تكشف الإحصاءات صحة هذا التقييم. يدخل خمسة ملايين مراهق أميركي إلى "فيسبوك" يومياً، مقارنةً بـ22 مليوناً إلى "إنستغرام" وفق المعطيات المسرّبة. حتى أن عدداً كبيراً من المراهقين يعتبر "فيسبوك" وجهة أهاليهم للتجادل حول السياسة، أو أجدادهم لنشر صور عطلتهم. يصعب أن يرغب أبناء الجيل الجديد في استعمال منصة يطغى عليها الكبار، لذا من المنطقي أن يتخلوا عنها ويتجهوا إلى "تيك توك" أو "إنستغرام". (تستطيع شركة "فيسبوك" أن تؤاسي نفسها لأنها تملك "إنستغرام" و"واتساب" أيضاً).
يُفترض أن يتغير رأينا حول تأثير هذه الشركة، ومواقع التواصل الاجتماعي عموماً، على المجتمع بعد سيطرة كبار السن على "فيسبوك". لا تتعلق المشكلة بفئة الشباب. قد يكون المراهقون أكثر تأثّراً بضغوط نظرائهم والعدوى الاجتماعية التي تدعو إلى الانتحار وإيذاء الذات، لكن شملت "ملفات فيسبوك" دراسة داخلية حول الصورة (السلبية) التي تحملها الفتيات المراهِقات عن أجسامهنّ. في المقابل، يُسبّب "تيك توك" و"يوتيوب" على ما يبدو مرضاً اجتماعياً كان يُسمّى في السابق "الهستيريا الجماعية" في إطار الجماعات السكانية نفسها. لكن لم تعد شركات التواصل الاجتماعي جديدة، ولم يعد مستخدموها حديثي العهد. كما أن التركيز المفرط على الشباب الذي يكون سريع التأثر بمحيطه قد يخفي أبحاثاً أخرى، منها دراسة جرت في العام 2019 ومفادها أن الناس فوق عمر الخامسة والستين هم الأكثر ميلاً إلى نشر روابط لمواقع فيها أخبار مزيفة. في مطلق الأحوال، تؤثر مواقع التواصل الاجتماعي على جميع الناس.
يكون الشباب الذي لم يعرف عالماً يخلو من مواقع التواصل الاجتماعي أكثر قدرة على تقبّل سلبيات هذه المنصات. لاحظ أحد الباحثين في شركة "فيسبوك" أن الأولاد الأكبر سناً ينصحون من هم أصغر منهم بعدم نشر أي مواد قد يندمون عليها لاحقاً. يقترح هذا الباحث إجراء دراسات أخرى لفهم مدى شيوع هذه النزعة وسط الأولاد قبل سن المراهقة. إذا كان المراهقون يميلون فعلاً إلى منع الأولاد الأصغر منهم من نشر مواد معينة، فلا مفر من ظهور تداعيات واضحة من حيث الابتكار والنظام البيئي العام في الشركة على المديين القريب والبعيد، لأن الأولاد قبل سن المراهقة يمثّلون الجيل المقبل الذي سيبدأ استعمال المنصة.
لم ينشأ "فيسبوك" في الأصل لنشر تفاصيل حياة المراهقين. ربما ابتكر مارك زوكربيرغ الموقع الذي سبقه لمساعدة طلاب جامعة "هارفارد" على تقييم مدى جاذبية الناس في المهاجع المجاورة، لكن أصبح "فيسبوك" اليوم طريقة للتواصل مع أي فردٍ لم يعد جزءاً من حياتنا الراهنة: رفقاء سكن، زملاء سابقون، الثنائيات التي اختفت من الحفلات منذ أن أسست عائلاتها الخاصة... يهدف "فيسبوك" جزئياً إلى معرفة أخبار أشخاصٍ كنا نعرفهم سابقاً، لكن يتراجع هذا النوع من المعارف في حياة أي مراهق يبلغ 15 عاماً.
