الولايات المتحدة لم تعد حالة استثنائية

02 : 01

الولايات المتحدة لن تعود زعيمة العالم الحر إذا تخلت عن حلفائها الاستراتيجيين والمدنيين الضعفاء...

مع انسحاب آخر جندي أميركي من أفغانستان عشية 30 آب ووصول حركة "طالبان" إلى مطار حميد كرزاي الدولي، راقب جزء كبير من العالم العربي الوضع هناك وراحوا يتساءلون عن احتمال أن تتكرر مشاهد مماثلة في مطار بغداد الدولي أو أماكن أخرى من المنطقة.

منذ طرح باراك أوباما برنامجه الانتخابي خلال حملته الرئاسية بناءً على شعار "إنهاء الحرب في العراق" في العام 2008، شكّل الدعم المحلي الشعبي لإنهاء التورط العسكري الخارجي قوة دافعة للسياسيين الأميركيين. تمكّن أوباما من إعلان نهاية حرب العراق في العام 2011، لكنه كان القائد العام الذي أصدر أمراً بتنفيذ تدخّل عسكري أميركي تحت اسم "عملية الحل المتأصل" لهزم تنظيم "داعش" هناك في العام 2014. لكن يبدو أن المشكلة الراهنة تفتقر إلى الحلول.

قرر الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب وخَلَفه جو بايدن الحفاظ على وجود عسكري يقتصر على 2500 جندي في أفغانستان، فأمّنا بذلك تغطية جوية ومعلومات استخبارية أساسية بالنسبة إلى الجيش الأفغاني. نتيجةً لذلك، لم يعد دعم الحكومة الأفغانية ضرورياً لتحقيق مصالح الأمن القومي الأميركية. لهذا السبب، سعت الإدارتان الأميركيتان الأخيرتان إلى الانسحاب من البلد. في 26 آب الماضي، أطلق فرع "داعش" في أفغانستان واحداً من أقوى الاعتداءات، فقتل أكثر من 170 شخصاً، منهم 13 عنصراً أميركياً.

شاهد العالــــــم العربي التداعيات الكارثية الناجمة عن سوء تنفيذ الانسحاب الأميركي، وشارك عدد من الدول العربية في جهود الإجلاء مباشرةً: تستضيف الإمارات العربية المتحدة موقتاً حوالى 9 آلاف أفغاني إلى أن يعاد توطينهم في دول ثالثة. واعتُبرت الكويت والبحرين وقطر نقاط ترانزيت أساسية لمن تم إجلاؤهم، بينما استقبل العراق عدداً صغيراً من الطلاب الأفغان.

في أوساط صانعي السياسة في الشرق الأوسط، تسود قناعة عامة الآن مفادها أن الولايات المتحدة لم تعد تهتم بالحفاظ على الاستقرار في الخارج، إلا إذا تأثرت مصالحها الوطنية الضيقة مباشرةً.

تطرّق بايدن علناً إلى الأزمة الإنسانية التي تلت الانسحاب من أفغانستان وأصرّ على صوابية قراره وطريقة تنفيذه. قال بايدن في تصريح أدلى به بتاريخ 16 آب: "مصلحتنا الوطنية الوحيدة في أفغانستان اليوم لا تزال على حالها: منع إطلاق هجوم إرهابي ضد الأراضي الأميركية. لقد أعلنتُ منذ سنوات عدة أن مهمتنا يجب أن تحصر تركيزها بمكافحة الإرهاب، لا مكافحة التمرد أو بناء الأوطان". أعطت هذه الرسالة صدىً قوياً وواضحاً في العالم العربي. في دول مثل ليبيا واليمن، حيث تستمر الصراعات ويُعتبر بناء الأوطان أساسياً، تخلّت واشنطن عن التزاماتها منذ سنوات. لكن أصبح هذا النوع من فك الارتباط سياسة رسمية الآن.

