مايكل بيكلي

نهاية حقبة الصعود الصيني

8 تشرين الأول 2021

المصدر: Foreign Affairs

02 : 01

الرئيس الصيني شي جين بينغ في احتفال في ساحة تيانانمن / بكين، أيلول 2021
يسود إجماع عام في واشنطن وأماكن أخرى حول تفوّق الصين الوشيك على الولايات المتحدة. قال الرئيس جو بايدن: "إذا لم نتحرك، سيتفوقون علينا قريباً". بدأت الدول في كل مكان تستعد لبلوغ الصين المرتبة الأولى وفق تصريح دبلوماسي آسيوي.

تتعدد الأدلة التي تدعم فكرة تفوق الصين. ارتفع الناتج المحلي الإجمالي الصيني بأربعين ضعفاً منذ العام 1978. وتملك الصين أكبر الاحتياطيات المالية في العالم، وأعلى مستوى من الفائض التجاري، وأهم اقتصاد من حيث تعادل القدرة الشرائية، وأقوى قوات بحرية بناءً على عدد السفن. فيما تتعامل الولايات المتحدة مع انسحابها الفوضوي من أفغانستان، تشق بكين طريقها بكل قوة لإنشاء قارة آسيوية محورها الصين وأخذ مكانة واشنطن على رأس التسلسل الهرمي العالمي.

لكن قد تبدو بكين مستعجلة في مسيرتها لأن صعودها يوشك على الانتهاء. زادت سهولة الصعود الصيني على مر عقود عدة بفضل "رياح خلفية"، لكنها تحوّلت اليوم إلى "رياح معاكسة". تحاول الحكومة الصينية إخفاء شكلٍ حاد من التباطؤ الاقتصادي وعودة واضحة إلى التوتاليتارية الهشة. يواجه البلد مشاكل عدة مثل شحّ الموارد، ويسجّل أسوأ انهيار ديمغرافي في زمن السلم عبر التاريخ. في الحد الأدنى، بدأت الصين تخسر قدرتها على الاستفادة من العالم الإيجابي الذي سمح بتقدّمها.

أهلاً بكم في حقبة "ذروة الصين"! بكين قوة رجعية بارزة، وهي تريد إعادة تشكيل العالم. لكن بدأ الوقت الذي تملكه لتحقيق هذا الهدف ينفد. يُفترض ألا يدفع هذا الاستنتاج بواشنطن إلى التراخي، بل العكس صحيح. غالباً ما تصبح القوى الرائدة سابقاً عدائية بعد تلاشي حظوظها وزيادة أعدائها. تتبع الصين اليوم مساراً تكون نهايته مأسوية في معظم الأوقات: بعد صعودها المبهر، سيحين وقت انهيارها المؤلم!

مستنقع اقتصادي

مع انتهاء العصر الذهبي الذي امتد على أربعة عقود من تاريخ الصين، تواجه بكين اليوم نزعتَين بارزتَين تنذران بنهاية صعودها: تباطؤ النمو والحصار الاستراتيجي.

في ظل المشاكل المتراكمة، يسجّل الاقتصاد الصيني راهناً أطول تباطؤ في حقبة ما بعد ماو تسي تونغ. انخفض الناتج المحلي الإجمالي الصيني من 15% في العام 2007 إلى 6% في العام 2019، قبل أن يأتي فيروس كورونا ويجعله أكثر من 2% بقليل في العام 2020. لكن تبقى هذه الأرقام مبالغاً فيها أيضاً، إذ تكشف دراسات كبرى أن معدل النمو الحقيقي في الصين قد يقتصر على نصف النسبة التي أعلنت عنها الحكومة رسمياً.

مع ذلك، لا يعترف الحزب الحاكم بالهزيمة حتى الآن. يأمل الرئيس شي جين بينغ في تجديد النمو السريع عبر الابتكار التكنولوجي، وقد زاد الإنفاق على قطاع البحث والتطوير بثلاثة أضعاف منذ العام 2006. لكن فشلت هذه الجهود في تحسين الإنتاجية، ولا تزال الصين تملك حصصاً صغيرة من الأسواق العالمية في معظم قطاعات التكنولوجيا المتطورة. يتعلق السبب الأساسي بنظام البحث والتطوير الصيني: قد يكون ممتازاً في تشغيل الموارد، لكنه يكبح التدفق الحر للمعلومات والرساميل اللازمة لمتابعة الابتكار. كذلك، من المتوقع أن تتفاقم المشكلة بسبب حملات القمع السياسي المستمرة التي تهدف إلى التشجيع على توحيد الأفكار.

