د. ميشال الشماعي

هولوكوست لبنان

8 أيلول 2021

02 : 00

تدخل الأزمة اللبنانيّة من جديد بازارات التفاوض الإقليمي، لا سيّما بعد الاتّصال بين الرئيسين الفرنسي والايراني، والمفاجئ في ما حصل ما نقلته مراسِلَة إحدى الصحف اللبنانيّة بأنّ باريس مقتنعة تماماً بأنّ المعطِّل في لبنان ليس "حزب الله" بل هو الوزير باسيل الذي يريد الاستحواذ على كلّ شيء. ويأتي دور باريس مع إيران هنا في الطّلب من الأخيرة بأن توعز لـ"حزب الله" بالضغط على باسيل للإفراج عن التشكيلة الحكوميّة المرتقبة. فمتى تولد الحكومة الجديدة؟ وهل "حزب الله" صار المفاوِض الإقليمي الرسمي باسم الدّولة اللبنانيّة؟

إنّ موضوع الأزمة اللبنانيّة أبعد بكثير من أزمة تشكيل حكومة. فهو بات في لبّ القضيّة اللبنانيّة. وهنا التمايز بين المصطلَحَين: الأزمة والقضيّة؛ حيث تحوّلت أزمة عابرة في لبنان ككلّ الأزمات التي تعصف في البلدان كلّها، قضيّة وجوديّة باتت تهدّد دور الفرقاء السياسيّين. لأنّه لم يعد من المهم حلّ هذه الأزمة بل صار المهمّ مَن سيحلّها ومتى ستأتي الساعة؟ وهنا بيت القصيد.

ممّا لا شكّ فيه أنّ أيّ حكومة مع أبطال هذه المنظومة بقيادة المنظّمة المسلّحة لن تسحب أيّ زير من أيّ بئر، بل على العكس ستمدّد عمر الأزمة أكثر لتفرض نفسها في جوهر القضيّة اللبنانيّة. ومن المفيد جدّاً التنبّه إلى أنّ مصطلح القضيّة اللبنانيّة قد استُخدِمَ للمرّة الأولى في مطلع القرن العشرين، يوم كان لبنان ما زال تحت حكم السلطنة العثمانيّة بغرض تحرير الأرض والارتباط العضوي مع الأناضول وتحقيق العيش معاً آنذاك نتيجة لنظام المتصرّفيّتين.

أمّا اليوم فباتت القضيّة اللبنانيّة تعني جوهر وجود لبنان الذي تطوّر من الميثاق الوطني 1943 إلى الوفاق الوطني في 1990. حيث لم يعد اليوم هذا الوفاق يرضي الفريق الشيعي في السلطة الذي اعتبر نفسه مغبوناً بعد الطّائف. وبعد الانتشاء الذي ينعم به "حزب الله" نتيجة لجبروت سلاحه، نجح بفرض أجندته السياسيّة ترغيباً في 6 شباط 2006، وترهيباً في 7 أيّار 2008 ليفرض سطوته على الدّولة. وهدفه لا يزال واحداً منذ تأسيسه، ضرب الكيانيّة اللبنانيّة التي لا تمثّل تطلّعاته الأيديولوجيّة المذهبيّة الإثنيّة، وبناء شخصيّة استتباعيّة للأمّة الإسلاميّة تحت راية الوليّ الفقيه التي لا تعترف بوجود أيّ كيان آخر، أو حتّى دولة تحت سلطتها.

وهذا ما يجب فهمه في النّهج المتّبع من المنظومة والمنظّمة طوال هذه العقود الثلاثة. فالمستفيد الأوّل من عدم وجود دولة هو هذه المنظّمة، لأنّها تحقّق بذلك هدفاً أيديولوجيّاً، وتلتزم بالهلال الشيعي الممتدّ من طهران إلى بغداد والشام فبيروت. والمنظومة تستفيد أيضاً لأنّها تحقّق مكاسبها وغاياتها الشخصيّة. من هذا المنطلق، قد تولد حكومة اليوم قبل الأمس لكنّها لن تكون الحكومة التي تريدها إيران في لبنان، لأنّها ستكون حتماً استجابة لطلب فرنسي بهدف استعادة ما تمّ إيقافه في فيينّا، أيّ المفاوضات النوويّة.

فما يريده "حزب الله" هو الحكومة التي ترتبط ببعد الأمّة الإسلاميّة في طهران، وهنا الخطورة. وهذا إن حصل في لبنان ستكون هذه الواقعة مثابة محرقة الكيانيّة اللبنانيّة التي لا يمكن استنهاضها من جديد إلا على قاعدة مقاومة الآباء والأجداد. وهذا ما يسعى إليه الوليّ الفقيه. بمعنى آخر، هولوكوست جديد في العالم سيكتب عنه التاريخ لاحقاً تحت مسمّيات مختلفة قد يكون إحداها: هولوكوست لبنان.

"حزب الله" اليوم يفاوِض على كيفيّة إحراق لبنان التاريخ، لأنّه بالحريق تزول إمكانيّة الإحياء من جديد. وذلك كلّه ليس خدمة لأبناء بيئته الحاضنة حتّى، لأنّهم كيانيّون لبنانيّون أصيلون، بل خدمة لمشروع ولاية الفقيه الذي ينطلق من إيران ويصبّ فيها فقط. فأبناء الجنوب والبقاع وبعلبك الهرمل يعانون أيضاً من انعدام الخدمات في الدّولة، ولن تتحسّن أحوالهم إلا بوجود دولة قادرة قويّة، لأنّ الارتباط بولاية الفقيه في إيران لن يؤمّن لهم أيّ خدمة ليبقوا راضخين لأمر الوليّ الفقيه بحكم الحاجة، والرّضوخ ليس من شيمهم.

وسط ذلك كلّه، المطلوب اليوم في لبنان واحد وهو: الحفاظ على الكيانيّة اللبنانيّة وتثبيتها أكثر، واسترجاع كلّ الذين تمّ إخراجهم منها تحت الذرائع الأيديولوجيّة. وهذا لن يتمّ إلا بثورة انتخابيّة تعيد إلى لبنان جوهره السياسي. وإن تمّ منع الانتخابات القادمة تحت أيّ ذريعة كانت فلن تنفع عندها إلا المواجهة، حتّى لو كانت باللحم الحيّ، لأنّنا قوم ارتضينا الحريّة ديناً لنا ووطناً للجميع. ولا نرضى بأن يفاوِض باسمنا كلبنانيّين أحرار أيّ فريق كان.

وبعد اليوم، المواجهة مفتوحة على المستويات كافّة لأنّ ما يتعرّض له لبنان هو حرب حضــاريّة تجسّد ما كتبه الفيلسوف اليهودي صمويل هنتنغتون في صراع الحضارات في تسعينات القرن المنصرم، وهذا فقط ما يخدم المشــروع الصهيوني الذي يدّعون محاربته. أقوى حرب تخوضها على عدوّ هي أن تتحصّن داخليّاً، لا أن تجعل دولتك دولة مارقة فاشلة وتدّعي مقاومة العدوّ، وتجوّع أهل وطنك وبيتك وناسك وبيئتك الحاضنة. ألم يحِن الوقت بعد لوعي حضاريٍّ في لبنان، يتجسّد في استرجاع الدّولة من براثن المنظومة والمنظّمة بإطلاق ثورة مقاومة لبنانيّة كيانيّة حقيقيّة أصيلة، عوض قرع الطبول والرقص في الساحات وتكسير الواجهات والبكاء على أطلال سويسرا الشرق؟


MISS 3