لكن لا يمكن حصر جهود مكافحة الإرهاب باستهداف الإرهابيين عبر ضربات بطائرات بلا طيار. طوال عقود، اعتبر الخبراء والمسؤولون في أوساط مكافحة الإرهاب أن المنظمات الإرهابية تزدهر في مناطق مجرّدة من الحُكم أو في مجتمعات تطغى عليها مظاهر الظلم. تُعتبر سوريا والعراق من أبرز الأمثلة على قدرة "داعش" على ترسيخ نفسها بسبب إخفاقات الحُكم الداخلي وعدم اهتمام واشنطن بمعالجة المسائل الأساسية في البلدين. هذا ما حصل نتيجة تدخّل الولايات المتحدة الأولي في تحديد تركيبة النظام العراقي بعد العام 2003 ودعمها للمعارضة السورية بعد العام 2011.

يدوّن حلفاء واشنطن وخصومها في الشرق الأوسط كل ما يحصل. بسبب تهديدات جماعات إرهابية مثل "داعش" أو ميليشيات جريئة مثل "حزب الله"، لم يعد حلفاء الولايات المتحدة يستطيعون الاتكال على واشنطن. فيما يشكك المسؤولون الأميركيون بخيارات بعض الدول، منها توثيق علاقات مصر والعراق والمملكة العربية السعودية مع الصين، يجب أن يدركوا أيضاً أن بكين باتت تُعتبر شريكة أكثر مصداقية من غيرها، مثلما أثبتت روسيا أنها شريكة جديرة بالثقة للرئيس السوري بشار الأسد وكانت ضامنة لصموده.

اتضح غياب واشنطن السياسي حين امتنعت الولايات المتحدة عن حضور قمة بغداد حول التعاون الدولي في 28 آب، مع أن جميع الأطراف الأخرى حضرت تلك القمة، بدءاً من رئيس الوزراء الإماراتي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وصولاً إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.

بعد تخلي الولايات المتحدة عن التزاماتها وفي ظل غياب الإجماع الأوروبي حول ملء هذا الفراغ، لم يعد إنشاء أنظمة حُكم على شكل ديموقراطيات ليبرالية غربية منطقياً. بعد عشرين سنة على بدء جهود نشر الديموقراطية باعتبارها نظام الحُكم الرائد، اقتنعت معظم الأطراف في الشرق الأوسط بأن الولايات المتحدة تخلّت عن مواقفها الشفهية السابقة.

قد لا يكون هذا التوجه سيئاً. يجب أن يصبح الحُكم الفاعل الهدف الأساسي بدل تشكيل الحكومات عبر صناديق الاقتراع بكل بساطة من دون أن تنفذ الوعود التي أطلقتها أمام شعوبها. فيما تتجه أنظار العالم اليوم إلى سقوط أفغانستان، بدأ تغيّر بارز آخر يتضح في تونس. بعد أشهر على فشل محاولات التعامل مع أزمة كورونا وسنوات من الفساد وتفشي مظاهر الحُكم الضعيف، أقال الرئيس التونسي قيس سعيد الحكومة وعلّق عمل البرلمان.

يحظى سعيد بتأييد واسع وقد حصد أكثر من 70% من التصويت الشعبي، لكن بدأ المسؤولون الأميركيون يطالبونه بتجديد عمل البرلمان من دون محاسبة المجلس التشريعي على تصرفاته. من الصادم أن نشاهد الحكومة الأميركية وهي تعقد المحادثات مع حركة "طالبان" فيما تُصدِر بيانات تطالب فيها الرئيس المُنتخَب ديمقراطياً في تونس بتنفيذ نسخة الحُكم التي تفضّلها واشنطن.

قد لا يكون هذا التداخل واضحاً من وجهة نظر الولايات المتحدة، لكنه كذلك حتماً في العالم العربي حيث يعكس هذا الوضع شكلاً فاضحاً من المعايير المزدوجة. لا يستطيع المسؤولون الأميركيون أن يطالبوا بتطبيق معايير أخلاقية في العالم العربي إذا كانوا لا يتأثرون بما يحدث اليوم ويعتبرون مشاهد مطار كابول مبررة.

انتشرت أصلاً شكوك في العالم العربي حول أداء إدارة بايدن بسبب تاريخ المسؤولين فيها، منها موقف بايدن حين كان عضواً في مجلس الشيوخ وأيّد تقسيم العراق في العام 2006، وتأثير وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن على رفض إدارة أوباما التدخّل رغم استعمال أسلحة كيماوية في سوريا في العام 2013.

