مستقبل عمليات الغزو حول العالم

02 : 01

قد تبدو العلاقة بين عمليات الغزو والصراعات مباشرة: يكفي أن يطلق طرف معيّن الحرب ثم يسيطر على ساحة المعركة كي يستولي على الأرض التي يريدها. لكن مع مرور الوقت، لم تعد هذه الطريقة معتمدة كي تستولي الدول على أراضي الآخرين، بل إنها تلجأ الآن إلى استراتيجية مختلفة، فتستولي على قطعة صغيرة من الأرض سريعاً وبأقل قدرٍ من سفك الدماء، ثم تحاول تجنّب الحرب. اليوم، تبدو عمليات الغزو أقرب إلى ما فعلته روسيا في شبه جزيرة القرم وما قد تفعله الصين مجدداً في بحر الصين الجنوبي.

ما لم تسترجع الولايات المتحدة قدرتها على ضبط النفس بدرجة غير مسبوقة منذ هجوم "بيرل هاربر"، قد لا يصبح الابتعاد عن الصراعات الإقليمية المستقبلية سهلاً بقدر ما كان عليه في الماضي. تتعدد نقاط الاشتعال الخطيرة التي تضع الصين أو روسيا في وجه حلفاء واشنطن وتُهدّدهم بالاحتلال. لذا سيكون توقّع مسار اشتعال تلك النقاط أساسياً لفهم صراعات العالم المستقبلية والمعضلات التي تنتظر الولايات المتحدة خلال السنوات المقبلة.

الصين ومستقبل الغزو

سيتوقف مسار القرن الواحد والعشرين على قرار الصين بالاستيلاء على الأراضي والأماكن التي تستهدفها. فيما يكتسب هذا البلد قوة اقتصادية وعسكرية متوسّعة، تجازف خلافاته مع عدد كبير من جيرانه بإطلاق الحرب.

لا يعكس احتلال تايوان المباشر شكلاً من الغزو المعاصر، لكنّ الاستيلاء على جزر صغيرة تملكها تايوان يدخل في هذه الخانة. يخطئ من يخطط لمواجهة أي نوع من الغزو أو الحصار أو القصف الجوي الصيني ضد تايوان إذا كان يهمل السيناريو الأقرب إلى الواقع، أي استيلاء الصين على جزر تايوانية نائية.

تسيطر تايوان على جزيرتَــــي "كينمان" و"ماتسو" اللتين تقعان في نطاق مدفعيات الساحل الصيني. يسمح الاستيلاء على الجزيرتَين لبكين بحشد الشعب الصيني حول عَلَمه، وتوجيه رسالة ترهيب واضحة إلى تايوان، والمجازفة بإطلاق مواجهة عسكرية في أفضل ظروف ممكنة. كذلك، ستصبح واشنطن أمام مجموعة مريعة من الخيارات: التدخّل بالقرب من بر الصين الرئيسي للدفاع عن الجزر الصغيرة، أو مواجهة تُهَم بالتخلي عن تايوان وتركها لتحمّل الهزيمة وحدها.

تشمل تايوان أيضاً أكبر جزر "سبراتلي"، وهي "إيتو أبا" و"براتاس" في بحر الصين الجنوبي. جذبت الاضطرابات التي تضع الصين في مواجهة الفيليبين أو فيتنام مستوىً عالياً من الانتباه، لكن تثبت الانقسامات العميقة بين بكين وتايبيه أن الصين قد تفضّل مهاجمة تايوان بعد مطالبتها بجزر "سبراتلي". وقد تميل الصين إلى الاستيلاء على جزيرة "إيتو أبا" قبل أي منطقة دفاعية أخرى في إطار نزاعاتها الإقليمية المتعددة.

أخيراً، ستبقى الحدود الشاسعة والوعرة بين الصين والهند مناطق غير محصّنة وبيئة خصبة للأعمال الإرهابية. ستنتهي معظم الأزمات التي تشبه تلك التي شهدتها "لاداخ" من دون اندلاع الحرب. لكن يبقى خطر الحرب حقيقياً، على غرار المواجهات التي تمتد على سنوات أو حتى عقود وتزرع بذور الصراعات المستقبلية. من الناحية الإيجابية، انتهى عدد صغير من تلك الحوادث بعقد اتفاقيات الانسحاب المتبادل، كتلك التي تفاوضت عليها الهند والصين في شباط 2021 في مناطق محيطة ببحيرة "بانجونج" في "لاداخ".

