بيني غانتس يتطلّع إلى رئاسة الحكومة الإسرائيلية

02 : 01

تكشف مواقف وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس وأفعاله في الأسابيع القليلة الماضية أنه أصبح أكثر نضجاً من الناحية السياسية ولا يزال يتطلع إلى استلام رئاسة الحكومة يوماً.

في مقابلة نشرتها مجلة "فورين بوليسي" في 14 أيلول الماضي، صرّح وزير الدفاع بيني غانتس بأن إسرائيل ستبدي استعدادها لتقبّل أي اتفاق نووي تتفاوض عليه الولايات المتحدة مع إيران. يثبت هذا الكلام تبدلاً واضحاً في المواقف، بما يختلف عن العقيدة التي تبناها رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو وكانت قد شكّلت ركيزة السياسة الإسرائيلية في آخر 12 سنة. تكشف هذه المقابلة أيضاً أن غانتس هو الذي يحدد سياسة الدفاع الإسرائيلية اليوم.

ورداً على سؤال حول الجهود التي تبذلها واشنطن لعقد اتفاق جديد مع طهران، أجاب غانتس: "سأتقبّل المقاربة الأميركية الراهنة التي تهدف إلى إعادة ضبط برنامج إيران النووي". ثم أضاف أن إسرائيل تريد أن تضع "خطة احتياطية عملية بقيادة الولايات المتحدة"، على أن تشمل ضغوطاً اقتصادية قوية على إيران إذا فشلت المحادثات.

عبّر غانتس في المقابل عن تحفظه تجاه الجهود الدبلوماسية الراهنة لإعاقة برنامج إيران النووي، فشدد على ضرورة أن تشمل الخطة الاحتياطية ضغوطاً دبلوماسية واقتصادية على طهران من الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا والصين: "يجب أن نتواصل مع الصين حول هذا الموضوع أيضاً. تؤدي آسيا دوراً مهماً في هذا الملف". على صعيد آخر، قال غانتس إن قوات الدفاع الإسرائيلية بدأت تُحضّر خياراً عسكرياً لكبح برنامج إيران النووي: "إذا تفاقم الوضع، سنلجأ إلى هذا الخيار... نحن لسنا بمستوى الولايات المتحدة، لكننا نملك قدراتنا الخاصة".

تكشف التقارير الجديدة أن إيران أحرزت تقدماً بارزاً في جهودها الرامية إلى اكتساب قدرات نووية، وقد أعلن غانتس شخصياً في المقابلة الأخيرة أن إيران أصبحت على بُعد شهرَين أو ثلاثة أشهر من امتلاك تلك القدرات. وبما أن الولايات المتحدة تشارك في جهود دبلوماسية مكثفة للتوصل إلى اتفاق نووي جديد ومُحَسّن، تحمل مواقف غانتس أهمية كبرى.

بناءً على مواقف الوزراء الإسرائيليين السابقة حول هذا الموضوع، يسهل أن نفترض أن غانتس ما كان ليطلق هذا النوع من التصريحات لو كان جزءاً من حكومة نتنياهو. أدار نتنياهو وحده الصراع الدبلوماسي ضد قدرات إيران النووية حين كان رئيس الوزراء الإسرائيلي، فضغط على الرئيس الأميركي دونالد ترامب للانسحاب من ما اعتبره "اتفاقاً "كارثياً" مع إيران كان قد تفاوض عليه الرئيس باراك أوباما.

لم يتنصل ولو وزير واحد، بمن في ذلك رئيس الوزراء نفتالي بينيت ووزير الخارجية يائير لبيد، من موقف غانتس ولم يطرح أحد مقاربة مختلفة، ما يثبت أن غانتس بات يمثّل السلطة الحقيقية التي تدير الشؤون الأمنية في الحكومة الراهنة وقد نجح في طرح أجندته الخاصة.

فاز حزب "أزرق أبيض" الذي يقوده غانتس منذ تأسيسه بـ35 مقعداً في الكنيست في نيسان 2019. وقبيل انتخابات آذار 2021، انهارت نسبة تأييد غانتس في استطلاعات الرأي بعد انضمامه إلى آخر ائتلاف حكومي بقيادة نتنياهو رغم جميع وعوده للناخبين. شكك المشاركون في الاستطلاعات بأن يتجاوز الحزب العتبة الانتخابية المطلوبة. كان غانتس يُعتبر حينها جزءاً من بقايا الشخصيات السياسية القديمة. دعا قادة معسكر اليسار الوسطي، بما فيهم رئيس حزب "يش عتيد" يائير لبيد، ورئيسة "حزب العمل" ميراف ميخائيلي، غانتس إلى الانسحاب من السباق. برأيهم، ما كان غانتس ليحصد العتبة الانتخابية المطلوبة، ما يعني أنه سيهدر أصوات مؤيدي كتلتهم التي تحارب لانتزاع منصب نتنياهو.

لكن رفض غانتس التنازل رغم كل شيء. حارب رئيس هيئة الأركان العامة السابق عبر إطلاق حملة سياسية بدت محكومة بالفشل في البداية، لكنه عاد وحصد ثمانية مقاعد مبهرة، أي أكثر من العدد الذي يملكه رئيس الوزراء الراهن بمقعدَين. هذا الفوز أعطى غانتس قوة كبيرة في الحكومة الجديدة التي كانت تتكل بالكامل على مكوّناتها الفردية.