تدرك الشركة جيداً حقيقة هذا التحول في نوعية مستخدميها وعواقبه المحتملة. تُعتبر الوثائق التي تُفَصّل محاولات الشركة ابتكار منتجات بديلة لأصغر المستخدمين من أكثر الأجزاء المريبة في "ملفات فيسبوك". يمنع القانون الأميركي جمع البيانات عن مستهلكين تحت عمر الثالثة عشرة، لذا تعجز شركات التواصل الاجتماعي عن تشجيع الأولاد قبل سن المراهقة على استخدام منصات الراشدين أو تقبّل نشاطاتهم. لهذا السبب، ناقش موقع "إنستغرام" فكرة تطوير منصة للأولاد بين عمر العاشرة والثانية عشرة لأن "الأولاد يستعملون الإنترنت أصلاً" كما يقول رئيس المنصة آدم موسيري. لكن سبق وتوقف هذا المشروع بسبب ردود الأفعال الشاجبة.
لكن لا تقتصر الأفكار المرتقبة على الأولاد في عمر العاشرة فحسب، بل تشمل "ملفات فيسبوك" تقريراً داخلياً من العام 2019 بعنوان "استكشاف مواعيد اللعب كرافعة للنمو"، وهو يُركّز على تطبيق اسمه Messenger Kids للأولاد بين عمر السادسة والثانية عشرة وفيه أدوات قوية للرقابة الأبوية. حاول التقرير تقييم نزعة الأولاد إلى ترويج التطبيق أمام الآخرين خلال مواعيد اللعب، واكتشف أن 68% منهم لا يروّجون له لأن أهاليهم يعتبرون ذلك التطبيق طريقة كي يتواصل الأولاد في ما بينهم حين لا يتواجدون سوياً.
لا تحاول الوثائق المتعلقة بمشاريع الشركة المحتملة إخفاء فرضياتها الأساسية لأنها مُعدّة للاستخدام الداخلي. في الحالة المثلى، تريد شركة "فيسبوك" أن ينضم المستخدمون إلى "نظامها البيئي" في أسرع وقت ثم يتابعوا استعماله طوال حياتهم. كما أنها ترغب في ترسيخ عادات كفيلة بتحويل الأولاد قبل سن المراهقة إلى عملاء أبديين. هذه الاستراتيجية ليست فريدة من نوعها طبعاً ولا يمكن اعتبارها غير أخلاقية بالضرورة، لكنها لا تبدو إيجابية عند التعبير عنها علناً.
قال المذيع براين ستيلتر على قناة "سي إن إن" لنائب رئيس "فيسبوك" في الشؤون العالمية والاتصالات، نيك كليغ: "يشعر جزء مني الآن بأنني أجري مقابلة مع رئيس شركة تبغ". اعتبر كليغ هذه المقارنة "خاطئة جداً"، وقد أثارت قلقه نظراً إلى سهولة انتشار هذا النوع من الأفكار. لكن يسهل تشبيه التدخين بأي هواية رائجة لها آثار جانبية سلبية وتُسوّقها شركات تسعى إلى جذب الشباب في أسرع وقت. في المقابلة مع قناة "سي إن إن"، قال كليغ إن الوثائق المسرّبة تثبت أن شركة "فيسبوك" تأخذ المشاكل التي تواجهها منصاتها على محمل الجد عبر إطلاق أبحاث حولها، ثم اعترف بأن المنصة تشمل مظاهر إيجابية وسلبية وتعكس الجوانب القبيحة من البشرية، لذا تقضي مهمة الشركة بتقليـــص السلبيات وتضخيـــم الإيجابيات. برأيه، يستخف النقاد بإيجابيات مواقع التواصل الإجتماعي: "لا بد من وجود سبب وجيه لتفسير ما يدفع ثلث سكان العالم إلى استخدام هذه التطبيقات. هم يستعملونها لأنهم يريدون تبادل آرائهم ومشاعرهم".