لكن لا تستطيع نيودلهي أن تثق بقوة هذه الاتفاقيات في جميع الظروف. وتنشئ اتفاقيات الانسحاب المتبادل مناطق حيادية بين القوات الصينية والهندية، لكن سرعان ما تصبح تلك المناطق أهدافاً مغرية لأي محاولات مستقبلية للاستيلاء على الأراضي.

روسيا ومستقبل الغزو

لم يسبق أن سبّب أي حدث تغيرات شائكة على مستوى الأمن الأوروبي منذ نهاية الحرب الباردة بقدر الغزو الروسي لأوكرانيا في العام 2014. أدى الاستيلاء على شبه جزيرة القرم إلى تدمير الأمل الزائف المرتبط بانتهاء عصر الغزو في أوروبا. يفسّر هذا الحدث السبب الذي يجعل الغزو الروسي المقبل التهديد الخارجي الأكثر إلحاحاً على استقرار أوروبا. لكن متى سيحصل ذلك الغزو؟

يفترض أقرب سيناريو إلى الواقع أن تستولي روسيا فجأةً على منطقة أصغر حجماً، مثل بلدة "نارفا" الإستونية التي تصل إلى روسيا وتضم سكاناً ناطقين باللغة الروسية في معظمهم. لكن في هذه المنطقة أيضاً، من غير المألوف أن يستولي أي بلد على أرضٍ لا يطالب بها علناً منذ وقتٍ طويل. من الإيجابي ألا تُعبّر موسكو عن هذا النوع من المطالب في البلطيق، مع أن استعدادها لاختلاق الأعذار وتبرير غزوها لشبه جزيرة القرم يُفترض أن يكبح أي توقعات تفاؤلية.

تزداد قوة الردع ضد الغزو الروسي بفضل انتشار حلف الناتو في البلطيق. حتى أن التجارب التاريخية تثبت أن ردع روسيا لن يفرض على الناتو أن يحافظ على قوة عسكرية كافية في شرق أوروبا للتصدي لأي غزو سريعاً. فمقابل هزيمة كل محاولة غزو ومنعها من تحقيق أهدافها، تتعدد الحالات التي نجح فيها المعتدون في بلوغ أهدافهم قبل إخراجهم لاحقاً عن طريق الضغوط السياسية أو القوة العسكرية في معظم الأحيان. كما لا تملك روسيا أسباباً تاريخية منطقية كي تفترض أن أي صراع محتمل سينتهي عن طريق الصدفة بعد التقدّم في المراحل الأولى لكن قبل تحرك الناتو.

يدعونا تاريخ الغزو المعاصر في البلطيق إلى التفاؤل، لكن تبقى الانتهاكات الروسية في أوكرانيا وجورجيا ممكنة. ولا تدخل أوكرانيا ولا جورجيا في خانة حلفاء واشنطن عبر حلف الناتو، ما يعني أن الولايات المتحدة وقوات الناتو لن تتدخل في المرحلة المقبلة.

في إقليم "دونباس" الأوكراني وفي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا في جورجيا، عقدت روسيا شراكة مع ثوار محليين (ظاهرياً)، فأتقنت فن الاستيلاء على الأراضي تزامناً مع إخفاء دورها. من خلال نزع الشارة من زيّ "الرجال الخضر"، تمكنت روسيا من إنكار تورطها في غزو شبه جزيرة القرم ولو على مضض. ونظراً إلى نجاحها في هذا التكتيك، قد تُجرّبه موسكو مجدداً في أوكرانيا وجورجيا، أو حتى ضد حلفاء الناتو مثل إستونيا.

هذه التكتيكات ليست جديدة ولا مبتكرة. في العام 1919، حاولت فنلندا الاستفادة من الفوضى التي أحدثتها الحرب الأهلية الروسية عبر إرسال آلاف الجنود المتنكرين على شكل متطوعين مستقلين لاحتلال منطقة كاريليا الشرقية الحدودية. لكن الجيش الأحمر هزم القوة الغازية. وفي العام 1999، هزم الجيش الهندي بدوره مسلحين من كشمير، علماً أنهم كانوا فعلياً جنوداً باكستانيين.

للرد على تكتيك "الرجال الخضر"، تقضي أفضل طريقة بهزم التوغل، حين تسمح الظروف، وكأن المعارضة تشمل متمردين حقيقيين ولا علاقة لروسيا بهم. لا تستطيع روسيا أن تتمسك بهذه الخدعة وتتدخّل بالكامل عبر استعمال القوة الجوية انطلاقاً من القواعد الروسية مثلاً. ومن خلال السماح لموسكو بإنكار هزيمتها، يرتفع احتمال أن تتقبل روسيا هزيمة محدودة بدل تصعيد الصراع. يجب أن تدرك الولايات المتحدة أن قوتها العسكرية لن تفيدها كثيراً لمواجهة هذا التهديد، وتسعى إلى مساعدة شركائها على تقوية أنفسهم. سيكون حجم القدرات العسكرية الأوكرانية والجورجية أهم عامل لردع أي غزو روسي مستقبلي.