انتقد غانتس تشكيل تلك الحكومة بقوة لأن حزب "الليكود" كان لا يزال يعتبره شريكاً محبذاً رغم خلافه مع نتنياهو. حتى أن نتنياهو شخصياً قدّم له عرضاً للانضمام إليه وكان مستعداً للسماح له بتولي رئاسة الحكومة خلال الجولة الأولى من اتفاق يستند إلى التناوب على هذا المنصب. لكن رفض غانتس ذلك العرض وفضّل أن يصبح وزير الدفاع في حكومة يرأسها بينيت ولبيد، مع أنه لا يحمل تقديراً شديداً لأيٍّ منهما على ما يبدو. وحتى هذه اللحظة، بعد مرور ثلاثة أشهر على نشوء الحكومة الجديدة، لم يبذل غانتس جهوداً كبرى لإخفاء استيائه مما آلت إليه الأمور.

بدأ غانتس، بعد ثلاث سنوات تقريباً على انخراطه في المعارك السياسية، يثبت أنه تعلّم كيفية التحايل على الألغام السياسية في إسرائيل. هو يعرف حجم قوته في هذا الائتلاف المنقسم إيديولوجياً ويدرك تفوّقه في الشؤون الأمنية، لا سيما داخل حكومة جديدة تفتقر إلى الخبرة.

اتضحت مقاربته المستقلة في الشؤون السياسية خلال اجتماعه مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس في رام الله في 29 آب الماضي. إنه أول لقاء يشارك فيه عباس مع مسؤول إسرائيلي رفيع المستوى منذ أكثر من عشر سنوات. كان بينيت يهاجم عباس طوال سنوات ويعتبره إرهابياً، لكنه وافق على هذا اللقاء الآن. اتّهم مسؤولون مقرّبون من بينيت غانتس بتنظيم ذلك اللقاء لحصد منافع سياسية وذكروا أن رئيس الوزراء لا يزال يرفض مقابلة عباس، لكن لم يتأثر غانتس بهذه المواقف. خلال الأيام القليلة اللاحقة، أصدر مكتبه تقارير إضافية حول النتائج الملموسة التي حققها ذلك الاجتماع غير المألوف.

شملت تلك النتائج عقد اتفاق حول الوضع الإنساني لآلاف الفلسطينيين، وتقديم قرض بقيمة 500 مليار شيكل إسرائيلي (156 مليار دولار) إلى السلطة الفلسطينية، واتخاذ تدابير أخرى لبناء الثقة بين الطرفَين. قال غانتس خلال مؤتمر صحافي: "كلما زادت قوة السلطة الفلسطينية، ستصبح حركة "حماس" أكثر ضعفاً. وكلما زادت قدرتها على الحُكم، سيتحسن وضعنا الأمني وتتراجع الجهود التي نضطر لبذلها".

على غرار الملف الإيراني، بدأ غانتس يطلق مساراً مستقلاً في تعامله مع القضية الفلسطينية. تختلف مقاربته اليسارية الوسطية كثيراً عن نهج نتنياهو الذي تبنى سياسات قادرة على تقوية حركة "حماس" تزامناً مع إضعاف عباس لدرجة ألا يعود دوره مهماً بأي شكل.

عبّر وزراء يمينيون، مثل رئيس حزب "أمل جديد" ووزير العدل جدعون ساعر، عن تحفظهم بعد لقاء غانتس وعباس، ومع ذلك لم يحاول أي طرف في الحكومة الراهنة إضعاف خط التواصل المباشر الذي فتحه غانتس مع رام الله وسمح له بإيجاد حل لنقل المساعدات المالية القطرية.

يبدو أن الحكومة الجديدة تفيد غانتس على مستويات عدة إذاً. لقد تعلّم كيفية التلاعب بالمشهد السياسي لمصلحته وتنفيذ أجندته الخاصة. هو يدرك جيداً أن الحكومة ما كانت لتنشأ من دونه، وسبق وذكر أنه لا ينوي التنازل عن منصبه كوزير دفاع. وفي المقابلات الأخيرة، قال غانتس إنه لم يتخلَ عن حلمه بترؤس الحكومة يوماً.

كان هذا الموقف معقداً من الناحية السياسية وقد طرح تهديداً واضحاً على رؤساء الأحزاب الأخرى في الائتلاف، حين ألمح إلى احتمال أن يُسقِط الحكومة في أي لحظة ويتعاون مع نتنياهو ويصبح رئيس الوزراء بين ليلة وضحاها. منطقياً، من المستبعد أن يأخذ غانتس هذه المجازفة، لكنه يحاول بهذه الطريقة إقناع الجميع بأنه يملك خيارات أخرى.

لقد أصبح غانتس سياسياً متمرساً وبلا مشاعر، وهو يتلاعب بجميع الأطياف السياسية الإسرائيلية. لكنه لا يمقت نتنياهو، على عكس أعضاء آخرين في الحكومة، بل يحافظ على قناة تواصل مع حزب "الليكود" والمتدينين المتشددين والعرب. في عالمٍ سياسي جنوني حيث يستطيع من يملك ستة مقاعد فقط أن يستلم رئاسة الحكومة، قد يصبح غانتس بديلاً عنه إذا أصبحت الظروف مؤاتية.


MISS 3