دوغ باندو

ألمانيا تتجه يساراً... لكنّ سياستها الخارجية قد تميل إلى معسكر اليمين

13 أيلول 2021

المصدر: POLITICO

02 : 01

السباق الراهن لاستبدال أنجيلا ميركل قد ينتج حكومة جديدة بالكامل وفرصة لتوسيع هامش الاستقلالية في مجال الدفاع.

أصبحت ألمانيا على بُعد ثلاثة أسابيع من أول انتخابات لا تشارك فيها أنجيلا ميركل بصفتها مرشّحة "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" لتولي منصب المستشارة الألمانية منذ العام 2005. قادت ميركل أربع حكومات وأبقت ألمانيا وأوروبا "في أيدٍ أمينة" رغم الاضطرابات الاقتصادية، والصراعات الدولية، والخلافات الأوروبية.

لا يقدّم أيّ مرشّح ينوي استلام منصبها أداءً بمستواها، مع أن أولاف شولتس من "الحزب الاشتراكي الديمقراطي" طرح برنامجاً مستوحىً منها. عملياً، جذبت ميركل "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" وحزبه البافاري الشقيق، "الاتحاد الاجتماعي المسيحي"، نحو معسكر اليسار، فسرقت المسائل التي تهمّ "الحزب الاشتراكي الديمقراطي". يعتبرها البعض أنجح مستشارة بالنسبة إلى هذا الحزب. ترأست ميركل حكومات ائتلافية كبرى مع "الحزب الاشتراكي الديمقراطي"، واعتبر بعض الألمان هذه المقاربة ترتيباً مناسباً من ابتكار سياسيين معروفين. نتيجةً لذلك، استنزف الحزبان الحاكمان التقليديان أصوات الناخبين.

في غضون ذلك، توسّع حزب "الخضر" الذي كان هامشياً في السابق، وهو يطرح الآن مرشّحاً عنه في الانتخابات للمرة الأولى. يجمع هذا الحزب بين ناشطين يساريين ومناصرين وسطيين للبيئة، وتسود فيه انقسامات إيديولوجية حادة بين القادة والأعضاء. شهدت مواقف "الحزب الديمقراطي الحر" الليبرالي (وفق المعايير الأوروبية) والداعم لقطاع الأعمال تقلبات واسعة.

أما حزب "البديل من أجل ألمانيا" الكاره للأجانب، فقد شقّ طريقه نحو البوندستاغ وعدد من برلمانات الولايات، لكن رفضت الأحزاب الأخرى ضمّه إلى أي ائتلاف حكومي. أخيراً شارك حزب "اليسار"، وهو خليط من الشيوعيين السابقين من ألمانيا الشرقية والمتشددين من "الحزب الاشتراكي الديمقراطي"، في ائتلافات عدة على مستوى الولايات، لكن يرفض "الحزب الاشتراكي الديمقراطي" وحزب "الخضر" حتى الآن التعاون معه على المستوى الوطني أيضاً.

من المتوقع أن تفوز سبعة أحزاب بعتبة الخمسة في المئة الضرورية للوصول إلى البوندستاغ، لذا ثمة حاجة غير مسبوقة إلى تشكيل ائتلاف ثلاثي الأحزاب لإنشاء حكومة. تبرز ميول يمينية خفيفة في تحالف "الاتحاد الديمقراطي المسيحي"/"الاتحاد الاجتماعي المسيحي" وحزب "الخضر" و"الحزب الديمقراطي الحر"، أو تحالف "الاتحاد الديمقراطي المسيحي"/"الاتحاد الاجتماعي المسيحي" و"الحزب الاشتراكي الديمقراطي" و"الحزب الديمقراطي الحر". في المقابل، تسود ميول يسارية معتدلة في تحالف "الحزب الاشتراكي الديمقراطي" وحزب "الخضر" و"الحزب الديمقراطي الحر". أما التحالف الذي يحمل ميولاً يسارية قوية، فيشمل "الحزب الاشتراكي الديمقراطي" وحزب "الخضر" و"اليسار". سيُحدد مجموع الأصوات النهائية التحالف الطاغي، وهوية الفائز بمنصب المستشار الألماني، وطريقة توزيع المناصب الوزارية، والبرنامج السياسي النهائي.