الولايات المتحدة ومستقبل الغزو

تتكرر عمليات الاستيلاء على أراضٍ صغيرة طوال الوقت حول العالم، لكن تردّ الولايات المتحدة بالطريقة نفسها في معظم الأوقات، فتفضّل البقاء خارج الصراع. وحدها محاولات العراق وكوريا الشمالية لغزو الدول المجاورة لهما دفعت الجيش الأميركي إلى التدخل مباشرةً. يؤكد هذا السجل الواقعي السبب الذي يجعل عمليات الغزو الصغيرة مصدر ارتباك للسياسة الأميركية خلال السنوات المقبلة.

اليوم، تُهدد عمليات الغزو الصغيرة حلفاء واشنطن وشركاءها في آسيا وأوروبا مباشرةً. ترتكز هذه العمليات بشكلٍ أساسي على حسابات مرتبطة بالمساحات التي يمكن الاستيلاء عليها من دون شن حرب شاملة وتتوقف على المصالح الوطنية للأطراف المعنية. هي لا تتمحور حول الحسابات العسكرية إلا بطريقة جزئية، ولا يُعتبر ميزان القوى مؤشراً بارزاً الى نتائج الغزو المحدود. لهذا السبب، ستكون نتائج زيادة الإنفاق الأميركي على الدفاع أو نشر قوات إضافية في آسيا أو أوروبا هامشية. من الطبيعي أن تشكّ الصين وروسيا باحتمال أن تشمل التحالفات الأميركية الأراضي الصغيرة، مع أنها مُصمَّمة في الأصل للتعامل مع الأعمال العدائية الأكبر حجماً. حتى أن التجارب التاريخية تثبت أن واشنطن لن تفترض أن حلفاءها سيطالبون بالتدخل العسكري الأميركي لطرد القوات الصينية من جزرهم المحتلة مثلاً.

تبرز أدلة مقنعة على فعالية مقاربة واحدة لردع الغزو المحدود: "قوة التعثر" (التزام الجانب المُدافِع بِرَدّ مُسلّح على أي عدوان مستقبلي من دون إطلاق دوامة من الأحداث الأمنية). طوال عقود، نجحت استراتيجية "قوة التعثر" التي طبّقها حلف الناتو في صدّ الاتحاد السوفياتي وحافظت على مقاطعة برلين الغربية في عمق ألمانيا الشرقية، مع أن هذه المنطقة كانت محاصرة بالكامل ولا يمكن الدفاع عنها. كذلك، تابعت الولايات المتحدة تطبيق الاستراتيجية نفسها في كوريا الجنوبية في آخر 75 عاماً، باستثناء السنة التي شهدت غزو كوريا الشمالية. وتحرص هذه المقاربة على متابعة فرض الأمن في دول البلطيق خلال السنوات المقبلة.

لكن يتخبّط نظام الردع الأميركي في عدد كبير من نقاط الاشتعال المحتملة مع الصين لأن "قوة التعثر" الأميركية غائبة هناك. لا تحمي أي قوات مماثلة جزر "سينكاكو" أو "سبراتلي" وتايوان، وتتراجع الرغبة السياسية في نشرها خلال المراحل المقبلة. وفي المواجهة القائمة مع روسيا، ينطبق الوضع نفسه على أوكرانيا وجورجيا. في الأماكن التي تمتنع فيها واشنطن عن التحرك، تُعتبر استراتيجية "قوة التعثر" التي تطبّقها الدول الشريكة أقوى أداة متاحة، لكنها لا تضمن النجاح.

سيحمل مستقبل المنافسة بين القوى العظمى مع الصين وروسيا صوراً من الحربَين العالميتَين والحروب الإلكترونية والتجارية. وتُعتبر هذه التهديدات كلها حقيقية، لكن تكشف التجارب التاريخية أن الاستيلاء المفاجئ على أراضٍ صغيرة سيبقى أبرز سبب لإشعال الحروب أو اقتراب اندلاعها بين الدول القوية. ولكن رغم صغر الأراضي المحتلة، لن تكون هذه التطورات عابرة ولم يشهد العالم بعد آخر حملات من هذا النوع.