أنفقت بكين مثلاً عشرات ملايين الدولارات على قطاع الرقائق الدقيقة المحلي، لكنها لا تزال تتكل على الواردات لتلبية 80% من حاجات البلد في مجال الحوسبة. وأنفقت الصين أيضاً عشرات مليارات الدولارات على قطاع التكنولوجيا الحيوية، لكن لا تستطيع لقاحاتها المضادة لفيروس "كوفيد - 19" أن تنافس تلك التي أنتجتها الدول الديموقراطية. لن يكون الابتكار كافياً لإنقاذ الصين من تباطؤ النمو، ومن المتوقع أن يزعزع هذا الركود النظام مع اقتراب تهديد آخر: الحصار الاستراتيجي.

حصار من جميع الجهات

لطالما كانت أوراسيا مصيدة موت للطغاة الطموحين، إذ يتعدد الأعداء المجاورون والمستعدون للتعاون مع القوى العظمى الخارجية. طوال أربعين سنة تقريباً، تجنّبت الصين المتوسّعة الحصار الاستراتيجي عبر إخماد طموحاتها العالمية والحفاظ على علاقات ودّية مع الولايات المتحدة. لكن انتهت تلك الحقبة في مرحلة معينة. زادت عدائية بكين في بحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان وأماكن أخرى، فنشرت بذلك مظاهر العدائية في كل مكان.

في آخر خمس سنوات، تخلّت الولايات المتحدة عن التزاماتها وتبنّت سياسة الاحتواء الجديد. نفّذت واشنطن أكبر عمليات التوسّع البحري والصاروخي منذ جيل كامل، وفرضت أسوأ الرسوم الجمركية منذ الحرب العالمية الثانية، وطبّقت أكثر القيود تشدداً في مجال الاستثمارات الخارجية منذ الحرب الباردة، وقد استهدفت هذه التدابير كلها الصين. كذلك، زادت مبيعات الأسلحة والدعم العسكري لصالح الدول على خط المواجهة، وتُهدّد العقوبات التكنولوجية الأميركية بتدمير شركة "هواوي" وشركات صينية أخرى. في العام 2021، اشتكى نائب وزير الخارجية الصيني من إطلاق حملة حكومية واجتماعية كاملة لإسقاط الصين.

أدى انقلاب الولايات المتحدة على الصين إلى نشوء ردة فعل واسعة ضد القوة الصينية. في شمال شرق آسيا، أصبحت تايوان أكثر تصميماً من أي وقت مضى على التمسك باستقلاليتها، وقد وافقت الحكومة على استراتيجية دفاعية جديدة وجريئة قد تُصعّب غزو الجزيرة. في غضون ذلك، وافقت اليابان على التعاون عن قرب مع الولايات المتحدة لدرء العدائية الصينية في المنطقة. من الواضح أن بكين أعطت التحالف الأميركي الياباني طابعاً معادياً للصين بسبب عدائيتها الخاصة.

على صعيد آخر، بدأت الدول في محيط بحر الصين الجنوبي تحتشد ضد الصين. تسعى فيتنام إلى شراء صواريخ متنقلة عبر الشواطئ، ويهاجم الروس الغواصات والطائرات المقاتلة الجديدة والسفن السطحية المسلّحة بصواريخ "كروز" المتقدّمة. كذلك، أصبحت سنغافورة ضمناً شريكة مهمة للجيش الأميركي. وزادت أندونيسيا إنفاقها على الدفاع بنسبة 20% في العام 2020 و21% في العام 2021. وحتى الفيلبين التي تقرّبت من الصين خلال معظم عهد الرئيس رودريغو دوتيرتي بدأت تُكرر مطالبها الآن في بحر الصين الجنوبي وتكثّف دورياتها الجوية والبحرية.

بدأت طموحات الصين تنتج ردود أفعال قوية بعيداً عن منطقة شرق آسيا أيضاً، بدءاً من أستراليا وصولاً إلى الهند وأوروبا. في جميع الأماكن التي تمارس فيها بكين ضغوطها، يحاول عدد متزايد من الخصوم التصدي لها. أصبح "الحوار الأمني الرباعي" (شراكة استراتيجية تشمل أستراليا، والهند، واليابان، والولايات المتحدة) نقطة محورية للتعاون المعادي للصين بين أقوى الديموقراطيات في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ. ويجمع تحالف "أوكوس" الجديد (بين أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة) العالم الأنغلوفوني ضد بكين. تحاول الولايات المتحدة عقد تحالفات صغيرة ومتداخلة لضمــان تفوّق الديموقراطيات المتقدمة في قطاعات تكنولوجيــــة أساسية. في الوقت نفسه، بدأ حلف الناتو ومجموعة الدول الصناعية السبع يشددان مواقفهما بشأن تايوان ومسائل أخرى. لا يزال التعاون ضد الصين قيد التطوير طبعاً لأن عدداً كبيراً من الدول يتّكل حتى الآن على التجارة مع بكين. لكن قد تؤدي هذه الشراكات المتداخلة في نهاية المطاف إلى تطويق بكين.

