفغانستان منذ بضع سنوات.

بعبارة أخرى، يحتاج الأفغان الراغبون في الهرب من "طالبان" إلى نيل تأشيرة من دول مجاورة مثل إيران أو باكستان أولاً. وحين يصلون إلى هناك، سيضطرون لتقديم طلب لنيل تأشيرة أخرى للدخول إلى ألمانيا. يرتفع احتمال ظهور عوائق كثيرة خلال هذه العملية، لذا لا يمكن الوثوق بها.

لكن هل ستحترم "طالبان" وعودها؟ يشهد الوضع تقلبات متواصلة، ويعتبر الديبلوماسيون، الإسلاميين في الدوحة واثقين بأنفسهم على نحو متغطرس من جهة، ومثقلين بالأعباء لدرجة اليأس من جهة أخرى. يقول مصدر مطّلع على الوضع في قطر إن هؤلاء الإسلاميين يتمتعون على ما يبدو بثقة مفرطة بأنفسهم لكنهم عاجزون في الوقت نفسه. يبدو أنهم لم يتوقعوا سقوط الحكومة بهذه السرعة وكانوا ينتظرون أن تمتد المرحلة الانتقالية لبضعة أسابيع على الأقل.

يبقى المال واحداً من آخر الحلول التي يتكل عليها الغرب في معظم الحالات. وفق هذا المنطق، يتساءل الغربيون: حركة "طالبان" تحتاج إلى أموالنا، لكن هل يستطيع عناصرها المنتشون بالنصر التصرف بطريقة منطقية؟ من المتوقع أن يصبح هذا السؤال محورياً خلال الأسابيع المقبلة. يقول وزير الداخلية الألماني، هورست زيهوفر: "لا يمكن السماح بوقف المحادثات. من دون الاتفاق مع "طالبان"، سيكون التوصل إلى مخرج آمن هدفاً مستحيلاً". في الوقت نفسه، بدأت الحكومة في برلين تفكّر بإرسال الديبلوماسيين إلى كابول، بالتعاون مع الدول الأوروبية الأخرى على الأرجح.

يوم الأربعاء الماضي، حاولت المستشارة الألمانية في خطابها أمام البوندستاغ تبرير تأخّر تحرك الحكومة الألمانية في أفغانستان، فقالت إن الوقت حان للتعامل مع الوقائع الجديدة في ذلك البلد: "يجب أن يتمحور هدفنا حول الحفاظ على أكبر قدر ممكن من التغيرات التي حققناها في أفغانستان خلال آخر عشرين سنة". لكن تلاشى جزء كبير من تلك التغيرات خلال أسابيع قليلة بعد الانسحاب الغربي. من الآن فصاعداً، كل ما يمكن فعله هو تجنب وقوع الأسوأ وإنقاذ أكبر عدد ممكن من الناس. لقد خسرت ألمانيا والغرب مصداقيتيهما في الوقت الراهن.




لكن رغم جميع مظاهر المعاناة والخوف اليوم، يظهر بصيص أمل في نهاية النفق. يمكن رصد ذلك الأمل مثلاً في قصة سميرة.

تغيّر اسم هذه الفتاة البالغة من العمر 19 عاماً حفاظاً على خصوصيتها. يوم الثلثاء الماضي، جلست سميرة على الكنبة في شقة عائلتها في ميونخ، وكانت تضع الحجاب على رأسها وترتدي ثوباً باللون الأخضر الداكن مع سروال ضيق. جلبت والدتها قالب حلوى وطبق بسكويت كي يتناولها أفراد العائلة. لم تعد يد سميرة ترتجف وقد نامت طوال يوم الإثنين تقريباً.

في بداية شهر آب، سافرت سميرة إلى كابول مع شقيقها ووالدتها لزيارة جدها للمرة الأخيرة قبل سقوط المدينة بيد "طالبان". ثم بدأت الظروف تتغير بوتيرة أسرع من المتوقع وبقيوا عالقين هناك.

قصد أفراد هذه العائلة المطار بشكلٍ متكرر في محاولة منهم للرحيل، لكن لم يحالفهم الحظ. تواصلت وحدة القوات الخاصة الألمانية مع سميرة، لكنّ بطارية هاتفها نفدت وانقطع الاتصال بين الطرفين. وصلت العائلة إلى المطار للمرة الأخيرة وتعرّف جندي من وحدة القوات الخاصة الألمانية على الفتاة واصطحبها مع عائلتها إلى داخل بوابات المطار. في صباح اليوم التالي، سافر الثلاثة إلى طشقند على متن طائرة تابعة للجيش الألماني.

تقول سميرة إنها سعيدة بعد عودتها، وتؤكد على أنها تتابع تبادل الرسائل مع الجندي الذي ساعدها من وحدة القوات الخاصة الألمانية، وتشعر بامتنان دائم تجاهه. لا تتعلق المشكلة بالجنود من وجهة نظرها، بل بطريقة التواصل مع وزارة الخارجية.

تضيف سميرة: "نحن تعرّضنا لمخاطر متكررة لأن أحداً لم يضع خطة لتنظيم طريقة وصولنا إلى المطار". في النهاية، كان نجاحها في مغادرة أفغانستان مجرّد حظ.


MISS 3