رغم وفرة الاحتمالات المطروحة، انتشر توقّع مؤكد واحد حتى نهاية شهر آب. سيحصد تحالف "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" و"الاتحاد الاجتماعي المسيحي" معظم الأصوات، وسيحتل على الأرجح المركز الأول ويستلم دار الاستشارية في أي ائتلاف حكومي باعتباره الحزب الأكبر. خلال فترة معينة، بدا الاتفاق الذي يشمل حزبَين ويضم "الحزب الديمقراطي الحر" احتمالاً ضئيلاً. كان الخيار الأقرب إلى الواقع يتعلق بنشوء ائتلاف يشمل حزب "الخضر" و"الحزب الديمقراطي الحر"، على أن يكون "الحزب الاشتراكي الديمقراطي" بديلاً محتملاً لواحد من الحزبَين الآخرَين. لكن لم يعد الوضع كذلك اليوم.

ما من انتخابات تمهيدية لاختيار المستشار في ألمانيا. اختار حزب "الخضر" أنالينا بيربوك وتفوّق لفترة قصيرة ثم حافظ على المرتبة الثانية. أما شولتس، فقد تم اختياره كمرشّح بسهولة، مع أنه سياسي معتدل في حزب ذي ميول يسارية. لكن في خضم السباق المحتدم بين أرمين لاشيت من "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" وماركوس سويدر من "الاتحاد الاجتماعي المسيحي" لقيادة الائتلاف المشترك، فاز لاشيت لأن حزبه هو الأكبر حجماً. لكن فضّل عدد من أعضاء "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" سويدر الأكثر حيوية.

تتمتع هذه المجموعة ببصيرة نافذة على ما يبدو. أدت حملة لاشيت الباهتة والمليئة بالإخفاقات إلى تراجع مرتبة حزبه. في المقابل، أدى تفوّق شولتس الواضح إلى تحسّن مكانة "الحزب الاشتراكي الديمقراطي" بوتيرة ثابتة، فتفوّق هذا الحزب على تحالف "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" و"الاتحاد الاجتماعي المسيحي" بفارق صغير في نهاية شهر آب. كذلك فاز شولتس بأول مناظرة بسهولة، وقدّم تطمينات مشابهة لمواقف ميركل للناخبين الألمان. قد تتغير الرياح السياسية مجدداً، لكنّ الخيار الأكثــــر تطرفاً يبدو الأقرب إلى الواقع.

بصورة عامة، يُعتبر "الحزب الاشتراكي الديمقراطي" داعماً لسياسة التعاون الدولي ومؤيداً للاتحاد الأوروبي ولا يُركّز بقدر غيره على النزاهة المالية. لكنه يدعم الحلول السلمية بين الدول، وقد عارض زيادة الإنفاق العسكري لبلوغ عتبة الإثنين في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لتلبية معايير حلف الناتو. استلم "الحزب الاشتراكي الديمقراطي" وزارة الخارجية في الحكومة الراهنة، واتخذ بشكل عام مواقف تصالحية تجاه روسيا والصين. لكن توسّعت الانتقادات بحق بكين داخل الحزب، كما حصل في معسكر "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" و"الاتحاد الاجتماعي المسيحي".

كان أعضاء حزب "الخضر" يميلون تاريخياً إلى المواقف الأكثر سلمية، لكن يتخذ قادته مقاربة واقعية اليوم ويدعمون سياسة خارجية أكثر حزماً. يؤيد أعضاء هذا الحزب زيادة التركيز على حقوق الإنسان، ولو على حساب قطاع الأعمال: عارض الحزب مثلاً مشروع "نورد ستريم 2"، وهو يدعم سياسة التعاون الدولي ويدافع عن الاتحاد الأوروبي.

يظن أعضاء حزب "الخضر" أن ألمانيا يجب أن تكسب قدرات عسكرية إضافية، مع أن أعضاءه لا يحبذون وجود الأسلحة النووية الأميركية في أوروبا. في هذا السياق، قالت بيربوك: "أظن أن تحمّل الأوروبيين، وبالتالي الألمان، مسؤوليات إضافية لحماية أمننا الخاص هو نهج مناسب أو حتى ضروري". تعهد حزب "الخضر" بتمويل الجيش الألماني "بطريقة آمنة"، لكنه لم يُحدد قيمة ذلك التمويل.