كان عدد من المسؤولين في إدارة بايدن، بما في ذلك بلينكن، ومستشار الأمن القومي جايك سوليفان، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية ويليام بيرنز، ومديرة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية سامانثا باور، وبايدن بحد ذاته، في طليعة من اتخذوا قرارات أمعنت في نشر الفوضى في سوريا وليبيا واليمن خلال عهد أوباما. وكانت نائبة وزير الخارجية، ويندي شيرمان، مسؤولة عن التواصل مع السفراء وكبار المسؤولين العرب، فطمأنتهم إلى أن أي اتفاق مع إيران لن يحصل إلا بالتشاور معهم، مع أن سوليفان وبيرنز كانا يعقدان اجتماعات سرية مع الإيرانيين.

خلال تلك السنوات، زادت جرأة المتطرفين في أنحاء المنطقة. سيطر "داعش" على ثلث العراق والأراضي الشاسعة في سوريا، واكتسبت الميليشيات المدعومة من إيران طابعاً رسمياً في العراق بناءً على اتفاق مع واشنطن، وتفككت ليبيا وغرقت في حرب أهلية بعدما قررت واشنطن "القيادة من وراء الكواليس" غداة سقوط الدكتاتور الليبي معمر القذافي. حصلت هذه التطورات كلهم تحت أنظار الأميركيين.

قد تتجدد المخاطر الإرهابية في المقام الأول بسبب خصوم "طالبان" في تنظيم "داعش". ويعني التخلي عن الحلفاء الاستراتيجيين والمدنيين الضعفاء انهيار صفة الدولة الاستثنائية التي اكتسبتها الولايات المتحدة سابقاً. بدأ القادة السياسيون في الشرق الأوسط يتعلمون هذا الدرس بقدر الناشطين المدنيين.

قال أوباما في العام 2010، بعد إنهاء المهام القتالية في العراق: "النفوذ الأميركي حول العالم ليس نتاج القوة العسكرية وحدها. يجب أن نستعمل جميع عناصر قوتنا، بما في ذلك الديبلوماسية والقوة الاقتصادية وتأثير النموذج الأميركي، لتحقيق مصالحنا والوقوف إلى جانب حلفائنا. ويجب أن نطرح رؤية مستقبلية لا تُعبّر عن مخاوفنا حصراً بل عن آمالنا أيضاً. إنها الرؤية التي تعترف بالمخاطر الحقيقية حول العالم لكنها ترصد في الوقت نفسه الاحتمالات غير المحدودة في هذا العصر".

تابع أوباما قائلاً: "لن تكتفي الولايات المتحدة، بصفتها زعيمة العالم الحر، بهزم ناشري الكراهية والدمار في ساحة المعركة، بل إننا سنؤدي دورنا القيادي أيضاً وسط الأطراف المستعدة للتعاون بهدف توسيع الحرية والفرص لجميع الناس".

بعد مرور أكثر من عشر سنوات، يبدو ذلك الوعد المرتبط بتوسيع الحرية والفرص للجميع فارغاً. قد تزعم الولايات المتحدة أنها أكبر قوة اقتصادية في العالم ومعقل عظيم للابتكار، لكنها لم تعد قادرة على طرح نفسها كزعيمة للعالم الحر.

يدخل الوعد بمساعدة الشعب الأفغاني على عيش مستقبل أفضل وأكثر أماناً في خانة الوعود التي نكثت بها الولايات المتحدة. سيشعر الأفغان وجميع الأطراف التي تورطت في شؤون هذا البلد بتداعيات الأحداث الصادمة في أفغانستان طوال سنوات.

كان الليبراليون في أفغانستان والشرق الأوسط جزءاً من المعسكر الذي جاهر بولائه للولايات المتحدة علناً لكنهم يشعرون اليوم بالعار لأنهم كانوا بهذه السذاجة. في نهاية المطاف، يعني إعلان واشنطن انتهاء الحرب في أفغانستان أن الحرب انتهت من دون سلام، وغالباً ما تزيد مدة الحروب المطولة بسبب عمليات الانسحاب أحادية الجانب. نتيجةً لذلك، يخشى العالم العربي اليوم أن تصبح أراضيه معقلاً لأعمال العنف المتجددة.