محاولات أخيرة قبل السقوط

الصين قوة متوسّعة وليست ناشئة، ما يعني أنها اكتسبت قدرات جيوسياسية مدهشة لكن أصبح عصرها الذهبي جزءاً من الماضي. سيكون التمييز بين المفهومَين مهماً لأن الصين لوّحت بطموحات مبهرة لكنها قد تعجز الآن عن تحقيقها من دون اتخاذ خطوات جذرية. يريد الحزب الشيوعي الصيني أن يسترجع تايوان، ويسيطر على غرب المحيط الهادئ، وينشر نفوذه حول العالم. سبق وأعلن شي جين بينغ أن الصين تطمح إلى مستقبلٍ يسمح لها بأخذ زمام المبادرة وفرض هيمنتها. لكن بدأ هذا الحلم يتلاشى تزامناً مع تباطؤ النمو وتوسّع العالم المعادي للصين مع مرور الوقت.

قد يبدو هذا التطور إيجابياً بالنسبة إلى واشنطن لأن احتمال تفوّق الصين على الولايات المتحدة بكل سهولة أصبح ضئيلاً. لكنّ الوضع ليس مُطمئِناً بالكامل. تزامناً مع تفاقم مشاكل الصين، سيصبح المستقبل مليئاً بالتهديدات بالنسبة إلى بكين، وسيطارد شبح الركود جميع المسؤولين في الحزب الشيوعي الصيني، وسيتساءل شي جين بينغ عن قدرته على تنفيذ وعوده الكبرى. يجب أن يشعر العالم بالقلق في هذه المرحلة بالذات.

تصبح القوى الرجعية أكثر خطورة حين تتوسّع الفجوة بين طموحاتها وقدراتها. وعندما تبدأ الفرص الاستراتيجية التي تملكها أي قوة مستاءة بالتراجع، قد تبدو أي محاولة مستبعدة لتحقيق النصر أفضل من مواجهة سقوط مهين. وحين يقلق القادة المستبدون من احتمال أن يقضي التراجع الجيوسياسي على شرعيتهم السياسية، غالباً ما يسيطر عليهم اليأس. أطلقت ألمانيا الحرب العالمية الأولى مثلاً لتجنب أن تُسحَق طموحاتها بالهيمنة على العالم نتيجة التوافق البريطاني الروسي الفرنسي. وأطلقت اليابان الحرب العالمية الثانية في آسيا لمنع الولايات المتحدة من تضييق الخناق على إمبراطوريتها.

تتعدد المؤشرات المقلقة في وضع الصين اليوم، أبرزها تباطؤ النمو، والحصار الاستراتيجي، والنظام الاستبدادي الوحشي الذي يفتقر إلى الشرعية، والنوايا السيئة تاريخياً، والطموحات الرجعية. سبق وبدأت الصين تطبّق الممارسات المتوقعة من أي دولة في وضعها: حشد عسكري متواصل، والبحث عن نطاقات نفوذ في آسيا وما وراءها، ومحاولة السيطرة على التقنيات والموارد المحورية. تستعرض الصين جميع العناصر الأساسية التي توضح الصيغة المستعملة لتعريف العدائية التي تتبناها أي قوة حين تكون في ذروة نجاحها.

برأي عدد كبير من المراقبين، تريد الصين فرض ثقلها في كل مكان اليوم لأنها تثق بتقدّمها المستمر. يظن شي جين بينغ على ما يبدو أن أزمة كورونا ومظاهر الفوضى السياسية في الولايات المتحدة أطلقت فرصاً جديدة لإحراز التقدم. لكن يبرز في الوقت نفسه احتمال أقرب إلى الواقع، وهو الأكثر خطورة: ربما يُصِرّ القادة الصينيون على تسريع مسارهم اليوم لأن الوقت بدأ ينفد. ما الذي يحصل حين يستنتج البلد الذي يريد إعادة تنظيم العالم أنه يعجز عن تحقيق هذا الهدف بطريقة سلمية؟ لا يبدو الجواب إيجابياً بناءً على التجارب التاريخية وتصرفات الصين في الوقت الراهن...


MISS 3