يبدو موقف "الحزب الديمقراطي الحر" تجاه أوروبا مشابهاً لموقف "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" و"الاتحاد الاجتماعي المسيحي". يؤيد "الاتحاد الاجتماعي المسيحي" بدوره زيادة النفقات العسكرية لكنه يتردد في استعمال القوة العسكرية، كما حصل في ليبيا. يفضّل هذا المعسكر إعطاء الأولوية لحقوق الإنسان، لكنه يتابع محاولات تحسين العلاقات مع الصين وروسيا. كان "الحزب الديمقراطي الحر" يدعم معاهدة الاستثمار الأوروبي مع بكين، لكنه تخلى عن التزامه الرسمي بشعار "الصين الواحدة" ودعم في المقابل مطالبة تايوان باستقلالها. كذلك، دعا الحزب إلى تعليق مشروع "نورد ستريم 2".

يتعاطف حزب "البديل من أجل ألمانيا" مع روسيا، ويريد المشاركة في "مبادرة الحزام والطريق" الصينية، ويمقت أوروبا، ويدعم زيادة النفقات العسكرية، لكنه يحبذ السياسات الخارجية ذات الطابع القومي المتزايد ومن دون نشر قوات الناتو خارج المنطقة. يريد حزب "اليسار" من جهته أن تنسحب ألمانيا من حلف الناتو، وتتخلى عن تصدير الأسلحة، وتنهي الانتشار العسكري الخارجي. يطلق هذا الحزب أيضاً مواقف ودّية تجاه الصين وروسيا ويبدي استعداده لإزالة العقوبات المفروضة عليهما.

على صعيد آخر، يبدو الشعب الألماني أقل ميلاً من قادته إلى دعم الولايات المتحدة. وفق استطلاع أجراه "المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية" في وقتٍ سابق من هذه السنة، تبيّن أن 19% من الألمان فقط يعتبرون الولايات المتحدة حليفة لبلدهم، بينما يعتبرها 39% منهم "شريكة ضرورية". يضع الآخرون واشنطن في مصاف الخصوم أو الأعداء أو لا يحددون موقفهم منها. هذه النتيجة ليست مُطمئنة بأي شكل. يقول آدم تايلور من صحيفة "واشنطن بوست": "يكشف استطلاع نشرته صحيفة "فيلت" وأجرته شركة الاستطلاعات Infratest Dimap في كانون الأول الماضي أن 17% من الألمان فقط يدعمون الاصطفاف مع الولايات المتحدة في أي صراع محتمل بين واشنطن وبكين، ويفضّل ثلاثة أرباعهم التمسك بموقف حيادي".

ما يثير الدهشة أيضاً هو زيادة تردد الشعب الألماني في الدفاع عن الدول المجاورة. وفق استطلاع أجراه "مركز بيو للأبحاث" في السنة الماضية، دعم ثلث الألمان فقط القتال من أجل الأوروبيين الآخرين (علماً أن أهاليهم كانوا قد استفادوا من حماية حلف الناتو على مر الحرب الباردة). تراجع الدعم للحلف من 73% في العام 2009 إلى 57% في العام 2019، وهو ثاني أكبر تراجع تسجّله استطلاعات الرأي. لن تتحسن هذه الأرقام على الأرجح بعد النهاية الكارثية في أفغانستان، إذ يعتبر الألمان ما حصل هناك هزيمة حقيقية. شارك "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" و"الاتحاد الاجتماعي المسيحي"، و"الحزب الاشتراكي الديمقراطي"، وحزب "الخضر"، في السياسة المعمول بها.

تزداد المؤشرات التي تنذر بأن الانتخابات الألمانية المقبلة لن تُحدِث تغييراً في هوية المستشار الألماني فحسب، بل في شكل الحكومة أيضاً. سيترافق هذا الوضع على الأرجح مع تحولات غير متوقعة في سياسة برلين الخارجية.

يجب أن يستفيد الرئيس الأميركي جو بايدن، الداعم الأول للعلاقات العابرة للأطلسي، من هذه الفرصة لإعادة التوازن إلى المسؤوليات الدفاعية في أوروبا. كان يُفترض أن يكون الوجود العسكري الأميركي موقتاً في الأصل، لكن لا تزال القارة الأوروبية تتكل على الولايات المتحدة بعد مرور عقود عدة.

بدل الضغط على برلين لدفعها إلى بذل جهود إضافية، يجب أن تتراجع واشنطن قليلاً وتسمح للحكومة الألمانية بتعديل سياستها بما يتماشى مع الوضع القائم. تبدأ هذه المرحلة بعدما يقيّم الشعب الألماني مدى خطورة التهديدات الأمنية التي يواجهها ويُحدد طريقة التعامل معها.


MISS 3